دور الإنفاق في تعزيز النمو الاقتصادي من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي

بقلم الدكتور/ محمد النوري
أستاذ وخبير في الاقتصاد والتمويل الإسلامي

يرتكز نموذج النمو من منظور اقتصادي إسلامي على محركات ثلاث: وهي:

  1. الإنفاق،
  2. والتبادل،
  3. والملكية.

وهذه المحركات الثلاث تشمل ضمنيا تلك المحركات التي تقوم عليها نماذج ومناويل النمو في الاقتصاد التقليدي، مثل: الاستهلاك، والاستثمار، والتصدير، ولكنها تتميز عليها بطابع الشمولية، والتكامل، والمسؤولية الاجتماعية، وهذا ما يجعل مصطلح الإنفاق أكثر اتساعا وفاعلية من مصطلح الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي. فهو يلعب دورا بارزا في الاقتصاد الإسلامي، ويشكِّل منظومة شاملة ومتكاملة تفوق دور الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي، الذي ترتكز عليه النظرية الكينزية وتعدّه ركنا رئيسيا لتعزيز النمو وتحقيق التوازن.
فالإنفاق في الاقتصاد الإسلامي يتعدى الاستهلاك والقطاع الربحي؛ ليشمل إلى جانب ذلك القطاع غير الربحي. فهو يتعلق بكل عمليات صرف الأموال، ويتقيَّد بالضوابط الشرعية، واجباً كان أم مستحبّاً، خاصّاً كان هذا المال أم عاما. وبالتالي فهو يشمل بالإضافة الى النشاط الإنتاجي والاستهلاكي والاستثماري كلَّ أعمال الخير بشتى أنواعها.
كما يشمل إنفاق الوقت من أجل القيام بمصالح الآخرين دون مقابل، ويشمل إنفاق الجهد البدني من أجل فعل الخيرات وتقديم المساعدة للمحتاجين، إلى جانب إنفاق الجهد الفكري والعقلي؛ كتعليم الناس، والبحث من أجل إيجاد الحلول العلمية لبعض المشكلات دون مقابل. ولا يقتصر معنى الإنفاق -مثلما هو رائج- على الإنفاق الخيْري في سبيل الله، وإنما يشمل أيضا الإنفاق الحاصل في النشاط الربحي من نفقات واجبة واستهلاك وما إلى ذلك(1).
من أجل ذلك يحتلّ الإنفاق بمعناه العام وبأشكاله المتنوعة، حيِّزا مهمّا في حياة الانسان، ويشغل جزءا معتبرا من سلوكه اليومي بغض النظر عن وضعيته الاجتماعية أو الصحية أو المادية.
وهو بالنسبة للمسلم مطلبٌ دينيٌّ وأمرٌ إلهيٌّ يتعاطى معه على مدار اليوم والليلة، في السرّاء والضرّاء، في السر والعلن {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] ، وغنيًّا كان هذا المسلم أم فقيرًا، وهو داخل في عداد العبادات، وهو إحدى وسائل الحصول على الثواب الدنيوي والأخروي من الناحية العقدية، وهو وسيلة للمنفعة المادية من الناحية الاقتصادية.

الآثار الاقتصادية للإنفاق في الاقتصاد الإسلامي:

وتبرز الأهمية الاقتصادية للإنفاق في إشباع الحاجات، وتلبية طلبات الأفراد ورغباتهم عن طريق الإنفاق الاستهلاكي، والإنفاق الاجتماعي، والإنفاق التعاوني، وهي كلها آليات تساهم في زيادة الطلب، الذي يؤدِّي بدوره الى زيادة العرض وبالتالي زيادة الإنتاج. وغني عن البيان أن الاستهلاك -الذي هو مظهر من مظاهر الإنفاق- من أهم محركات النمو الاقتصادي إلى جانب الاستثمار والتصدير، وكل هذه الأمور تولد الثروة ويرفع من حجم الناتج الإجمالي، وتدفع إلى استخدام الموارد الاقتصادية، وتوظيفها في خدمة المجتمع وتحقيق الاستقرار(2).
ویكشف التحليل الاقتصادي لآيات الإنفاق في القرآن الكريم عن آلية هامة من آليات الإعْمار والتنمية الاقتصادية في التشريع الإسلامي، والتي تتمثل في الحث على الإنفاق ليلًا ونهارًا، سرًّا وعلانية، وغير ذلك من الأوامر المتكررة التي تشكِّل من الإنفاق دورة اقتصادية متدفقة لا تتوقف؛ لأن في توقُّفها توقُّفًا للاقتصاد وللنمو الاقتصادي، وكلما استمر التوقّف؛ يحدث الكساد والانكماش. ويُظهر القرآن أن الإنفاق المقبول إنفاقٌ يتصف بالصفات الآتية:

  1. إنفاق مسؤول ومنضبط بدائرة الحلال والحرام،
  2. ومتوازن بین الإسراف والتقتير،
  3. ورشید يهدف إلى تحقيق المنفعة في الدنيا والآخرة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].

