نحو نظام اقتصادي أخلاقي عادل
قراءة في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر البركة الإقليمي الرابع 2025
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
مؤسسةٌ هي الكلمةُ التي ألقاها سعادة الأمين العام لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامي في فاتحة المؤتمر الإقليمي الرابع الذي أقيم يوم الثلاثاء الموافق 28 يناير بدولة باكستان بعنوان “الصكوك من أجل التنمية المستدامة .. أفضل الممارسات الدولية”.
لقد تناول سيادته في كلمته الوضع الراهن للاقتصاد المعاصر، الذي يبدو مزينا بالنمو والتقدم وهو في جوهره متخم بالديون والأزمات المزمنة، والسعار حول تحقيق الربح في عالم بات صفريا من حيث تقدير القيمة؛ إن في مجال الاقتصاد، أو في غيره من مجالات الحياة، منوها بتفرد الاقتصاد الإسلامي وعنايته الكبرى بقيم العدالة في تأسيس الاستثمارات من خلال المشاركة والتضامن في نتائج العملية الاستثمارية ليحصل كل طرف من الأطراف على ربحه عند مستوى العدل.
وقد تطرق في كلمته المؤسسة إلى أن مثل هذه القيم لا تجد لها صدى ولا ترددا في المجتمعات الغربية، فلا تكاد هذه القيم تطرح في محفل من المحافل الاقتصادية، في واحدة من تلك البلاد التي تعتمد الربح والربح فقط؛ لا تكاد تطرح كلمات مثل العدالة والشراكة في الربح والخسارة حتى تظهر التساؤلات، ويطفر العجب على مسرح الحديث، وكأنها كلمات لا تجد لها معنى في المعاجم الإنسانية قبل المعاجم الاقتصادية.
إن الاقتصاد العالمي في يومنا هذا قام وتأسس ورفع أركانه على أساس الربح؛ والربح بأي طريقة من الطرق هو غايته وهدفه، بصرف النظر عن الأصل أو المبدأ الذي يقف وراء هذا الربح، ولذلك يهتبل جميع الفرص لاقتناص الربح بأي وسيلة كانت، لا حدود ولا قيود إلا أن تتواطأ القوانين على منع هذا النشاط أو ذلك!
ومع الأسف الشديد قد استاغ أصحاب رؤوس الأموال هذه الطريقة وجرى التعامل عليها، بل أصبحت جزءا لا يتجزأ من العمليات الاستمارية والطريق الرئيس لتمويل المشروعات، وماذا عن النتيجة: إن النتيجة كما يراها سعادة الأمين العام “جبال من الديون تفوق في عظمها كل التصورات، وتقف عند أدناها كل التقديرات”.
لقد ولَّدت النظم التمويلية التقليدية شلالا منهمرا من العمليات الاستثمارية القائمة على الديون التي لم تقف عند حدود جغرافية محددة، بل تتابع سيلها حتى شمل جميع الدول، الغني منها والفقير، وصارت هذه المشكلة مشكلة مزمنة لا يمكن للاقتصاديات المعاصرة أن تتخلص منها بفضل الحل التقليدي القائم على اقتراض المزيد وطباعة المزيد؛ ليزداد التضخم وتستمر المشكلة في حلقة مغلقة، ولتتولد قيم معاصرة من الإدارة الاقتصادية أساسها اللامبالاة إزاء هذه المشكلة، وحتى رؤساء هذه الدول العظيمة أصبحوا يتجاهلون هذه المشكلة؛ نظرا لضخامتها وحاجتها إلى مزيد من السنوات، تفوق في احتياجاتها طاقة مدة رئاسية أو مدتين.
ونتيجة ذلك أنه لا توجد برامج فاعلة لعلاج هذه المشكلة، ولا يوجد حل سوى الحل التقليدي، اقترض، ثم اقترض، واطبع مزيدا من النقود الورقية، وارفع من سقف جبال الديون العالمية!!!
ما الحل إذا….
الحل في أدوات الاقتصاد الإسلامي القائمة على قيم العدالة والمساءلة والشفافية والمشاركة، كما يقرر سعادة الأمين العام حلا للخروج من هذه الدائرة، التي جعلت العالم بلا قيمة، وينوه بجدارة الصكوك الإسلامية – كواحدة من أهم أدوات الاقتصاد الإسلامي – في تحقيق هذا الغرض، حيث تبرهن هذه الصكوك على قدرة هذا الاقتصاد على التكيف والتماهي والتطور المستمر، فهي أداة إسلامية خالصة تم تطويرها من قبل خبراء الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث، وإن كانت قد استلهمت بعض التطبيقات القديمة التي أُثرت عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم مضى بها التاريخ على ما هو معلوم في مظانه، حتى ظهرت في العصر الحديث بطاقات هائلة ومرونة منقطعة النظير تجعلها أداء استثنائية في حشد رؤوس الأموال وبناء المشروعات الضخمة، سواء منها ما يخدم شرائح معينة ويقوم على أساس الربح، أو ما يخدم جميع أفراد الأمة ممثلا في المرافق العامة.
ويشدد سعادة الأمين على أهمية ألا نهوِّل من شأن التحديات والعقبات التي تحول دون تعظيم دور هذه الصكوك، فكل مبادرة ملهمة تحمل في طياتها تحديات تناسب حجم النجاح المتوقع من ورائها، ولهذا يتوجه بضرورة مواجهة هذه التحديات من خلال تضافر الأجهزة القانونية والاقتصادية والسياسية، والعمل الجاد على توظيف الأدوات العادلة التي تبشِّر بمستقبل مشرق وريادة جديدة للتمويل الإسلامي الأخلاقي التنموي، الذي يحقق الوفرة والرخاء والاستقرار والسعادة لكل البشر.
