قراءة في الكتاب:

أولاً: أهمية الكتاب:

هذا الكتاب هو أول كتاب أُلِّف في فضل السعي والعمل والكسب، وإعلاء شأن العمل والعامل. والكتاب في مجمله دعوة ملحة إلى السعي والكد والكسب، وبيان فضل العمل والكد، وأهمية دور العامل في النشاط الاقتصادي، ومعلوم أن العمل من أهم مقومات الاقتصاد في سائر المذاهب الاقتصادية، مع مراعاة تركيزه على الباعث الشرعي المصلحي في ذلك، فالعامل يسعي للكسب وتحصيل رزقه؛ لتحقيق مقصود الشارع من الخلق، وتحصيل مصالح السعي والحركة.

وقد تناول المؤلف جل أنواع الارتزاق في الحياة، وذكر من موارد الرزق: التجارة والصناعة والإجارة والهبة والبيع والشراء والاحتطاب والاصطياد، وما أخرجته الأرض أو انبتته السماء.

ويعتبر كتاب الكسب للشيباني بمثابة المدخل التمهيدي للاقتصاد الإسلامي، فهو كالممهدات لدارسة الاقتصاد الإسلامي، وفيه بعض المبادئ العامة والأصول الحاكمة للمذهب الاقتصادي الإسلامي. ويندرج الكتاب تحت ما يُعرف اليوم بـ”النظرية الاقتصادية الإسلامية“، ويتم من خلالها تناول موضوعات عدة، منها: أنواع النشاط الاقتصادي، وتقسيم العمل وأنواعه، وعوامل الانتاج، ونظرية المنتج والمستهلك.

ثانيًا: منهج الكتاب:

يتضح من عنوان الكتاب أنه يتعرض لجانب واحد فقط من الجوانب المالية والاقتصادية وهو الكسب وأحكامه الفقهية، وما يترتب عليها من مصالح شرعية، كما تكلم عن الغنى والفقر والحاجات الاقتصادية الأصلية التي تقوم بها أبدان الناس، وتناول العمل والزهد والتصدق بما زاد عن حد الكفاية.

وقد بدأه بتعريف الاكتساب في اللغة، يقول: “الاكتساب في عرف أهل اللسان: تحصيل المال بما يحل من الأسباب، واللفظ في الحقيقة مُسْتَعْمَلٌ في كل باب.

إن الله تعالى فرض على العباد الاكتساب لطلب المعاش؛ ليستعينوا به على طاعة الله تعالى، وقد قال الله تعالى: ﴿‌وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الجمعة: 10]، فجعل الاكتساب سببًا للعبادة، وقد قال الله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة/267]، وقال U: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى/30]، أي: بجنايتكم على أنفسكم، فقد سمى جناية المرء على نفسه كسبًا، وقال U في آية السرقة: ﴿‌جَزَاءً ‌بِمَا ‌كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ [المائدة: 38] أي: باشرا بارتكاب المحظور، فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب، ولكن عند الإطلاق يُفهَمُ منه اكتسابُ المال.

ثم عرّج في مطلع كتابه على أصل مهم وهو حكم الكسب وفضله، واستدل عليه بأدلة الكتاب والسنة وغيرها، وذلك بقوله: “‌طَلَبُ الكسب فريضة على كل مسلم، كما أن طلب العلم فريضة، وهذا اللفظ يرويه ابن مسعود t عن رسول الله e أنه قال: “‌طَلَبُ الكسبِ فريضةٌ على كل مسلم”، وفي رواية قال:  «‌طَلَبُ الكسبِ بعد الصلاةِ المكتوبةِ الفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ»([2])، وقال e: «‌طَلَبُ ‌الْحَلَالِ كمقارعةِ الأبطالِ، ومن باتَ كَالاًّ من طلبِ الحلالِ باتَ مغفورًا له».([3])

وقد كان عمر بن الخطاب t يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد، فيقول: لأن أموت بين شُعبتي رحلي أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله أحبُّ إليَّ من أن أُقْتَل مجاهدًا في سبيل الله؛ لأن الله تعالى قدَّم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى: ﴿‌وَآخَرُونَ ‌يَضْرِبُونَ ‌فِي ‌الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20].

