هل يوجد علم اقتصاد إسلامي؟
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
“الاقتصاد الإسلامي هو منهج الإسلام في تنظيم النشاط الاقتصادي باستخدام الإنسان لما استُخلف فيه من موارد لسد حاجة المجتمع والفرد؛ التزامًا بأحكام الشريعة الإسلامية”.
الرائد صالح كامل رحمه الله
أولى خطوات البحث في الاقتصاد الإسلامي، والتي تتعلق بالإجابة عن هذا السؤال المحوري، هي البحث في علاقة الإسلام بالاقتصاد، هل تضمَّن توجيهاتٍ تتعلق بالأنشطة الاقتصادية: افعل هذا لا تفعل ذلك؟ هل تضمن تخصيص موارد لجهات معينة؛ فوجه هذه الكمية لتلك الطائفة، وتلك لهذه؟ هل تضمن أهدافا معينة ربط بينها وبين الأنشطة التي نظمها؟ هل وضع سياسات أو خطوات ومؤسسات لتحقيق هذه الأهداف؟ هي ينطوي على نظرية معرفية تحدد المنطلقات، وترسم التصورات، وتحدد اتجاهات العلاقات الاقتصادية وحدودها وأسسها المذهبية؟ هل يوجد له فروض ومبادئ للتحليل الاقتصادي؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بعلم الاقتصاد والتي يقوم عليها.
إن الظن أن حسم قضية وجود علم للاقتصاد الإسلامي أم لا يتوقف على الإجابة عن هذه الأسئلة، وما من شك في أن النظام الاقتصادي الإسلامي قد وُجِد، سواء من خلال المؤسسات التاريخية أو من خلال التطبيق المجتمعي لنظم المعاملات الإسلامية والأنشطة الاقتصادية اليومية التي تتم وفقا لأحكام الشرعية، وهذا يعني أن لدينا أسسا مرجعية ومذهبية وقواعد منظمة وفروضًا نظرية، أي نظرية اقتصادية وعلم اقتصاد إسلامي، ومع الأسف، وبسبب قرب العهد بتدوين هذا العلم، والقصور في الاطلاع عليه واختباره؛ ظن كثير من الدراسين للاقتصاد الوضعي أن عملية صياغة علم الاقتصاد الإسلامي عبارة عن محاكاة وتقليد للاقتصاد الغربي ومن ثم فلا حاجة إليه، لأننا سنعود بشكل أو بآخر إلى هذا العلم. وربما ظن بعضهم -ظن السوء- أن الاختلاف سيكون بناء على تعسُّفات علمية، وخداع منهجي يقوم على أساس نتائج مسبقة لا على أساس دراسة واعية. وبعضهم يظن أن ما يكتب في هذا الشأن لا يعدو أن يكون جملة من المواعظ، بعيدة -كل البعد- عن التحليل العلمي والإطار المنهجي الذي تُبنى عليه العلوم ونتائج البحوث.
ولهذا كانت هذه الخطوة ضرورية؛ لنقرِّر بوضوح أن هنالك اقتصادًا إسلاميًّا على مستوى النظرية، والنظام، والسياسات، أما على مستوى النظرية؛ فلا يخفي على أحد اختلاف المنطلقات التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، والتي تحدد علاقة الإنسان بالكون والحياة والموارد، بأنها علاقة صداقة واستخلاف على الموارد، تقتضي إعمار الأرض وإسعاد البشرية في ظل التوازن بين الروح والجسد على المستوى الفردي، وبين الفرد والمجتمع على المستوى الاجتماعي، وبين المسلم وغير المسلم على المستوى الإنساني، وهذه قواعد لا توجد في الرأسمالية ولا الاشتراكية، حيث ركنت كل منهما إلى قيم مذهبية، تختلف عما يوجد في الإسلام، وتختلف عما يوجد في كل منهما.
وفي جانب المؤسسات، فقد عرف التاريخ مؤسسات اقتصادية إسلامية؛ كمؤسسات الزكاة، والخراج، والسوق، والرقابة عليها المتمثِّلة في الحسبة، ومؤسسة الدعم الزراعي (الإحياء والإقطاع)، والضمان الاجتماعي (الإرفاق والحمى)، والأوقاف، التي حملت أعباء التنمية في شتى مستوياتها على مدار دهر طويل. ثم نُظُم وطرائق المعاملات العادية اليومية التي ترتبط بسياج الشريعة التي يقوم عليها النظام السياسي بعامة، والذي يصدر القوانين ويضع التشريعات الاقتصادية وفقا لأحكام الشريعة، ولا يهم -إطلاقا- بُعد العهد بهذه المؤسسات؛ لأن المؤسسات والنظم تصنعها الأفكار والنظريات، فإن وجدت هذه وجدت تلك إذا جدَّ السعي إلى إيجادها.
