بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: أهمية الكتاب:
هذا الكتاب هو أول كتاب أُلِّف في السوق والحسبة. وهو يكشف عن الانتباه المبكر من علماء الإسلام لقضية السوق؛ باعتباره الوسيلة التي يتم من خلالها تداول وانتقال السلع والأموال بين الناس، ويعكس الإلمام بالأهمية المركزية لآلية السوق في النظام الاقتصادي منذ وقت مبكر.
وأما ربط المؤلف بين السوق والحسبة: فلأن الحسبة هي أداة ضبط وتنظيم المعاملات في السوق، ولهذا ربط المؤلف بينهما في كتابه بصورة محكمة.
كما أن في تناول الكناني للحسبة دلالة واضحة على الوعي بضرورة وجود مؤسسة مستقلة تراقب الأسواق، وتضمن منع الغش والتدليس والاحتكار وكل الممارسات غير الصحيحة في السوق.
وقد تطور الفكر الاقتصادي المعاصر، فأُنشأت أجهزة رقابية لحماية المستهلك، وجمعيات المراقبة والجودة لضمان جودة المنتج، والعدالة الاجتماعية للمستهلك، وضبط ومراقبة الأسواق…
والكتاب يعكس أحوال وطبيعة السوق في الفترة التي عاشها الإمام الكناني، كما يبين مدى الاهتمام بسائر شئون الأسواق. وهو أحد أهم أصول الفكر الاقتصادي الإسلامي، وهو يندرج تحت ما يُعرف اليوم بـ”النظرية الاقتصادية الإسلامية“، وجوانبها المتعلقة باقتصاديات السوق، والتسعير، وآليات تحديد الأسعار، كالعرض والطلب ودراسة السوق، ومنع الاحتكار، وغيرها مما سيأتي. ويعتبر الكتاب أقدم مصدر وصل إلينا، يتناول أحكام السوق والحسبة بمعالجة مستقلة، وهو من أبرز ما أُلف في مجاله.
كما يُعدُّ الكتاب من البذور الأولى لنظام الحسبة في الإسلام، هذا النظام الذي أرسى دعائم الأمن الاقتصادي والاجتماعي عبر تاريخ الإسلام. فالحسبة مبناها على إقامة الشريعة، وحماية العقيدة، ونشر الفضيلة، وتقويم الرذيلة وصيانة المجتمع منها، وترسيخ العدل، وحفظ الكليات الشرعية. كما يعد النواة الأولى لأحد أهم الأبواب الاقتصادية وهو الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة، وحدود تدخل الدولة؛ لتنظيم التبادل بالأسواق، وضبط الأسعار، ومنع الغش والاحتكار، ومعاقبة المفسدين في الأسواق.
ثانيًا: منهج الكتاب:
والمؤلف يستدل لبعض أقواله بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجل الكتاب من أقوال أئمة المذهب المالكي، فاستحضاره وإحاطته بمذهبه وأدلته يظهر جليًّا واضحًا في كتابه.
وقد جاء الكتاب حافلاً باجتهادات وآراء الكناني في إطار مذهبه المالكي، كما كثرت نقوله لأقوال وأجوبة أئمة المذهب المالكي، بداية من الإمام مالك، ونَقَلَة المذهب من بعده؛ كيحيى بن عبد الله بن بكير، ت: 231هـ، وسحنون بن سعيد، ت: 240هـ، والزهري، ت: 242هـ.
وقد ركز الكتاب على أحد أهم مجالات الاحتساب: وهو الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية التي محلها السوق، ومقصود الكتاب: هو بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بتطهير السوق من المحرمات والمنكرات، ومنع الحيل والغش والاحتكار والتطفيف وغيرها من المحرمات. وقد قرن الكناني بين الأحكام الفقهية النظرية والوقائع العملية التطبيقية، وفق أصول وقواعد المذهب المالكي.