لا بديل عن التمويل الإسلامي بأدواته العادلة:
إن ما سبق عرضه من واقع التمويل العالمي القائم على القروض والديون، واللامبالاة حيال هذه النتائج هي حقيقة تؤدي إلى ما قرره سعادة الأمين العام “لا يوجد حل آخر سوى التمويل الإسلامي”. إن النظام الرأسمالي الحالي يقوم بدور حاسم في تمويل المشروعات، ولكنه يقوم على أساس يضع له حصانة تحول بينه وبين الخسارة المحتملة، خاصة في تمويل الشركات الناشئة “Startups” حيث يكون للممول حرية الاختيار بين البقاء دائنا مع ملكية أصل الدين والفائدة المتفق عليها، أو تحويل ديونه -إذا تلمح نجاح الشركة- إلى أسهم ممتازة تتيح لصاحبها جني المزيد من الحقوق والامتيازات عن أصحاب الأسهم العادية؛ كأولوية الحصول على الربح، وأولوية استرداد رأس المال قبل المساهمين العاديين، وقبل سداد ديون الشركة، إلى غير ذلك.
ومع هذه التحديات المعاصرة، ومع تقرُّر واجب التنمية والاستدامة اللذين يعرفهما الاقتصاد الإسلامي، فإننا يجب أن نعمل على إيجاد طريقنا الخاص القائم على أسس الاقتصاد الإسلامي ومبادئه الشرعية في الاستثمار والإنتاج، على أساس التمويل التشاركي العادل الأخلاقي.
إننا لسنا عاجزين ولا متخلفين وإن نظرة فاحصة لكبرى المؤسسات المالية في مختلف دول العالم، حتى في بلاد الغرب؛ تطلعنا بوضوح على مدى ثرائنا وتمتعنا برأس مال بشري قدير، وآية ذلك أن معظم قادة هذه المؤسسات المالية الغربية والناهضين بمسيرتها؛ من بلادنا الإسلامية.
وهذا يعزِّز من واجبنا ويحتِّم علينا العمل على الخروج بحلول اقتصادية عادلة وأدوات مستدامة تحقق التنمية الحقيقية وتقضي على دائرية الدين الممتدة مع امتداد الزمن.
وقد خَتَم سيادته منوِّهًا بدور “منتدى البركة للاقتصاد الإسلامي” في تعزيز دور التمويل الإسلامي وأدواته المعاصرة، وفي تحقيق الاستدامة من خلال هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات، مُعربًا عن أمله في استمرار هذا التعاون البناء بينه وبين مؤسسات الاقتصاد الإسلامي في باكستان على مدار العام.
وقد جاءت هذه الكلمة الفريدة على هامش مؤتمر البركة الإقليمي الرابع الذي أقيم يوم الثلاثاء الموافق 28 يناير بدولة باكستان بعنوان “الصكوك من أجل التنمية المستدامة .. أفضل الممارسات الدولية” وقد استهدف المؤتمر ما يلي:
- استكشاف دور وأهمية الصكوك في تمويل التنمية الوطنية والمشاريع المستدامة.
- عرض وتحليل أفضل الممارسات والتحديات الدولية المتعلقة بإصدار الصكوك.
- تسليط الضوء على الجوانب الفنية والعملية لهيكلة الصكوك والجوانب الشرعية والتنظيمية.
وقد مثَّل المؤتمر فرصة ثمينة لمناقشة قضايا توظيف الصكوك في تحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ الاقتصاد القائم على المساءلة والمشاركات الاقتصادية العادلة، من خلال أطروحات ومناقشات لفيف من كبار المسؤولين الحكوميين والمستثمرين والمصرفيين وغيرهم من أصحاب المصلحة، كما وفَّر منصة لتبادل أفضل الممارسات وتطوير أفكار جديدة حول استخدام الصكوك لتمويل مشاريع التنمية المستدامة، إضافة إلى أنه يمثل خطوة أساسية في زيادة الوعي بإمكانيات الصكوك في التنمية المستدامة، وتعزيز تطوير هياكل أكثر توحيداً للصكوك وزيادة الشفافية والإفصاح في سوق الصكوك.
وينسجم هذا المؤتمر مع أهداف منتدى البركة للاقتصاد الإسلامي في تعزيز التعاون والشراكات الإقليمية، لتبادل الخبرات حول أبرز القضايا المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته المختلفة، وجمع كبار الخبراء وصنّاع القرار وأصحاب المصلحة؛ لتبادل أفضل الممارسات وتطوير الأفكار، وبناء جسور التعاون والتفاهم بين الدول والمؤسسات في العالمين العربي والإسلامي، من أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وشاملة في المجتمع.
فنرجو لهذه المؤسسة الرائدة دوامَ التوفيق وتحقيق المرجو من وراء هذه الفاعلية العظيمة، التي تؤكِّد على أن الاقتصاد الإسلامي اقتصادٌ أخلاقيٌّ متميزٌ في منطلقاته الفكرية، وأدواته العلاجية، ورؤيته للمشكلات، وبالأحرى في طريقة وآليات العلاج.