أثر العدل الإسلامي في النهوض بالعمران وتحقيق التنمية

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن اسم العدل مشتقٌّ من المعادلة بين شيئين، وهو بذلك يقتضي وجود شيء ثالثٍ وسطٍ بينهما، وقد جاء في كلام العرب استعمال اسم الوسط بمعنى العدل في بعض الأحيان، فقد أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: “والوسط العدل”(1)، وعن سفيان الثوري في تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. أي: عدلا وفضلًا(2).
وقد عرَّف ابن عاشور العدلَ في تفسيره “التحرير والتنوير” بأنه: “مساواة بين الناس أو بين أفراد أمة: في تعيين الأشياء لمستحقِّيها، وفي تمكين كلِّ ذي حقٍّ من حقه، بدون تأخير(3)، وقال أيضا: “وليس العدلُ في توزيع الأشياء بين الناس سواءً بدون استحقاق(4).
ولما كانت نفوس الناس مجبولةً على حب الماديّات والماليّات والوجاهات والتسلُّطات، وما أورثها ذلك الحبُّ من سوء تمييز بين ما لها وما عليها، وبين حقِّها وحق غيرها، وما تولَّد عن ذلك من انخرامٍ لقاعدة العدل والإحسان التي أمر الله بها، وقاعدة التعاون على البر والتقوى التي حثَّ الله المؤمنين عليها – عَمَدَت الشريعة إلى تعيين أصحاب الحقوق، وبيان أولوية بعض الناس بالاختصاص ببعض الأشياء، أو بيان كيفية تشارُكهم في الانتفاع بما يقبل التشارُك على طريق فطريٍّ عادلٍ، لا تجد فيه النفوس نُفرةً، ولا تحسُّ في حكمه بهضيمة، فهي لم تعتمد في هذا على المصادفة، ولا على الإرغام، ولكنها توخَّت نظر العدل والإقناع حتى لا يجد الـمُنصف حرجًا، ثم لما أحكمت سُداه وركَّزت مُداه أمرت الأمة بامتثاله، وحدَّدته تقريبًا لنواله؛ ولهذا كان العدل واجبًا في جميع التصرُّفات بين الناس، فمتى بَنوَا تصرفاتِهم على هذا الأصل تحسَّنت طُرق أدائهم في الحياة، وترسَّخ التعاوُن والتعامُل العادل بينهم، وحصلت الثقة بين أفراد المجتمع، وقلَّت الخصومات والمشاجرات، وحُسِمت سبل المنازعات في معظمها.

أثر العدل في تحقيق التنمية والنهوض بالمجتمعات وتعزيز التعاون الإنساني:

ولئن كانت الشريعة قد ألزمت الناس بالعدل في جميع تصرُّفاتهم بإيجابه عليهم، فإننا نجدها في المقابل قد ندبت إلى الفضل، وحثَّت المسلمين عليه؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، والفضل هو العفو عن بعض الحق، والمحاباة في المعاملة كما قاله العلماء.
وبناءً عليه فإن ما يقع من وجوه الفساد في تصرُّفات الناس المختلفة مرجعُه أو نتيجتُه الخروج من حال العدل إلى حال الجور والظلم؛ لأنه لا يمكن أن يوجد فسادٌ كان العدل علَّةَ وقوعه، قال الماوردي في كتابه “تسهيل النظر”: “فَإنَّك لن تَجِد صلاحا كَانَ الْجور عِلّة وجوده، وَلَا فَسَادًا كَانَ الْعدْل عِلّة ظُهُوره، وَإِنَّمَا تجتذب الْعِلَلُ إِلَى الْأُصُول نظائرَها(5).
ولمـَّا كان نظام الكون كله مبنيًّا على تعاون جميع أجزائه وتكاملها فيما بينها متجانسةً وغير متجانسة، كان الإنسان الذي هو جزء من هذا الكون لا يمكنه أن ينفرد بمصلحة نفسه، بل لابد له من الاستعانة ببني جنسه، حيث قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
فالتعاون ركيزةٌ من ركائز العمران فَطَر الله البشر عليها وأوجبها عليهم، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذُل هذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس، وفسد أمر دنياهم ودينهم، ومن ثم فإن مصالحهم لا تقوم إلا بتعاونهم، وصلاح التعاون لا يكون إلا بالعدل الذي بُعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وجُعِل هو الأصل في التصرُّفات كلها؛ حيث قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
وانطلاقًا من هذا المعنى ذكر علماؤنا أن مناظرة غير المسلمين وأهل البدع ودعوتَهم يجب أن تكون قائمةً على العدل، فلا يُنكر ما عندهم من حق، كما لا يُسكَت عما عندهم من باطل.
قال ابن تيمية في “منهاج السنة”: “وَاللَّهُ قَدْ أَمَرَنَا أَلَّا نَقُولَ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَأَلَّا نَقُولَ عَلَيْهِ إِلَّا بِعِلْمٍ، وَأَمَرَنَا بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا إِذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ – فَضْلًا عَنِ الرَّافِضِيِّ – قَوْلًا فِيهِ حَقٌّ أَنْ نَتْرُكَهُ أَوْ نَرُدَّهُ كُلَّهُ، بَلْ لَا نَرُدُّ إِلَّا مَا فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ دُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ(6).
ولما كان القضاءُ أكثرَ مجالات الحياة احتياجًا للعدل، بل هو ركنه الركين وأسُّه المتين، جاء الأمر به متكرِّرًا في آياتٍ متعددة وبصيغ مختلفة، قصد التنبيه على خطورته في الحياة، وتأكيد وجوبه على القضاة فيما أُسنِد إليهم من الحكم في الخصومات.

المظاهر العملية للعدل في الاقتصاد الإسلامي:

ولم يقتصر اهتمام القرآن بالعدل، كمقصد من مقاصد الشريعة يجب نشره وإشاعته في المجتمع فحسب، بل اعتنى أيضا بوسائل إقامته، وذكر أخصَّ ما يتعلق به من الأمور، وهو الميزان والمكيال؛ لأن بهما تُضبَط مقادير الأشياء وتُحدَّد مقاييسُها، ويدخل في هذا المعنى كل ما كان الغرض من وجوده ضبط مقادير الأشياء، وتحديد مقاييسها؛ حيث قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 – 9].
ولما كان العدلُ ميزانَ الله المبرَّأ من كل زلَّة، ووسيلةَ استقرار نظام الأمم، عدّه الحكماء من جملة الفضائل، فقالوا: الإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدًّا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة بين هذا وذلك.
وعلّق الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب” على هذا بقوله: وهو المراد من قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، “وَمَدَارُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِعَايَةِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ فَشَرْعُ الْيَهُودِ مَبْنَاهُ عَلَى الْخُشُونَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ النَّصَارَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ التَّامَّةِ، وَشَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَسِّطٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ مِنَ الْكُلِّ(7).

(1) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143] (6/ 21) حديث رقم (4487).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (8/ 2727) في تفسيره (15393).
(3) التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ (5/ 94).
(4) التحرير والتنوير (5/ 94).
(5) تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك، أبو الحسن الماوردي، تحقيق: محي هلال السرحان وحسن الساعاتي، الناشر: دار النهضة العربية – بيروت (ص: 189).
(6) منهاج السنة النبوية، أبو العباس بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1406 هـ – 1986 م (2/ 342).
(7) تفسير الرازي “مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير”، محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ (6/ 403).

Comments are disabled.