ثالثًا: طريقة عرض الكتاب:
جاء الكتاب في صورة أسئلة وإجابات؛ كاشفًا عن مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وما يسود الأسواق من معاملات في عصر الإمام الكناني، وذلك في صورة أجوبة فقهية لأسئلة واقعية موجهة إلى الإمام الكناني، فيما يتعلق بأحكام السوق، ومعاملات الناس فيها، وهي أشبه بالنوازل الفقهية الناتجة عن معاملات الناس بالأسواق في عصر الكناني.
رابعًا: محاور الكتاب:
وقد دار الكتاب حول عدة محاور مهمة فيما يتعلق بأحكام السوق، وفي جميعها جاء المنحى المقاصدي بارزًا ومنصوصًا عليه. وأهم هذه المحاور ما يلي:
المحور الأول: أبرز المقاصد المتعلقة بأحكام السوق: ومن أهمها:
أولاً: وجوب تحري العدل في الأسواق، ووجوب إشراف ولي الأمر أو الدولة على ضبط حركتها، وذلك بتعيين المراقبين للمعاملات التي تُجرى بالسوق، وضبط وتوحيد المكاييل والموازين، وحماية السوق من الأموال المزيفة، ومعاقبة المتلاعبين بتلك الأنظمة والمعايير بإخراجهم من السوق، أو غلق محالهم التجارية، وأن ينكل بمن يغش في البيع أو الصرافة أشد تنكيل ليكون عبرة لغيره، يقول في ذلك: “ينبغي للوالي الذي يتحرّى العدلَ أن ينظر في أسواق رعيته، ويأمر أوثقَ من يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعيِّر على أهله صنجَاتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها: فمن وجده قد غَيّر من ذلك شيئًا عاقبه على قدر ما يرى من بدعته وافتياته على الوالي، ثم أخرجه من السوق حتى تظهر منه التوبة والإنابة إلى الخير….
ولا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس، وأن يشدد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به إن كان واحدًا أو جماعة أن ينالهم بشدة النكال والعقوبة، ويأمر أن يطاف بهم في الأسواق، ويشرِّد بهم من خلفهم، لعلهم يتقون عظيم ما نزل بهم من العقوبة، ثم يحبسهم على قدر ما يراه، ويأمر من يثق به أن يتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم ويُحْرِزوا نقودهم…”.([3])
ثانيًا: الرفق بالرعية، ومراقبة الجودة، ومنع ما يُلحق الضرر بالناس.
فقد سُئِل يحيى بن عمر عن إخلاء السوق لرجل يبيع فيه وحده يومًا أو يومين؛ رفقًا بذلك الرجل إذ أفنى ما في يده أو أراد أن يتزوج فيقوى بذلك الربح الذي أمسك هؤلاء عنه… فقال: إذا أخلى أهلُ السوقِ السوقَ لهذا الرجل كما ذكرت، وكان مضرة على العامة نُهُوا عن ذلك، وإن لم ينقص من السعر شيئًا. وإن لم يكن على العامة فيه ضرر فلا بأس بذلك.
وسَأل صاحبُ السوق مالكًا عن الرطب الذي يباع في السوق وقد غَمُّوه؟ فأمره مالك أن يتقدم إليهم أن لا يبيعوه مَغْمُومًا، فإن ذلك يَضُرُّ بالبطون، وأن يضرب الذي استعمله. وكذلك البِطِّيخ الذي يُقْضَبُ ويُجْلَب إلى السوق للسعر، وغيره من الفواكه، فإنه لا يحل قطعه حتى ينتهي نضجه. فالناظر على الأسواق له أن ينهاهم عن ذلك، فإن لم ينتهوا عاقبهم بقدر ما يرى من فعلهم، ويُباع كل واحد منهما في السوق.([4])
ثالثًا: أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني في القيام بمراقبة الأسواق.
