أنماط الطلب الشاذة من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتورة/ هيام سامي الزعبي
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
لقد أدى التطوُّر العالمي في المجال التكنولوجي، ووسائل المعرفة والاتصالات والتجارة الخارجية إلى إحداث ترابط كبير بين دول العالم، وكان لذلك آثار كبيرة على دول العالم الإسلامي، وتجلت بعض الآثار السلبية لهذا الترابط، في صياغة جديدة للطلب الاستهلاكي، والتحكم بذوق المستهلك وخياراته والاستهلاكية، وقد ساعدَ على ذلك ظهورُ الدعاية الاستهلاكية وليدة العولمة، والتي بدورها أدت إلى انحراف أنماط الاستهلاك عن الرشد الذي يفترض أن يكون لدى المستهلك المسلم، فظهرت أنماط الطلب الشاذة عن الطلب الرشيد وارتبط ذلك بقيم بعيدة كل البعد عن قيم الاقتصاد الإسلامي القائمة على أساس التوازن، والاعتدال، والاستهلاك من أجل إشباع الحاجة لا من أجل الاستهلاك.
(أ) أنماط الطلب الشاذة:
تُعرف أنماط الطلب بصفة عامة بأنها: “الأساليب التي تتبعها الأسر في الإنفاق على المجالات المختلفة، وهي لا تقتصر على طلب السلع الغذائية، وإنما تشمل الطلب على إشباع الحاجات الاجتماعية والثقافية؛ كتقديم الهدايا والاحتفالات والمناسبات”.
وقد كان للدعاية الرأسمالية تأثيرٌ كبير على تغيير أذواق المستهلكين وخياراتهم وطلبهم على السلع، حيث أعادت صياغة الطلب الاستهلاكي ومن ثم الطلب الكلي، فانحرفت أنماط الاستهلاك عن الرشد الذي يفترض أن يكون لدى الفرد، وظهرت أنماط الطلب الشاذة والتي يمكن تعريفها بأنها: “الأساليب التي تتبعها الأسر في إنفاق نقودها لإشباع حاجاتها المختلفة، بعيدا عن الرشد الاقتصادي“، وهي عادة ما ترجع إلى ثلاثة أسباب أو أنماط أساسية هي:
- أسلوب المسايرة “تأثير العربة Effect Wagon The Band
ووفقا لهذا الأسلوب ينفق الأفراد أموالهم مسايرة للآخرين الذين يستهلكون سلعة ما من السلع، والمستهلك لا يميل إلى السلعة إلا لأنه وجد الآخرين يستهلكونها، والعلاقة هنا طردية بين الطلب الفردي على السلعة وبين الطلب السوقي عليها، وتلعب الدعاية الإعلانية دورًا كبيرًا في جذب المستهلكين واستغلال العلاقة الإيجابية بين السعادة وبين أثر المسايرة، إلا أن هذه السعادة غير دائمة؛ لأن الأفراد يندفعون للشراء والاقتراض. - أسلوب الانفرادية The Snob Effect:
ويرتبط هذا الأسلوب كثيرًا بالطبقات العليا من المجتمع أكثر من الطبقات الأخرى، حيث يظهر هذا النمط بسبب تحديث المجتمعات وتطورها، والدافع وراء الانفرادية قد يكون جوهريا ذاتيا، أي برغبة من الفرد في فعل ما يفعله، وقد يكون الدافع خارجيا بسبب الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها. والفرد في هذه الحالة يندفع إلى الاستهلاك رغبة في التمُيز والظهر مترفِّها باستهلاك سلعة معينة، أو البقاء ضمن مجموعة قليلة متميزة عن غيرها، والعلاقة هنا عكسية بين الطلب الفردي على السلعة وبين الطلب السوقي عليها. - أسلوب المظهرية The Veblen Effect:
ويسمى الاستهلاك التفاخري، وهنا يُقبل الأفراد على استهلاك السلعة عندما يرتفع سعرها، حيث يعتبرون ارتفاع أسعار هذه السلع علامة على أنها من وسائل الشهرة والوجاهة للمترفين، وهو نمط يزيد من حجم الاستهلاك في المجتمعات التي لا تضع قيودًا على الاستهلاك بحيث يرتبط استهلاكها المظهري بسلع أو خدمات معينة ويفوق درجة الإنفاق عليها الإنفاق على السلع الضرورية، والمنفعة التي ترتبط بمثل هذا النوع من السلع ترتبط بالسعر في المقام الأول، والعلاقة هنا طردية بين الطلب الفردي على السلعة وبين سعر السلعة.