الآثار الاجتماعية للإنفاق في الاقتصاد الإسلامي:

ومن الناحية الاجتماعية تتجلى أهمية الإنفاق بشقيه الخاص والعام في زيادة رفاهية الأفراد، وتعزيز التماسك الاجتماعي، والإسهام في إعادة توزيع الثروة وتقليص الفوارق الاجتماعية من خلال الإنفاق الإلزامي (الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات)، والإنفاق التطوعي الفردي (الصدقات والنذور والقرض الحسن)، والإنفاق الاجتماعي التعاوني (نظام التكافل ونظام الوقف).
من جانب آخر يرتبط مفهوم الإنفاق بالمسؤولية الاجتماعية من خلال ارتباطه الوثيق بالقيم، ويستمد منها مشروعيته الدينية ومكانته الاجتماعية. فهو يرتبط بقيمة الوسطية والاعتدال، والتوازن، أو بالتعبير القرآني “القوَام” الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].
فإذا حصل انحراف عن هذا القوام أو الوسط العدل وقع المكلف في دائرة التبذير أو التقتير وكلاهما من السلوكيات المذمومة التي ينهى عنها الإسلام بشدة {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. إن كلًّا من التبذير أو التقتير يجعلان المنفق والممسك في موقف على غاية كبيرة من الدقة والحساسية بل الخطورة؛ لأنها تحول ذلك السلوك من دائرة الفضائل التي يثاب عليها إلى دائرة الرذائل، التي تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة.
كما يرتبط الإنفاق بمجموعة من القيم الأخرى ذات علاقة بأبعاد مهمة مثل:

  1. البعد المقاصدي القائم على ترتيب الأولويات (تقديم الضروري على الحاجي، والحاجي على التحسيني)،
  2. والبعد الأخلاقي (تجنُّب الإنفاق التَّرفي والكمالي والابتعاد عن التقليد والمباهاة)،
  3. البعد الاجتماعي أو الإيثاري، والتعفف عن الشبهات {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] ، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273].
    4 – تغليب البعد الأخروي على الدنيوي الذي يراعي ابتغاء رضوان الله في أداء ما هو مطلوب من نفقات يقدمها الإنسان(3).

بمثل هذه المنظومة المتكاملة يتضح أن الإنفاق يرتبط بمنظومة فلسفية تنموية وإعمارية، تجعله يلعب أدوارا اقتصادية، واجتماعية، وإنسانية، تفوق ما لدى الاقتصاد الوضعي في جانب الاستهلاك، الذي يقوم على أسس اقتصادية بحتة، تجعله منقطع الصلة عن الإعمار والتنمية بمعناها الاجتماعي الشامل، فضلا عن فقدانه الأبعاد الاجتماعية والقيمية والدينية التي يشتمل عليها مصطلح الإنفاق الذي ينفرد به الاقتصاد الإسلامي.

(1) يراجع: علي محي الدين القرداغي: المال في الإسلام “دراسة فقهية تأصيلية”- بحث مقدم للدورة الثامنة عشرة للمجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء – باريس ، جمادى الثانية – رجب 1429 هـ / يوليو 2008.
(2) يعتبر الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز في كتابه «النظرية العامة» أن تحفيز الإنفاق العام والخاص يُنهي الركود ويدعم النمو الاقتصادي. يراجع: جون مينارد كينز: «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود» ترجمة إلهام عيداروس، مراجعة عبد الله خطاب- هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، دار العين للنشر، الطبعة الأولى 2010م.
(3) ينظر في هذا الباب بحث للمؤلف حول مفهوم الإنفاق منشور في : موسوعة المصطلحات الإسلامية: تأصيل وضوابط – الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين و مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة- الجزء الأول -ص 395.

Comments are disabled.