أحكام الفقه والاقتصاد الإسلامي في ضوء النظر التقعيدي المقاصدي (المعقولية والتعبد)

الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

تناول الفقه الإسلامي ودراسته في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية من الأمور المتجددة على مدار التاريخ الإسلامي، فالمقاصد هي روح الشريعة وقلبها النابض، أو فلسفة التشريع كما نسميها، وقد كثر الحديث حولها، كما كثرت الأبحاث والدراسات حولها، وهو ما دفعنا إلى كتابة هذا المقال الإطاري الناظم؛ لتسليط الضوء على الفرق بين الأحكام الفقهية والقواعد والمقاصد الشرعية، وبيان أثر القواعد والمقاصد في أحكام الفقه الإسلامي، الذي يعتني بالأحكام العملية، أي تصرفات الناس سواء في الجانب العبادي أو المعاملاتي.
والحكم: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، ويشمل الأحكام التكليفية الخمسة: الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
وأما القاعدة: فهي الأمر الكلي المنطبق على جميع أو غالب جزئياته. أو هي قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها. (1)
والمقاصد: هي الغايات التي وضعها الشارع لكل حكم شرعي فرعي -على سبيل الخصوص والتعيين- لتحقيق مصلحة المكلفين في الدارين”. (2)

أولاً: مفهوم المعقولية والتعبد.

المعقولية: هي إمكانية تعليل الأحكام الشرعية بعللٍ وحِكَمٍ ومصالح تدركها العقول، وعليه إلحاق ما تجدد من الوقائع إذا تحققت نفس العلة، وهي أداة اجتهادية واسعة.
والتعبد: ما لا يعقل معناه على الخصوص، فيجب الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان. (3)
فالأحكام التعبدية: هي التي لا يدرك العقل مقصدها وحكمتها؛ لقصوره وخفاء وجه المصلحة فيها، وإن كانت لا تخلو من حكمة وغاية ومقصد، وعدم العلم بها لا يعني انتفاءها، أو تشريعها لغير حكمة، وإنما يدل على خفاء ودقة وجه المصلحة والحكمة فيها، وقصور بعض العقول عن إدراكها.

ثانيًا: القواعد الحاكمة للفقه الإسلامي من جهة المعقولية والتعبد.

إذا نظرنا إلى أحكام الفقه الإسلامي من جهة المعقولية والتعبد، فإن النظرة المقاصدية التقعيدية محكومة بثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: الأصل في الأحكام المعقولية. (4)
فكل أحكام الشريعة لها علل ومقاصد معقولة المعنى، وتدرك العقول محاسنها ومراميها ومصالحها؛ لأن المقصود من وضع الشرائع تحقيق مصلحة الخلق في الدارين، وهو ما يبعث في نفوس المكلفين الرغبة في الامتثال والعمل، الذي مبناه على الاختيار وعدم الإكراه، وهو ما يتسق مع مقصود الشارع بأن يكون المكلف عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا.
وقد نص القرآن عن العديد من المقاصد، كقوله تعالى في مقصود توزيع الفيء: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ ‌دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]، وقوله في مقصود الصيام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وقوله في مقصود الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ‌صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103].
وإذا نظرنا إلى العديد من الأدلة الشرعية الأصولية؛ كالقياس، والاستحسان، والاستصحاب، وسد الذرائع…، التي هي أدوات المجتهد في النوازل والمستجدات، وجدناها مبنية على معقولية الأحكام… ويستثنى من ذلك بعض أحكام العبادات، وهو ما سنبينه في القاعدة الثانية.
القاعدة الثانية: الأصل في العبادات التعبد أو التوقف أو التوقيف. (5)
فبعض أحكام العبادات وأركانها وشروطها يغلب عليها جانب التعبد، وقد تخفى مقاصدها الجزئية التفصيلية، فيصعب على العقل البشري القاصر إدراك مقصودها، وهي استثناء من القاعدة السابقة.
وإذا كانت بعض أحكام العبادات لا تفهم مصالحها التفصيلية؛ كأوقات الصلوات وعدد الركعات، والمقدرات الشرعية كمقدار الزكاة والكفارات وتفاصيل أحكام الميراث والوصية… فهي تعبدية بهذا الاعتبار، ويمكن القول بأن مقصودها ضبط وجوه المصالح، وعدم اضطرابها، قال الشاطبي: “وأما العبادات فلها معنى مفهوم وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو ترك الناس والنظرَ لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير وأسبابًا معلومة لا تتعدى؛ كالثمانين في القذف والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان، وخصّ قطع اليد بالكوع والنصاب المعين… وكذلك الأشهر والقروء في العدد والنصاب والحول في الزكوات”. (6)
وهذه الأحكام تقتضي من المكلفين الامتثال والإتيان بها طاعة لله تعالى دون التفات إلى مقاصدها الجزئية الخفية عن مداركنا؛ لأنها تعبدية توقيفية، وهذا بخلاف مقاصدها العامة، وهو أن “العبادات وضعت لمصالح العباد على الجملة، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل” (7)، فمقصدها العام: هو الطاعة والانقياد والإذعان لله تعالى.
ومما تجب ملاحظته هنا: أن خفاء مقاصد بعض أحكام العبادات لا يعني خلوها عن المقصد والمصلحة، فكل حكم شرعه الله تعالى لمصلحة شرعية وحكمة بالغة، لكن بعضها يدِق ويخفى، وعدم وجدانها لا يدل على عدم وجودها.
قال القرافي: “وأما تعيين أوقات العبادات فنحن نعتقد أنها لمصالح في نفس الأمر اشتملت عليها هذه الأوقات وإن كنا لا نعلمها، وهكذا كل تعبدي معناه أنا لا نعلم مصلحة، لا أنه ليس فيه مصلحة طردًا لقاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضيل”. (8)
القاعدة الثالثة: الأصل في العادات أو المعاملات الالتفات إلى المعنى. (9)
فكل ما سوى العبادات من الأحكام مبناه على جلب المصالح، التي يمكن للعقل إدراكها وفهمها؛ فتدور أحكام المعاملات أو العادات مع المقاصد والمصالح والمحاسن الشرعية المعقولة حيث دارت. وعلى هذا ينبني فهم العلماء لأحكام العادات والمعاملات من جهة توسيع دائرة الاجتهاد في فهم النصوص المتعلقة بها، وكذلك في التفريع والتخريج عليها في النوازل والمستجدات؛ لأن لها معان مدركة ومعقولة.
قال ابن عاشور: “وكان حقًّا على أئمة الفقه أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادعي التعبد فيه إنما هو أحكام قد خفيت عللها أو دقت، فإن كثيرًا من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقي الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمة في معاملاتهم، وكانت الأمة منها في كبَد على حين يقول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ ‌مِنْ ‌حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]. وعلى الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي يتراءى منها أحكام خفيت عللها ومقاصدها ويمحِّص أمرها… وإذا جاز أن نثبت أحكامًا تعبدية لا علة فيها ولا يطلع على علتها، فإنما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأما هذه فلا أرى أن يكون فيها تعبدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها”. (10)