والحفاظ على نظافة السوق، وحمايته مما يؤذي الناس، والإيجابية في جلب المصالح ودرء المفاسد عن أهل السوق، وقيام أهل الفضل والصلاح بما ينبغي عليهم إذا لم يكن عليهم وَالٍ يقوم على إصلاح أسواقهم.
فقد نقل الكناني جواب ابن القاسم عن الرجل يَرُشُّ بين يدي حانوته، فَتَزْلَقُ فيه الدابة فتكسر؟ فقال: إن كان رشًّا خفيفًا لم يكن عليه شيء، وإن كان كثيرًا لا يشبه الرشَّ، خشيت أن يضمن.
وسئل يحيى بن عمر عن طين المطر إذا كثر في الأسواق، هل يجب على أرباب الحوانيت كنسه، وهو مما أضر بالمارة وبالحُمُولَةِ؟ فقال: لا يجب عليهم كَنْسُه؛ لأنه من غير فعلهم. فقيل له: فإِنْ أصحابُ الحوانيت كنسوه وجمعوه وتركوه في وسط السوق أكداسًا، فربما أضر بالمارة وبالحُمُولَةِ؟ فقال: يجب عليهم كَنْسُه.([5])
كما أشار إلى أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق الرفق والتضامن المجتمعي، وتحري العدل في التعامل فيما بينهم، ومعاقبة المخالف وزجره إلى أن يتوب، ووجوب قيام الأمة بما ينبغي عليها في حال تقاعس الولاة أو افتقادهم، يقول: “… وإن جعل الأواق كل أوقية عشرة دراهم كيلاً أو اثني عشر درهمًا وزنًا فجائز أيضًا. ويضع مكاييل رعيته من الوِيبات والأقفزة على الكيل الذي فرض رسول الله r زكاة الحبوب به، إذ يقول r: “لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ”([6]). والوَسْق الواحد: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد بمد النبي r. يجعل الوالي الذي يتحرى العدل مكاييل رعيته صلاحًا، بإدخال الرفق عليهم وطرح المضرة عنهم، وسائر مكاييلهم على ما أحكم من الوِيبة. فيضع الوالي المتحري العدل أرطال رعيته وقناطيرهم على هذا، ويتقدم إلى رعيته أن لا يغيروها. فمن فعل أو غيَّر منها شيئًا استوجب العقوبة وأخرجه من السوق، حتى تظهر منه توبة… وإن كان المسلمون في موضع ضيع الوالي هذا من رعيته، أو لم يكن معهم والٍ، فليجتمع خيارهم وأهل الفضل والصلاح منهم حتى يجعلوا لأهل موضعهم من موازينهم ومكاييلهم شيئًا مثل ما وصفنا”.([7])
رابعًا: ضرورة حماية المجتمع من الفساد والإفساد.
قال ابن القاسم: سُئِل مالك رحمه الله عن فاسق يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟ قال: يُخْرج من منزله، وتُخارج، أي: تؤجر عليه الدور والبيوت. قال: فقلت له: ألا تباع؟ قال: لا، لعله يتوب، ويرجع إلى منزله.
قال ابن القاسم: يُتقدَّم إليه مرة، أو مرتين أو ثلاثًا، فإن لم ينته أُخرج وكُريَ عليه.
وقد أُتيَ إلى سحنون بامرأة يقال لها: حكيمة، كانت تجمع بين الرجال والنساء، أي قوادة، فضرِبت وحُبِست.([8])
المحور الثاني: تناول الأحكام الفقهية للسوق؛ فقد تحدث عن مجموعة من الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات في السوق، كما تحدث عن أحكام فقهية متعلقة بأبواب أخرى، ومن ذلك:
عدم مشروعية الإجارة على مجهول: يقول: الـمَكْس الذي يأخذه أصحاب الأرحية على الطحن، لا ينبغي أن يكون إلا بكيل معلوم جارٍ بين الناس، فإن لم يعلم مقداره فلا يجوز.