ويعني ما سبق بيانه من أنماط الاستهلاك: أن المستهلكين لا يرتبطون في استهلاكهم بحاجة حقيقية في بعض الأحيان. كما يظهر أن الاستهلاك غير الرشيد للسلع والموارد يتسبب في أزمة كبيرة خاصة في الدول النامية، فالنزعة الاستهلاكية تؤدي إلى خسائر كبيرة عندما يتجاوز الاستهلاك الحاجات الحقيقية، ويزداد الاعتماد على الاستيراد في تلبية هذه الحاجات، مما يعود بآثارٍ سلبية على الدول الإسلامية، وأيُّ اقتصادٍ يستورد أكثر مما يصدر لابد أن يقع في جملة من الآثار الاقتصادية السلبية منها:
أولاً: ارتفاع معدل البطالة: فمن أكثر المشكلات التي تواجه المجتمعات وجود عامل عاطل عن العمل وهو بحاجة إلى العمل وقادر عليه، وإن إهدار الموارد البشرية وعدم استغلالها بالشكل الصحيح يُنشؤ عنه ما يُسمَّى بالبطالة، وأخطر أنواعها: البطالة الإجبارية، والتي تعني وجود الطبقة العاملة القادرة على العمل واستعدادها للعمل بالأجر السائد ومع ذلك لا تجده، والنتيجة هي ضعف الإنتاج، وتراجع في مستوى الدخول، وعجز في الموازنة العامة نتيجة انخفاض الإيرادات العامة وحصيلة الضرائب بسبب تراجع مستوى النشاط الاقتصادي، وتزايد تعويضات البطالة، ومدفوعات الضمان الاجتماعي، وبالتالي زيادة الإنفاق الحكومي فيحدث العجز، وتضطر الدول للاستدانة فتواجه مشكلات أخرى بسبب المديونية.
ثانياً: المديونية: يؤدِّي تفاقم المديونية الخارجية إلى انعكاسات سلبية على اقتصاد الدول العالم الإسلامي، حيث يشكِّل عائقًا أمام عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما يؤدِّي إلى انخفاض معدلات الاستثمار، وإضعاف القدرة على التمويل، وانخفاض في حصيلة المدخرات المحلية وعوائد الصادرات.
(ب) وسائل مواجهة الاقتصاد الإسلامي لأنماط الطلب الشاذة:
واجه الاقتصاد الإسلامي أنماط الطلب الشاذة من خلال جملة من الوسائل هي:
أولا: وضع الضوابط الشرعية للاستهلاك:
وضع الإسلام جملة من الضوابط اعتبرت هي ضوابط الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي وتتجلى هذه الضوابط فيما يلي:
- تحديد وظيفة الاستهلاك في تحقيق غاية معينة، وهي إدامة وجود الإنسان والمحافظة على طاقاته الجسدية والعقلية والروحية، وذلك من أجل القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض وعمارتها.
- ضبط اتجاه الاستهلاك: حيث حصر الإسلام الطلب الاستهلاكي بالطيبات وحرم كل ما يضر الإنسان.
- ضبط درجة الاستهلاك: حيث دعا الإسلام إلى الاعتدال في الاستهلاك، فنهى عن الإسراف والتبذير.
- تحديد سلم أولويات الاستهلاك الاجتماعي: وذلك بتوجيه الاستهلاك لتأمين حاجات الفرد حسب الأهمية (الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات).
- تعظيم البعد الأخروي والإيثاري: حيث حفز الإسلام لدى المسلم الرغبة في الثواب الأخروي إلى جانب المنافع الدنيوية، والذي أثَّر بدوره على الأخلاق الاجتماعية الفاضلة وقيم الإيثار والكرم والإحسان.