وفي الحديث أن رسول الله e صافح سعد بن معاذ t يومًا، فإذا يداه أكنبتا فسأله النبي e عن ذلك، فقال: أضربُ بالـمَرِّ والـمِسْحَاة في نخيلي لأنفق على عيالي، فقبّل رسول الله e يده، وقال: “كفَّان يحبهما الله تعالى”([4])، وفي هذا بيان أن المرء باكتساب ما لا بد له منه، ينال من الدرجات أعلاها، وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة، ولأنه ما لا يتوصل إلى إقامة الفريضة إلا به، فيكون فرضًا بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة”.([5])

وكلام الإمام عبارة عن تأصيل للقاعدة الأصولية المشهورة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب“، وسيدور الكتاب بأسره على محور واحد هو: أن طلب الكسب فريضة على كل مسلم.

ثم بدأ يسرد تطبيقات مؤيدة للقاعدة السابقة، وذلك بقوله: “أنَّ تَمكُّنَه من أداء الفرائض بقوة بدنه، وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة، ولتحصيل القوت طرق: الاكتساب أو التغالب أو الانتهاب. والانتهاب يستوجب العقاب، وفي التغالب فساد، ﴿وَاللَّهُ ‌لَا ‌يُحِبُّ ‌الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، فتعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت، وقد قال النبي e: “نفس المؤمن مطيته، فليحسن إليها”([6])، يعني: الاحسان بأن لا يمنعها قدر الكفاية، وإنما يُتوصَّلُ إلى ذلك بالكسب، ولأنه لا يتوصل إلى أداء الصلاة ألا بالطهارة، ولا بد لك من كوز يُستَقَي به الماء، أو دلو ورشاء ينزح به الماء من البئر، وكذا لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة، وإنما يكون ذلك بثوب، ولا يحصل له إلا بالاكتساب عادة، وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضًا في نفسه“.([7])

ثم بين معنى التوكل وأنه لا ينافي الكسب والسعي، بل إن الكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أُمرنا بالتمسك بهم والاقتداء بهديهم، وأنه نوعان: كسب من المرء لنفسه، وكسب منه على نفسه: فالكاسب لنفسه: هو الطالب لما لا بد له من المباح. والكاسب على نفسه: هو الباغي لما عليه فيه جناح، نحو ما يكون من السارق. والنوع الثاني منه: حرام بالاتفاق، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [النساء/111] وقال U: ﴿‌وَمَنْ ‌يَكْسِبْ ‌خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 112]، والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله تعالى: أن النوع الأول من الكسب مباح على الإطلاق، بل هو فرض عند الحاجة.

وأشار إلى قول بعض الجهال: إن الكسب حرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة؛ لأنه ينفي التوكل على الله أو ينقص منه، وقد أُمرنا بالتوكل، فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حرامًا… وساق سائر حججهم وفندها وردها جميعًا، واستشهد لمشروعية الكسب وأهميته، وأن الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكل.([8])

ويقول: “والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجارته، مع علمهم بذلك، فلو كان الاكتساب حرامًا لكان المال الحاصل به حرام التناول؛ لأن ما يُتَطرَّقُ إليه بارتكاب الحرام يكون حرامًا، ألا ترى أن بيع الخمر للمسلم لما كان حرامًا، كان تناول ثمنها حرامًا، وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول، عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل.

ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله من أهل السنة والجماعة: أن الكسب بقدر ما لا بد منه فريضةٌ”.([9])

وقد استدل على فرضية السعي للكسب بأدلة من العقل، يقول: “والمعقول يشهد له؛ فإن في الكسب نظامَ العالم، والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائه، وجعل سبب البقاء والنظام كسبَ العباد، وفي تركهِ تخريب نظامه، وذلك ممنوع منه.

فإن قيل: فبقاء هذا النظام يتعلق بالتسافد بين الحيوانات، وأحد لا يقول بفرضية ذلك. قلنا: نعم إن الله تعالى عَّلق البقاء بتسافد الحيوانات، وركب الشهوة في طباعهم، فتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل، فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضًا عليهم؛ لكيلا يمتنعوا عن ذلك؛ فإن الطبع أدعى إلى اقتضاء الشهوة.