وقال في تضمين الصناع: وإن هطل الرحى فأفسد بهطله الطعام، فإن لم يكن من الطحان في ذلك تفريط، فلا ضمان عليه. ([9])
كما تناول العديد من الأحكام المتعلقة بغش السلع وخلط بعضها ببعض، والتطفيف في الكيل والميزان، والتدليس في البيع والشراء، وتضمين من يقوم بذلك، مع مشروعية تأديبه؛ ليكون عبرة لغيره من أهل السوق.
وكذلك تناول بعض الأحكام الفقهية عمومًا، كأحكام الوليمة، وعدم مشروعية إجابة الدعوة إليها إذا علم أن فيها محرمًا؛ كالمسكر والملاهي ونحوها، وبعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالنكاح. ([10])
وكذلك بكاء أهل الميت على الميت، وخروج النساء إلى المقابر… وبين المشروع والممنوع منها. ([11])
وكذلك جلود الأضحية، قال حمديس: ما علمت أن سحنونًا نهى عن بيع جلود الأضحية… قال حمديس: يؤمر بأن لا يبيع الجلد، فمن باعه لم يفسخ بيعه. ([12])
وكذلك: وجوب المنع من بيع المحرمات، ووسائلها المفضية إليها.
فقد سئل يحيى بن عمر عن الصور وبيعها من الصبيان؟ فقال: قال مالك: لا خير في الصور. وقيل ليحيى بن عمر: إن بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إليه: إن القدور التي تقايس قدور النُّحَاس، إنما اتخذت لعمل النبيذ، وقالوا لا تصلح لغيره، وهي تُكْرَى لعمل النبيذ… وقد أمرت بجمعها فجُمعت لي من عند أهلها، وجعلتها في موضع الثقة، وأوقفتها لأمرك، وكتبت إليك مُعْلِمًا. فكتب عليه بخط يده: إذا لم تكن لها منفعة غير عمل النبيذ، فَغَيِّر حالها، واكسرها وصَيِّرْها نحاسًا ورُدَّها عليهم، كما يفعل بالبوق إذا كُسر، وامنع من يعملها ومن يشتريها.([13])
وسئل يحيى بن عمر عن الخف يعمله الخَرَّازُون([14]) مثل النِّعَال الصَّرَّارة، هل ينهى الخَرَّازُون عن عملها؟ فإن النساء يشترينها فيلبسنها، فيصير في أرجلهن الصَّرَّار الشديد، فيَشْقُقْن بها الأسواق ومجامع طرق الناس، فربما يكون الرجل غافلاً في عمله فيسمع صرير ذلك الخف فيرفع رأسه، هل يُنْهى الخَرَّازُون عن عمل ذلك الخف….؟ فقال: أرى أن ينهى الخَرَّازُون عن عمل الأخفاف الصَّرَّارة، فإن عملوها بعد النهي رأيت أن عليهم العقوبة.([15])
وكذلك: وجوب ضمان الصيارفة.
فقد نقل عن ابن القاسم عن مالك: في رجل دفع إلى صراف دينارًا على دراهم فنَقَرَه فضاع، إنه ضامن. وقال أصبغ: لأنه وجه بيع وشراء فهو ضامن. قال يحيى بن عمر: فنقره يعني طار من يده. قال ابن القاسم في الدينار يعطيه الرجل للصراف على دراهم فينقره فيذهب: إنه ضامن، قال أصبغ: وهذا أصوب؛ لأنه قد صار منه حين قبضه ليصرف، فهو بيع وشراء بمقبوض.([16])
وكذلك: تحكيم العوائد والأعراف والرجوع إلى أهل الخبرة.