- توطين الطلب الاستهلاكي: وذلك بعدم توجيه تيار الإنفاق الاستهلاكي للخارج والتحوُّل نحو الاستيراد، والذي تظهر آثاره السلبية على الفرد والمجتمع واقتصاد الدولة.
- عدم تشويه الطلب الاستهلاكي: بتحريم كل السبل الملتوية للإغراء وبالتصدي للدعاية الاستهلاكية المضللة للمستهلك، وكل ما يؤدي إلى الشَّرَه الاستهلاكي زيادة على الحاجة أو الدخل، مما يتسبب في حصول مديونيات، فالمستهلك في الإسلام يستهلك ليعيش لا يعيش ليستهلك.
ثانيا: الضبط الأخلاقي للجنوح الاستهلاكي:
غالبا ما يقف وراء الجنوح الاستهلاكي انحرافٌ أخلاقيٌّ وتضخُّمٌ في مشاعر الكبر والعُجْب والرغبة في المباهاة، وقد عَمِل الإسلام على التصدي لهذه الأخلاق الذميمة من خلال كثير من التوجيهات التي جاءت بها السنة النبوية ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا»(1)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»(2). كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»(3).
ومثل هذه التوجيهات تهذِّب النفوس وتخلع عنها نوازع الكبر والرياء والمظهرية، فتتصدى لأنماط الاستهلاك الشاذة وتضع الاستهلاك في إطار الاعتدال والتوازن وتحقيق الغايات المرجوة من وارئه.
ثالثا: تأكيد أحكام الاقتصاد الإسلامي على أهمية تطبيق استراتيجيات التنمية الاقتصادية المتعلقة بالتجارة الخارجية، ووصولًا إلى توطين الطلب الاستهلاكي. فبلا ريب أدى الواقع المعاصر إلى ظهور الأنماط الاستهلاكية الشاذة بما صحبته من آثار على الاقتصاد القومي، ولابد من العمل على الحدّ من انتشار هذه الأنماط من خلال ضبط التجارة الخارجية، والسعي إلى توطين الطلب الاستهلاكي بكافة الوسائل والأدوات المتاحة والموافقة لأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا يتطلب سياسة شرعية واعية للواقع الذي صارت إليه المجتمعات الإسلامية، وسياسة شرعية تدرك المآلات فتتحرى ما يحقق المصلحة وتتجنب ما قد يؤدي إلى آثار سلبية تضر باقتصاد الأمة الإسلامية، وقد جاء الاقتصاد الإسلامي في سبيل علاج هذه الخلل الاقتصادي بعدد من المبادئ تشكل فيما تشكل استيراتيحية متكاملة تتصدى لمثل هذا الانحراف تذكرها الباحثة على وجه الإجمال:
- الحث على العمل والإنتاج.
- مراعاة سلم الأولويات في الإنتاج.
- تحريم الفائدة الربوية.
- سيطرة الدولة على الموارد المحلية وتوجيه السياسة الاقتصادية بما يحقق الحاجات وفقا لمنظومة الأولويات.
- النهوض بقطاعي الزراعة والصناعة.
- تطبيق السياسات التجارية التي تحقق المصلحة العامة.
- الاعتماد على المصادر الداخلية للتمويل.
- التأكيد على أهمية المشاركة الشعبية.
- الاستفادة من التطور التكنولوجي.
- الحث على التعاون والتكامل بين الدول الإسلامية.
وإن تفعيل هذه المبادئ وتطبيقها على أرض الواقع يضمن تحقيق الاستهلاك الرشيد الذي يرغبه الاقتصاد الإسلامي، فيشجع على استغلال الموارد الاستغلال الأمثل، ويحقق التنمية المنشودة، ويتلافى الآثار السلبية التي يوجدها الاستهلاك الشاذ.
(1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء (7/ 141) حديث رقم (5788)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه وما يستحب (3/ 1653) حديث رقم (2087).
(2) أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه (3/ 1653) حديث رقم (2088).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (1/ 102) حديث رقم (106).