وقد جد علماء المسلمين في وصف الظواهر الاقتصادية فجاؤوا ببحوث كثيرة ضمَّنوها مؤلفات مستقلة، أو وضعوها ضمن الإطار الفقهي الذي شكل أمَّ الدراسات الإنسانية للمسلمين على مدار زمانهم، واشتملت بحوثه على مختلف القضايا النظامية والعملية، بل تطرقت بعض كتبه إلى تنظيمات الدولة كما في كتب “الأحكام السلطانية”، إلى جانب كتب العقيدة التي تعرضت بالدراسة لمختلف القضايا الفكرية والمعرفية.
وضمن بحوثهم، استخدم علماء المسلمين المناهج المختلفة في التحليل الاقتصادي، وتناولوا الظواهر الاقتصادية مستخدمين المناهج المختلفة بحسب الحاجة والمناسبة بين المنهج والظاهرة، فاستخدموا الاستقراء والاستنباط، وكان الحس والواقع التجريبي عمدتهم في اختبار الفروض النظرية؛ لتقرير صحتها من بطلانها، وكانت بحوثهم هي الأرضية التي انطلق منها علم الاقتصاد الحديث.
ويتحصل من ذلك أن لدينا اقتصادًا إسلاميًّا ذا نظرية معينة، وتشريعات ونظم، وآليات بحثية لوصف الظاهرة وعلاجها، وفقًا لما يتقرَّر من سياسات في ضوء الأهداف والمبادئ، والتجربة التاريخية.
وقد رد الشيخ صالح كامل رحمه الله على هؤلاء الذين اختزلوا نموذج الاقتصاد الإسلامي في تحريم الربا، أو في أحسن الأحوال في تأسيس البنوك الإسلامية فقال رحمه الله: “لقد حصر الكثيرون الاقتصاد الإسلامي في منع الربا وقيام البنوك الإسلامية، وهو مفهوم ضيِّق؛ فالاقتصاد الإسلامي هو منهج الإسلام في تنظيم النشاط الاقتصادي باستخدام الإنسان لما استُخلف فيه من موارد لسد حاجة المجتمع والفرد؛ التزامًا بأحكام الشريعة الإسلامية. وبالتالي فإن مجاله ونطاقه هو المدى الواسع للأنشطة الاقتصادية، ما كان منها معروفًا وما سوف يُستحدَث مستقبلًا“. ثم يضع إطارا متكاملا من خلال دراسته للاقتصاد الإسلامي ألخصه فيما يلي:
- النظريات المذهبية؛ مثل: نظرية الاستخلاف في المال، وأن المال مالُ الله، نعمل فيه طبقًا لأوامره ونواهيه.. إلى غيرها من نظريات تنظم الجوانب الاقتصادية.
- التكليفات العملية؛ مثل: التكليف بإعمار الأرض، والعمل -وهو في نظر الإسلام جزء من العبادة وغيرها من التكليفات الإعمارية.
- التشريعات الاقتصادية؛ كفرض الزكاة التي جعلها الله الركن الثالث في الإسلام؛ حتى تكون هناك رقابة ذاتية منبعثة من داخل الفرد تحثُّه على أدائه بتقـــوى، وكل ما في الزكـــاة من حكـــم كأحسن محفّـــز اقتصادي لسلوك خطـــة تنمويـــة يعجز العقل البشـــري عن وضع مثلهـــا.
- تحريم المعاملات الاقتصادية الضارة، مثل: تحريم الربا؛ لمضاره الاجتماعية والاقتصادية.
- تنظيم الجوانب المتعلقة بالعمل والتنمية؛ وذلك في ظل المعاملات الفقهية؛ التي تضمنت أمورًا يَدِقُّ اكتشافها على عقول مشرعي البشر في العصر الحديث والإسلام قد وضعها منذ أربعة عشر قرنًا، وبهذا تضع أطرا تنظيمية لتنسيق جهود التنمية.
- أخلاقيات السلوك الإسلامي؛ مثل الصدق، والوفاء، والعدل، والإخاء، والمحبة، والتعاون، والتقوى، وكل هذه الأمور عندما تبسط لغير المسلمين يقفون أمامها مذهولين من هذه الحِكم التي لم تغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصتها.