فقد سئل يحيى بن عمر عن رجل تعدى على دينار فكسره، فقال: يغرم مثله في وزنه وسِكّته. فقال له السائل: إنه لا يوجد مثله في وزنه وسكته لرداءته ونقصه… فقال: يمضي به إلى أهل المعرفة بالدنانير… وقيل له: لو أن رجلاً رمى بدينار إلى رجل ليريه إياه، فأخذه الرجل فجعله بين أسنانه لينظر إن كان ذهب الدينار لينًا أو يابسًا فكسره -لأن سنة الدنانير إذا وزنت أن تجعل بين الأسنان لتختبر- فإن كان الذهب ليِّنا علم أنه جيد، وإن كان الذهب يابسًا علم أنه رديء. فقال يحيى: إذا كان ذلك سنة كما ذكرت، فلا ضمان عليه.([17])
وكذلك: بيان الخلاف الفقهي في أخذ الضريبة على المبيعات.
قال يحيى بن عمر: “واختلف العلماء فيما يأخذ أصحاب السوق من الباعة، هل هو حلال أو حرام أو مكروه؟ فمنهم من قال: إنه حرام، ومنهم من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه حلال. والمشهور من المذهب أنه إذا كان مستغنيًا عن الأخذ فالحرمة، وأما إن كان محتاجًا غاية الاحتياج فلا بأس أن يأخذ، لكن على شرط أن لا يركن إليهم، وليُراع المصلحة والمعروف لجميع الناس. قال بعضهم: لا بأس بالأخذ من الباعة، لكن بالمعروف، وأن لا يركن إليهم أصلاً على كل حال، ولو أعطوه لا يميل إليهم بل ينظر بالمعروف، والأولى أن يتقي الله جهده“.([18])
المحور الثالث: وجوب ضبط الأسعار في إطار عدم الإضرار أو الظلم لجميع أطراف عملية التسوق؛ رعاية لمصلحتهم، وعدم ترك بعض الأطراف لتستبد بالسوق، وتحتكر السلع، وتتلاعب بالأسعار، ورعاية متغيرات السوق من ناحية العرض والطلب وغيرها.
وقد نقل عن مالك بن أنس قوله: “لا يُسعَّر على أحد من أهل السوق، فإن ذلك ظلم. ولكن إن كان في السوق عشرة أصْوُعٍ، فحط هذا صاعًا يُخرَج من السوق… ولو أن أهل السوق اجتمعوا أن لا يبيعوا إلا بما يريدون مما قد تراضوا عليه مما فيه المضرة على الناس وأفسدوا السوق كان إخراجهم من السوق حقًّا على الوالي، وينظر للمسلمين فيما يصلحهم ويعمهم نفعه، ويُدخل السوق غيرهم، فإنه إن فعل ذلك معهم رجعوا عما طَمَحَت إليه أنفسهم من كثرة الربح، ورضوا من الربح بما يقابلهم نفعه، ولا يدخلون به المضرة على عامة الناس.
وكذلك أرى أن يُفعل بمن نَقَّص من السعر الذي عليه أهل السوق، في قمحه أو شعيره أو زيته أو سمنه، وما يباع في السوق ولم يرض أن يبيع كغيره من أهل السوق، أن يقال له: إما أن تبيع كما يبيع أهل السوق وتكون كأحدهم، وإلا فاخرج من السوق لئلا تَتَطَاول أنفس الذين يبيعون مثل سلعته بأكثر سعرًا منه إذا رأوه يبيع بأرخص منهم؛ لأن السوق يدخله ضروب الناس، فمنهم من لا يعرف السعر فيقف بهذا الذي قد أغلى فيسأله، فإذا قال له، ظَنَّ أن سعر السوق كله كما قال له، فيشتري منه، ويقف به من لا يسأله عن السعر ولا يعرفه فيشتري منه، وأشباه ذلك لهؤلاء كثيرة.