فأما الاكتساب في الابتداء فكدٌّ وتعبٌ، وقد تعلق به بقاء نظام العالم، فلو لم يُجعل أصله فرضًا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه؛ لأن ليس في طبعهم ما يدعو إلى الكدِّ والتعب، فجعل الشرعُ أصله فرضًا -لكيلا يجتمعوا على تركه- فيحصل ما هو المقصود”.([10])

ثالثًا: بروز المنحى المقاصدي في طريقة عرض الكتاب:

ويبدو المنحى المقاصدي واضحًا عند تناوله لمسألة: “هل الاشتغال بالكسب أفضل أم التفرغ للعبادة؟ “قال بعض الفقهاء: الاشتغال بالكسب أفضل، وأكثر مشايخنا على أن التفرغ للعبادة أفضل. وجه القول الأول: أن منفعة الاكتساب أعم؛ فإن ما يكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة، والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه؛ لأنه بفعله يُحصِّل النجاة لنفسه، ويُحصِّل الثواب لجسمه، وما كان أعم نفعًا فهو أفضل؛ لقوله e: “خير الناس من ينفع الناس”([11])، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة؛ لأن منفعة ذلك أعم، ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة؛ كما اختاره الخلفاء الراشدون y؛ لأن ذلك أعم نفعًا… والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات، من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب، وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة.

وجه القول الآخر وهو الأصح: أن الأنبياء والرسل عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات، ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثرَ من اشتغالهم بالكسب، ومعلومٌ أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات. ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام، وكذا الناسُ في العادة إ-ذا حزبهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم- يشتغلون بالعبادة لا بالكسب، والناس إنما يتقربون إلى العُبَّادِ دون المكتَسِبين.

والدليل عليه: أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعًا، فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة، وهي العبادة، والدليل عليه: أن “النبي e لما سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: أحمَزُها -أي أشقُّهَا- على البدن”([12])، وإنما أشار بهذا إلى أن المرء إنما ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها، قال الله تعالى: ﴿‌وَنَهَى ‌النَّفْسَ ‌عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40-41]، والاشتغال بهذه الصفة في الابتداء والدوام في العبادات، فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء، ولكن فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس، فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداءً وانتهاءً فهو أفضل”.([13])

ثم عقد مفاضلة بين الغنى والفقر وأيهما أفضل للعبد، ومال إلى أفضلية الفقر للعبد، ومهما يكن ترجيحه فإن المنحى العقلي الحجاجي المصلحي قد ظهر واضحًا في ذكره للقولين، وما يمكن أن يستدل به لكل منهما.

ثم أفضى به الأمر إلى مسألة متفرعة عنها وهي: أن الشكر على الغِنَى أفضل أم الصبر على الفقر؟ وذكر أقوال العلماء في ذلك.

وبين الراجح عنده: “يوضِّحه أن الغني يحتاج إلى الفقير، والفقير لا يحتاج إلى الغني؛ لأن الغني يلزمه أداء حق المال، فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئًا من ذلك لم يجبروا على الأخذ، ويحمدون شرعًا على الامتناع عن الأخذ، فلا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم، والله تعالى يوصل إلى الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم، فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء، والفقراء لا يحتاجون إليهم، بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر، ولا يتأمل في المعنى. فاتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر، وفي كل خير”.([14])

ومما تجب ملاحظته هنا: أن مقصود الإمام الشيباني بالفقير هو من تجاوز حد الكفاية لا من يعيش على الكفاف أو تحت خط الفقر، ومما يوضح ذلك قوله: “لو أن الناس قنعوا بما يكفيهم، وعمدوا إلى الفضول فوجهوها لأمر آخرتهم كان خيرًا لهم”([15])، وذلك لأن الزائد على حد الكفاية يحاسب عنه المرء يوم القيامة.

وهذا يدفعنا إلى التطبيق العملي في السياسة الاقتصادية الإسلامية على مدار تاريخ الإسلام: فهناك ما فوق الزكاة المفروضة من صدقات لازمة على الأغنياء لكفاية الفقراء، ولدعم المصالح والمشروعات العامة، وكذلك ما يتعلق بالوقف والنذر وغيرها، وكذلك ما يؤخذ من الأغنياء في الحالات الاستثنائية؛ كتجهيز الجيوش حال الحرب، وفي هذا يقول الشاطبي: “إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الـمُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وأرهَقت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلاً- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن يظهر مالٌ في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار أو غير ذلك؛ كيلا يؤدي تخصيص بعض الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلاً من كثير، بحيث لا يجحف بأحد، ويحصل الغرض المقصود.

وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا؛ فإن القضية فيه أخرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار… فإذا عُورِض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا يُتمَارى في ترجيح الثاني عن الأول، وهو مما يُعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد والملاءمة”.([16])

رابعًا: تناول بعض مسائل المعاملات المالية والاقتصادية:

تناول الإمام الشيباني بعض مسائل المعاملات المتعلقة بالكسب وأنواع الأنشطة الاقتصادية، يقول: “المكاسب أربعة: الإجارة والتجارة والزراعة والصناعة، وكل ذلك في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء.  وقال بعضهم: المزارعة مذمومة… إلا أنه وجّه ذلك بما إذا اشتغل الناس كلهم بالزراعة، وأعرضوا عن الجهاد حتى يطمع فيهم عدوهم، وهو ما صرحت به الأحاديث”.([17])

ثم عقد نوعًا من المفاضلة والترجيح المقاصدي بين الزراعة والتجارة، يقول: “اختلف مشايخنا رحمهم الله في التجارة والزراعة، قال بعضهم: التجارة أفضل؛ لقوله تعالى: ﴿‌وَآخَرُونَ ‌يَضْرِبُونَ ‌فِي ‌الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20] والمراد بالضرب في الأرض: التجارة، فقدمه في الذكر على الجهاد الذي هو سَنَام الدين وسنة المرسلين، ولهذا قال عمر t: لأن أموت بين شُعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحبُّ إلي من أن أُقتل مجاهدًا في سبيل الله. وقال e: “التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة”([18]). وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن الزراعة أفضل من التجارة؛ لأنها أعم نفعًا؛ فبعمل الزراعة تحصل ما يقيم المرء به صلبه، ويتقوى به على الطاعة، وبالتجارة لا يَحصُلُ ذلك ولكن ينمو المال، وقال e: “خير الناس من هو أنفع للناس”([19])، فالاشتغال بما يكون نفعه أعم يكون أفضل؛ ولأن الصدقة في الزراعة أظهر، فلا بد أن يتناول -مما يكتسبه الزراع- الناس والدواب والطيور، وكل ذلك صدقةٌ له. قال e: “ما غرس مسلم شجرة فيتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة”([20]). ثم الكسب الذي ينعدم فيه التصدق لا توجد فيه الأفضلية، كعمل الحياكة -مع أنه من التعاون على إقامة الصلاة- عرفنا أن ما يكون التصدق فيه أكثر من الكسب فهو أفضل”.([21])

وفي هذا ترجيح بمجموعة من المرجحات المقاصدية، ومنها: القاعدتين المقاصديتين: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة([22])، النفع المتعدي أفضل من القاصر([23])، وكذلك الترجيح بالمقاصد الجزئية المترتبة على كل من الزراعة والتجارة، فرجح الزراعة لرجحان المصالح المترتبة عليها على المستوى الكلي والجزئي.

ثم بين أن من الواجب على من أراد التجارة أن يتعلم ما يتحرز به عن الربا والعقود الفاسدة، يقول: “فإن أراد التجارة يفترض عليه تعلم ما يتحرَّزُ به عن الربا والعقود الفاسدة، وإن كان له مالٌ يُفترضُ عليه تعلمُ زكاة جنس ماله؛ ليتمكن به من الأداء. وإن لزمه الحج يفترض عليه تعلُّمُ ما يُؤدِّي به الحج، فهذا معنى: علم الحال. وهذا علمٌ؛ لأن الله تعالى حكم ببقاء الشريعة إلى يوم القيامة، والبقاء بين الناس يكون بالتعلم والتعليم، فيفترض التعلم والتعليم جميعًا”.([24])