هذا مع الإشارة إلى مبدأ الإسلام في تحقيق التوازن بين الثابت والمتغير، وذلك بوضع القواعد العامة المهيمنة، وترك التفصيلات التي لا تؤثِّر في الجوهر؛ لكي تتلاءم مع كل زمان ومكان(1).
ماذا عن الاقتصاد الوضعي؟
إن الاقتصاد الوضعي مبنيٌّ على جوانب مختلفة منها : الفكر، ومنها: التحليل، أما الفكر فهو نتاج البيئة والمجتمع، الذي نشأ فيه هذا الاقتصاد وحصيلة التطورات التي حصلت بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن ثم فهو ابن هذه البيئة ونتاج التغيرات الاجتماعية التي حصلت آنذاك، وفي بعضه حق وفي بعضه جموح وشطط، ومثل هذا الفكر لا يهم كثيرا إلا باعتباره تاريخا أو مدخلا للتعرف على هذه النظم لفهمها واستيعابها وضمان إصدار أحكام سليمة حيالها، وقد يفيد في المقارنة بين النظام الإسلامي وهذه النظم؛ لربط النتائج بأسبابها ومنطلقاتها.
وأما التحليل فهو مبادئ موضوعية للقياس والوصف، وهي ليست ملكًا لعلم على حدة، ولا تنتمي لطائفة دون سواها .. هي أدوات إنسانية أبدعها الإنسان على مدار تاريخه وصححتها التجارب المتنوعة، وهي تستخدم لوصف الظاهرة كيفما كانت، وجلُّ هذه الأدوات استخدمه المسلمون على مدار تاريخهم بل هم أصحاب الفضل في نقله إلى غيرهم.
يقول الفيلسوف جوستاف لوبون: “إن تأثير العرب في الغرب عظيم أيضاً، وأن أوربا مدينة للعرب بحضارتها… والحق أن القرون الوسطى لم تعرف كتبَ العالَم اليوناني القديم إلا من ترجمتها إلى لغة أتباع محمد، وبفضل هذه الترجمة اطلعنا على محتويات كُتب اليونان التي ضاع أصلها“(2).
لا يمكن -إذًا- نسبة هذه التراث للغرب بأكثر من نسبته للشرق، ولا زال البحث في أصول الاختراعات ينسب أصولها إلى غير من اشتهرت نسبته إليه، وهذه طائفة من أقوال علماء التاريخ والاجتماع تؤكد على هذه الحقيقة:
- قال هنري بيرين 1862–1935 م: “إن عصر النهضة والثورة الصناعية لم يكونا قطيعة مفاجئة مع الماضي بل تطورات متجذرة في العصور الوسطى”.
- وقال جورج سارتون 1884–1956: “إن العلم الحديث هو ثمرة نمو متواصل بدأ بإنجازات العلماء القدماء وعلماء القرون الوسطى”.
- وقال برتراند رسل 1872–1970 م: “إن كل تقدم في الحضارة إنما بُني على أسس وضعها من سبقونا”.
- وقال آر. جي. كولنغوود في 1889–1943 م: “إن ما يبدو اختراعًا في الحقيقة ليس سوى مرحلة جديدة في عملية تطوُّر طويلة”.
- وقال لويس مامفورد 1895–1990 م: “إن التكنولوجيا الحديثة لها جذورها في العصور الوسطى لا في الثورة الصناعية”.
إن العلوم الإنسانية سلسلة متصلة من العطاءات، تمتد لأبعد الأزمنة، ولا يعني اشتهار قوم بها أنهم هم الذين أوجدوها من العدم، والأخذ منها حقٌّ لغيرهم ما دامت صفة الإنسانية هي الصفة الغالبة عليها. فلا بأس في أن يأخذ علم الاقتصاد الإسلامي من علم الاقتصاد الوضعي ويعتمد على بعض فروضه في تحليله للجوانب الاقتصادية. لكن هذا لا يُلغي مهمة العقل الإنساني المسلم في اختبار صدق وقياس مدى تطابق هذه الفروض مع الواقع، اعتمادًا على العقل والحس؛ ليثبت لنا مدى صدقها من زيفها، ومدى ملاءمتها لتحليل الظواهر الاقتصادية أم لا ، في ظل أحكام الواقع وتجاربه المختلفة التاريخي منها والمعاصر.