فإذا رأى أهل السوق ذلك نقَّصوا مما كانوا يبيعون عليه، ولعلهم كانوا يحبسون على ما كانوا يبيعون فتشح أنفسهم أن يبيعوا مثل بيعه ويحبسوا أيديهم على مثل سعره. فإذا لم يجد من يريد الشراء إلا بذلك السعر اشتراه لحاجته، غاليًا كان أو رخيصًا، فيدخلون بذلك الفساد والغلاء على عامة الناس بترك ذلك الرجل الواحد الذي نقَّص السعر، ولم يرض أن يبيع بالسعر الذي كان أهل سلعته يبيعون به“.([19])
وقال يحيى بن عمر: في المحتكرين إذا احتكروا الطعام وكان ذلك مضرًّا بالسوق: أرى أن يُباع عليهم، ويكون لهم رأس أموالهم، والربح يؤخذ منهم، يُتَصَدَّق به أدبًا لهم، ويُنهوا عن ذلك، فإن عادوا كان الضرب والطواف والسجن لهم.
وقال: أرى هؤلاء البدويين إذا أتوا بالطعام ليبيعوه في سوق المسلمين، وأنزلوه في الفنادق والدور، فأرى على صاحب السوق أن يأمرهم أن لا يبيعوه إلا في أسواق المسلمين، حيث يدركه الضعيف والقوي والشيخ الكبير والعجوز.([20])
المحور الرابع: وجوب التزام أخلاقيات الإسلام فيما يتعلق بالتبادل في الأسواق؛ كإزالة كل أنواع الغش والتدليس والغرر والغبن، وإيقاع العقوبة الرادعة على كل من فعل شيئًا من ذلك في ماله.
وكل هذا يكشف عن بروز الجانب الأخلاقي متساندًا مع الجانب التشريعي في الإسلام.
ومن ذلك جوابه: لما سُئِل عن الحناطين: هل يجب عليهم أن لا يبيعوا القمح والشعير والفول… حتى يُغَرْبِلُوها؟ فقال: قال مالك: لا يبيعوا كل ما ذكرت إلا بعد أن يُغَرْبِلُوها. قال يحيى: فأرى أن يلزموا بذلك.
وجوابه: لما سُئِل عن التين المدهون، هل ينهى أهله أن لا يدهنوه، فقال: أرى أن ينهوا عن دهن التين بالزيت… فإن نُهي ثم َدَهَنَه بعد ذلك، فأرى أن يُتصدّق بالتين على المساكين أدبًا له… وكذلك اللبن إذا مُزِج بالماء… وكذلك الخبز إذا نُقِّصَ وقد تُقدِّم إليه فلم ينته، يُتصدَّق به ويقام من السوق“.([21])
كما ضرب أمثلة بارعة للغش في بعض الفواكه، والخبز لمن وجد فيه حجارة أو وجده عجينًا لم ينضج، ومن خلط القمح الطيب بالقمح الدون النازل، والتدليس في المكيال أو الطعام أو غيرها، ومن يغش اللبن بالماء، ومن يخلط العسل الطيب بالرديء، ويخلط السمن والزيت للبيع……. وما يجب في مثل هذه الحالات من التأديب وإيقاع العقوبة المناسبة على من غش أو خلط جيدًا برديء.([22])
ونقل في الغبن: جواب سحنون عن الرجل الغريب يدخل السوق وهو جاهل بالسعر، فيقول للبائع: أعطني زيتًا بدرهم، أو قمحًا، ولا يسمي له البائع سعر ما يشتري منه، هل يصح هذا؟ أو تراه من الغرر؟ فقال سحنون: بيع الزيت والقمح معروف ليس فيه خطر. قال يحيى بن عمر: غَبْنُ الـمُسْتَرْسِل حرام. وكان يحيى يرى أنه يرجع عليه فيأخذ منه ما بقي من سعر السوق.([23])
ومن أهم ما ذكره من أخلاقيات الإسلام والمعايير الحاكمة للسوق: وجوب الشفافية والصدق والإفصاح عن مكونات المنتجات المعروضة في السوق.