ومما ينبغي التنبيه عليه: أننا إذا أردنا أن نذكر مصدرًا من التراث الإسلامي المتقدم جدًّا، تناول الكثير من أهداف التنمية المستدامة بنوع من التفصيل الشامل والإيضاح التام، فإننا لن نجد أفضل من كتاب الكسب لمحمد بن الحسن الشيباني، فقد فصل الكثير من أهداف التنمية المستدامة، وطرق علاجها والتعامل معها وفق رؤية شرعية واضحة مستفيضة، كالفقر والجوع والملبس والمسكن والتعليم والعمل والكسب وعدم التواكل والبطالة، وممارسة الأنشطة الاقتصادية؛ كالزراعة والصناعة والتجارة، وبيان معوقات التنمية المستدامة؛ كالإسراف والفساد والبطالة والركود والتكاسل وتفضيل القعود عن العمل من بعض الناس وغيرها…

يقول عن الأمور التي يقوم بها قوام أبدان بني آدم: “إن الله تعالى خلق أولاد آدم عليه السلام خلقًا لا تقوم أبدانهم إلا بأربعة أشياء: الطعام والشراب واللباس والكنُّ أي المسكن…”([25])، ثم بين أهمية كل منها وضرورتها للناس من خلال النصوص الشرعية.

ويقول: “والحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال: الإفساد والسرف والـمَخِيلة والتفاخر والتكاثر”.([26])

ويبين دور الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني وبنوك الطعام في عون المحتاجين، حيث قال: “ويُفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز فيه عن الخروج والطلب”.([27])

خامسًا: تعقيب عام على الكتاب:

وختامًا: فإن كتاب الإمام الكبير محمد بن الحسن الشيباني تضمن بعض التفصيلات التفصيلات الفقهية السهلة المأخذ المتعلقة بالكسب، بين فرضية العلم وفرضية الكسب والاستدلال لكل ذلك، وبين بعض الأمور المحرمة والمكروهة في الكسب والتعامل مع النعم والمنن الإلهية، كما أقحم بعض المسائل البعيدة عن موضوعه؛ ككراهة لبس الحرير للرجال، واتخاذ سرير الذهب والفضة، ونقش المساجد وزخرفتها…

كما ظهر أثر مدرسة الرأي التي ينتمي إليها بصورة واضحة في هذا الكتاب، فعلى الرغم من كثرة استدلال الإمام الشيباني بالنصوص إلا أن منحاه العقلي التعليلي لا يقل بحال عن المنحى النصي، وتعليلاته قد يكون فيها نوع من المنحى العرفاني الذوقي أو القياس العقلي على غير علة منضبطة، مما يجعل الخلاف معه في بعض تعليلاته أقرب من الوفاق، على عكس شيخه أبي يوسف الذي أورد تعليلات مقاصدية بارزة إلا أنه كان كثيرًا ما يحتمي بالنص ويقف خلفه، فيقوم بسرد الكثير من النصوص ثم يكون الترجيح المقاصدي المقتضب في نهايتها، وبناء على دلالتها الواضحة الصريحة.

بقيت الإشارة إلى تحقيق وطبعات الكتاب:

فهو تحقيق علمي في غاية الإتقان، خدم الكتاب خدمة كبيرة، وصدَّره بمقدمة عن منهج التحقيق، والتعريف بالمؤلف والنسخ السابقة، والنسخة المخطوطة التي اعتمدها في التحقيق، ورواة الكتاب. كما اجتهد في تخريج الآيات والأحاديث والآراء والأقوال الواردة في الكتاب.

ولكتاب “الكسب” عنوان آخر هو: “الاكتساب في الرزق المستطاب“، كما ذكره الإمام محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال (ولد 130هـ، ومات 233هـ) في بداية اختصاره لهذا الكتاب، وذلك استجابة لبعض أصدقائه الذين طلبوا منه ذلك.

وهذا المختصر مطبوع بتحقيق الشيخ محمود عرنوس القاضي بالمحاكم الشرعية، وطبع في دار الكتب العلمية-ببيروت عام 1406هـ/1986م، وهو لا يختلف كثيرًا عن الأصل.

كما أن الإمام السرخسي الحنفي (ت: 483هـ) قام بشرح مختصر محمد بن سماعة لكتاب “الكسب“، وذكر هذه التسمية ولم يذكر الأخرى.

وأما الفهارس العلمية: فقد أورد المحقق فهرسًا للآيات القرآنية، ثم فهرسًا للأحاديث النبوية، ثم فهرسًا للآثار، ثم فهرسًا للأشعار، ثم فهرسًا للمصادر والمراجع، ثم فهرسًا للأعلام، ثم فهرسًا للموضوعات والأبحاث.