ثالثًا: بيان العلاقة فيما بين القواعد الثلاث المقاصدية:

هذه القواعد الثلاث تبين الرؤية المقاصدية التقعيدية المتكاملة للأحكام الشرعية من جانبي التعبد والتعقل، كما تبين ما يتسم به كل باب في الرؤية المقاصدية.
وتبين القاعدة الأولى أن كل حكم شرعي إنما شرعه الله تعالى لمصلحة شرعية وحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها. وأما القاعدة الثانية والثالثة فتبين خصوصية الباب المتعلقة به، فالأصل في العبادات التعبد أو التوقف من المكلف على نص الشارع، ولهذا فإنها تعلل بالعلل القاصرة التي لا يقاس عليها؛ لأنه يدخلها البدع المحدثة وغيرها.
وأما القاعدة الثالثة فتبين خصوصية باب المعاملات أو العادات، وهو ما عدا أحكام العبادات من أبواب الفقه الإسلامي، فإنها معقولة المعنى، فتعلل بالعلل المتعدية التي يقاس عليها، ولهذا جاءت أحكام المعاملات مجملة، وعللها متعدية؛ من أجل استنباط وقياس ما لم يرد بشأنه نص على ما ورد بشأنه نص.

رابعًا: المعاملات والأنشطة الاقتصادية في ضوء القواعد الثلاث المقاصدية:

وبناء على ما سبق فإن من أراد الوقوف مع أبواب المعاملات المالية والأنشطة الاقتصادية، فعليه أن يدرك أننا في المساحة الشاسعة من الشريعة المعقولة المعنى؛ التي تدرك العقول محاسنها ومصالحها، وأن الشارع أناطها بالمعاني والمقاصد والمصالح المدركة بالعقل، وجعل مبناها على القياس والعقل؛ لتعدد وتجدد صورها وتطبيقاتها في كل عصر.
وأن يعلم كذلك أن المقاصد الشرعية المعتبرة ليست قائمة على الهوى والتشهي، وإنما تدرك مقاصد الشريعة بالكتاب والسنة والإجماع، وليس بالهوى والتشهي. ولذلك فإنه لا يمكن تجاوز النصوص الشرعية الصريحة في حرمة الربا، تحت أي زعم من المزاعم أو مصلحة موهومة، أوردت الأمة بأسرها الهلاك والتخلف، بسبب الإيغال في مستنقعات الربا؛ استئناسًا ببعض الفتاوى المبنية على الهوى والمصالح الموهومة.
وأن يفرق بين المصلحة المعتبرة والمصلحة الملغاة والمتوهمة؛ لأنها قد تؤدي إلى مفسدة من حيث يظن أو يتوقع أنها مصلحة لجهله أو اتباعه الهوى.
بقيت الإشارة إلى: أن بعض المسائل تتفاوت نظرة العلماء إليها، فبعضهم يغلب فيها الجانب التعبدي فيوجب التوقف عند ما حده الشارع، وبعضهم يغلب فيها جانب المعقولية فيتوسع فيها بالاجتهاد والقياس، ومثالها: باب الزكاة، التي يتجاذبها النظران، جانب التعبد فهي من العبادات، وجانب المعقولية؛ لأنها ليست عبادة محضة كالصلاة والصيام والحج، بل هي عبادة فيها معنى الضريبة. وكذلك الحال بالنسبة لزكاة الفطر، والخلاف الفقهي حول إخراج القيمة أو الطعمة.

(1) انظر: المصباح المنير، للفيومي: 2/510، التعريفات، للجرجاني: 219، التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي: 569، المعجم الوسيط: 2/748، معجم لغة الفقهاء، لقلعجي: 354.
(2) أثر الاستدلال بالمقاصد الجزئية في فرق النكاح، د. عبد الناصر حمدان بيومي إبراهيم، ط1 دار الكلمة-مصر 1436هـ/2015م: 1/62.
(3) الموافقات: 2/318، 2/314.
(4) قواعد المقري: 1/296 ق(73)، الموافقات: 3/154.
(5) انظر: الموافقات: 2/300.
(6) الموافقات: 2/308-309.
(7) المصدر السابق: 1/321.
(8) الذخيرة: 1/67.
(9) الموافقات: 2/305.
(10) مقاصد الشريعة الإسلامية: 244-245.

Comments are disabled.