ومعلوم أن مبدأ الشفافية والإفصاح وعدم الكتمان، صار اليوم من أهم مبادئ الاستدامة التي ينادي بها الاقتصاد الغربي. أما في الاقتصاد الإسلامي فقد نصت عليها آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وجاءت واضحة جلية لدى علماء المسلمين في مصنفاتهم، والكتاب الذي بين أيدينا خير مثال على ذلك.
وقد مثّل الكناني لذلك: بأن مالكًا سُئِل عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعًا، وأن يضرب كل واحد منهما على حدة، وإن ضربا جميعًا؟ قال مالك: أرى عليه إذا باع أن يبين ذلك للمبتاع، فيخبره أن ذلك لبن بقر وغنم. ولم يشترط ذلك في خلط زبدهما لتقاربهما في الجودة… ثم قال: وأحب إليَّ ألا يخلط. وهذا الحكم عام يجري في خلط الشيء بعضه ببعض.
قال يحيى بن عمر: سألت ابن القاسم عن الجزار يكون عنده اللحم السمين واللحم الهزيل فيخلطهما جميعًا، ويبيعهما بوزن واحد مختلطين، والمشتري يرى ما فيه من الـمَهْزُول والسمين، غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا؟
قال ابن القاسم: أما إن كانت الأرطال اليسيرة كالخمسة والستة، مثل ما يشتري الناس على المجازر بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلا أرى بذلك بأسًا. وأما إن كثرت الأرطال كالعشرين والثلاثين وما أشبه ذلك، فلا خير في ذلك حتى يعرف وزن كل واحد منهما؛ لأن ذلك من الغرر… وأرى أن يمنع الجزارون من مثل ذلك… ومثل ذلك خلط الفؤاد والكَرْش والدُّوَّارَة مع اللحم“.([24])
خامسًا: تعقيب عام على الكتاب:
كتاب الإمام الكناني في غاية الأهمية؛ لأنه أول كتاب وصل إلينا يتناول أحكام السوق والحسبة بصورة متلازمة؛ مبينًا شروط المحتسب وواجباته وأعوانه. والحسبة من الوظائف المهمة التي تهدف إلى مراقبة الأسواق والعمل على ازدهارها، وحمايتها من سائر أنواع الغش والتدليس، وضبط الأسعار والمكاييل، وضبط عملية تبادل السلع في الأسواق…
والكتاب يكشف عن اهتمام الفقه الإسلامي برعاية الأسواق وانتظامها؛ مما يؤدي إلى تدفق الأموال وحصول الناس على رغباتهم واحتياجاتهم من السوق. وكذلك اهتمام الفقهاء بضبط السوق عن طريق ضبط الضرائب والتسعير… فالفقهاء من هذا الوقت المبكر كانوا يفهمون الاقتصاد، ويتكلمون عن السوق والحسبة…
واهتمام الإمام الكناني وغيره من علماء المسلمين ببيان أحكام السوق، يبين أهمية السوق في الاقتصاد الإسلامي، باعتباره مركز الثقل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ولا عجب في ذلك، فقد عرف بعضهم الاقتصاد بأنه السوق.
كما ظهر تأثر الكناني في كتابه بشيخه الإمام سحنون، وهو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب التنوخي القيرواني المالكي، ت: 240هـ، قاضي القيروان وصاحب المدونة للإمام مالك، التي أخذها عن ابن القاسم. وقد كان لتولي سحنون القضاء عظيم الأثر في العناية بالأسواق، فقد خصص للقائم عليها وظيفة خاصة بها، وهي “ولاية المظالم أو السوق”، وأدخلها تحت النظام القضائي، وستعرف بعد ذلك بالحسبة، وصاحب السوق هو المحتسب.
والإمام يحيى بن عمر الكناني من أبرز من ربط الأحكام بمقاصدها ومصالحها في هذه الفترة التاريخية المبكرة، وفي هذا الموضوع المتخصص، ولا تخلو صفحة من صفحات كتابه كما لا يخلو موضوع من الموضوعات التي تناولها في كتابه من بيان الجوانب المقاصدية، والمصالح الشرعية التي شُرِعت الأحكام لأجلها.