إذا وصلنا إلى هذا القدر وقررنا تكوين النظرية الاقتصادية الإسلامي معتمدين على المصادر الأساسية للمعرفة، والتي تتمثل في الوحي والعقل والحس، ضّمِنّا استيعاب الاقتصاد الإسلامي لمناهج الاقتصاد الوضعي التي تعتمد على العقل في وضع الفروض، وعلى الحس في اختبار صدقها بمقارنتها بالواقع بعد الإلمام به إلمامًا سليمًا، هذا مع وجود ميزة نسبية للاقتصاد الإسلامي حينما تكون الفرضية الاقتصادية واردة من الشرع، أو يضع النموذج الأمثل للسلوك الاقتصادي، لأن القرآن الكريم هو أعلى مصادر المعرفة صدقا.
والإحاطة بالمناهج المعاصرة والإسهامات الإنسانية أم له مبرر شرعي، في ظل الأمر بتعلُّمها كأثر من آثار الأمر بإعمار الأرض، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: “وما عُلم بالعقل وحده فهو من الشرعية أيضا؛ إذا كان علمه مأمورًا به في الشرع”(3).
وإن الاعتماد على هذه المناهج ليس استعارة لها، ولا تقليدا أعمى، بل هو استعمال لأدوات إنسانية، وسيرًا على خطى النهضة العلمية التي أحدثها علماء الإسلام في بلدان المسلمين وفي العالم بأسره، وهو اتباع لمناهجهم في البحث والفكر، وجريٌ على مقتضى طبائع الأشياء باختيار المنهج المناسب للظاهرة محل الدراسة:
يقول ابن خلدون -رحمه الله-: “اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار -تحصيلًا وتعليمًا- هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إِليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه.
والأول: … يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر.
والثاني: هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول”(4).
فمع استخدام المناهج المختلفة البسيطة والمركبة لدراسة الظواهر الاقتصادية -على حسب طبيعة الظاهرة- يمكن كتابة النظرية الاقتصادية الإسلامية، وهي نظرية ليس المسلمون وحدهم من يحتاج إليها، بل العالم كله في حاجة إليها؛ للخروج من بؤسه وشقائه الذي جره عليه اتباعه لفروض علم الاقتصاد الوضعي، دون دراية بمدى مناسبته للبيئة والمجتمع ومدى صدق هذه الفروض أو موضوعية هذه التوجهات.
بقي وجود المؤسسات والسياسات وهذه تأتي تبعا للنظرية، فإن وجدت النظرية صحيحة سليمة مطابقة للواقع وجدت مؤسسات قوية فاعلة مستدامة، والعكس بالعكس، وقد أوجدت التطبيقات المعاصرة كثيرًا من المؤسسات التي تعمل بالشريعة الإسلامية، ليس فحسب داخل بلاد المسلمين، بل خارج هذه البلاد، وكانت داعمًا لانتشار التمويل الإسلامي في ربوع العالم واعتماد صيغه كصيغٍ تنموية مستدامة.
وإن دور الدولة المحوري في الاقتصاد الإسلامي سوف يسهم بشكل كبير في بناء المؤسسات الفاعلة، بعد أن تصوغ أهدافها التنموية وخططها الاقتصادية، بناء على نظرية اقتصادية واضحة، تمكِّنها من وضع سياسات واختيار آليات، تطبق مبادئ الاقتصاد الإسلامي وتحقق أهدافه. وهذا فضلا عن دور الدولة في تشجيع القطاع الثالث، وتوجيه القطاع الخاص إلى المشروعات الأكثر جدوى من الناحية الاجتماعية. وسوف يرحِّب المسلمون بهذه التوجهات ويدعمونها وسوف تنشط الأعمال اعتمادًا على الرقابة المزدوجة، من ضمير الفرد ومن الدولة على حد سواء.
وبهذا نكون قد أجبنا على السؤال الذي تصدر هذه المقالة: نعم يوجد اقتصاد إسلامي.
(1) تجربة صناديق الاستثمار كنموذج للعمل المصرفي الإسلامي، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 17جمادى الأولى ١٤١١هـ / ٤ ديسمبر ١٩٩٠م، ضمن الأعمال الكاملة (ص 836).
(2) حضارة العرب، غوستاف لوبون (ص: 586 – 587).
(3) مجموع الفتاوى (19/ 233).
(4) المقدمة، تحقيق خليل شحادة (ص 549).