وختامًا: فإنه يؤخذ على الإمام الكبير يحيى بن عمر الكناني أنه ابتعد في بعض المواضع عن موضوع كتابه، ومن ذلك: حديثه عن حفلات الأعراس وما شاكلها من أوجه الاحتفال التي يشوبها سماع المحرمات والضرب بآلات الطرب، وكذلك دخول النساء الحمام، وبكاء أهل الميت عليه، واجتماع النساء خلفه بالبكاء، وخروج النساء إلى المقابر، وباب جهاز المرأة، وباب توجيه اليمين في دعوى القذف، وبيوت الأذى والفجور وما يقع فيها من محرمات وغيرها.
أضف إلى ذلك أن الإمام الكناني في كتابه ظل حبيس المذهب المالكي، ولعل عذره في ذلك أنه نشأ وتعلم وعاش بل ومات في بيئة يسودها المذهب المالكي…
بقيت الإشارة إلى تحقيق وتخريج الكتاب: فهو تحقيق علمي جيد، خدم الكتاب خدمة كبيرة، وصدَّره بمقدمة عن منهج التحقيق، والتعريف بالمؤلف والنسخ السابقة، والنسخة المخطوطة التي اعتمدها في التحقيق، ورواة الكتاب. كما اجتهد في تخريج الآيات والأحاديث والآراء والأقوال الواردة في الكتاب، وجلها عن أئمة المذهب المالكي.
وأما الفهارس العلمية: فقد أورد المؤلف فهرسًا للآيات القرآنية، ثم فهرسًا للأحاديث النبوية، ثم فهرسًا للأعلام، ثم فهرسًا للأماكن، ثم فهرسًا للمصادر والمراجع، وأما فهرس الموضوعات فقد أورده في بداية الكتاب.
([1]) الإمام الكناني: هو الإمام الحافظ الفقيه المحدث، أبو زكريا يحيى بن عمر بن يوسف الكناني الأندلسي المالكي (ولد بقرطبة عام 213هـ– ومات 289هـ)، رحل إلى مصر والحجاز وأخذ عن علمائهما، وأقام في القيروان ثم سوسة وألقى دروسه بجامعهما. انظر: لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني: 6/270-272، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة: 13/217.
([2]) هذا هو الكتاب الثاني ضمن سلسلة المصادر التراثية الأصيلة، التي سنتناولها تباعًا، وتهدف إلى بلورة الفكر الاقتصادي الإسلامي، ومن هذه الكتب أيضًا: الحث على التجارة والصناعة والعمل للخلال، وإصلاح المال لابن أبي الدنيا، والإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي، والبركة في فضل السعي والحركة للحبشي، وغيرها من مصادر الفكر الاقتصادي الإسلامي التي نستعرضها تباعًا.
([3]) أحكام السوق، للكناني: 95-97.
([4]) انظر: المصدر السابق: 147-149.
([6]) أخرجه البخاري: 2/126 (1484) كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم: 2/673 (979) كتاب الزكاة.
([8]) انظر: المصدر السابق: 228-230.
([10]) انظر: المصدر السابق: 152-162.
([11]) انظر: المصدر السابق: 168-171.
([13]) المصدر السابق: 162-164.
([14]) الخرَّازُون: مفردها الخرَّاز: وهو الإسكاف أو صانع الخفاف والأحذية ومصلحها. انظر: المعجم الوسيط: 1/226، 439.
([17]) المصدر السابق: 213-214.
([18]) المصدر السابق: 227-228.
([19]) المصدر السابق: 110-115.
([20]) المصدر السابق: 198-200.
([21]) المصدر السابق: 116-119.
([22]) انظر: المصدر السابق: 117-142.
([23]) المصدر السابق: 203-205.
([24]) المصدر السابق: 134-136، 142-146.