النظم المالية الإسلامية وتمويل التنمية المستدامة: إحياء الأرض الموات (3/3)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
تناولنا في المقالين السابقين التعريف بإحياء الأرض الموات، وأهم أحكامه الشرعية، ودورانه على المصلحة، والعائد على الفرد والمجتمع والدولة من إحياء الموات، ونبين في هذا المقال التطبيقات المعاصرة لإحياء الموات.
التطبيق الأول: المدن والمجتمعات الزراعية الجديدة:
تحقق المدن والمجتمعات الزراعية والعمرانية الجديدة مقاصد الشريعة الإسلامية المتعلقة بحصول العمران وتحقيق الاستخلاف في الأرض، والعمل على إنشاء المجتمعات الزراعية والعمرانية الجديدة معتبر مقصود شرعًا، ويعد من أهم وسائل تحقيق التنمية المستدامة في عصرنا، ويوفر فرص عمل وحياة كريمة لعدد كبير من الأفراد، ويحقق التوسع الأفقي في الدول من أجل استغلال المساحات المتاحة للزراعة في إنتاج المحاصيل المطلوبة، وتصدير الفائض عن الحاجة والاستهلاك المحلي.
وخاصة في الأراضي الجديدة التي ليس فيها ملامح الاجتماع البشري والعمران المواكب له، ولهذا حض الشرع على إحياء الموات؛ من أجل إعمار هذه الأراضي والاستفادة منها.
وعلى الشركات والمصارف والمؤسسات المالية المعنية بالتنمية المستدامة، وتنمية التجارة والصناعة والزراعة؛ من أجل تحقيق رفاهية الفرد، وازدهار المجتمع، وتحقيق النمو الاقتصادي للدولة، أن تعلم أن الإسلام شرع إحياء الأرض الموات؛ كحل مثالي لتحقيق هذه الغايات، وفي ظل وسائل التكنولوجيا الحديثة، يمكن إقامة نماذج عملية لمجتمعات عمرانية جديدة تتكامل فيه كافة نواحي الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم وغيرها.
التطبيق الثاني: الأراضي المستزرعة بوضع اليد:
وهو ما يحدث في بعض البلاد كمصر وغيرها من الدول، حيث يقوم عموم الناس في المحافظات النائية ذات المساحات الشاسعة غير المستغلة من الأرض بوضع ما يشبه الأحجار قديمًا، كالأسوار الشائكة، أو الحواجز الرملية المرتفعة على مساحة من الأفدنة، ثم يشرع في تقنينها من خلال مجلس مدينة المحافظة، وفق القوانين المعمول بها في كل محافظة، ثم يقوم بزراعتها أو بيعها لمن يزرعها، فما هو المشروع والممنوع في هذا العمل؟
أولاً: قيام شخص بالتحجير لا ليزرع ولكن ليبيعها غيره ممن عنده قدرة على الزراعة، وقد يستمر لسنوات طويلة دون أن يجد مشتريًا، فلا هو زرعها ولا تركها لغيره ليزرعها، وقد يكون ثمن كل فدان منها أموال طائلة، وهذا الفعل غير جائز شرعًا؛ ولم يخالف أحد من الصحابة الكرام انتزاع عمر بن الخطاب الأرض من بلال بن الحارث المزني، فعن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْ نَثِقُ بِهِ مِنْ آلِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْعَقِيقَ، وَكَتَبَ لَهُ فِيهِ كِتَابًا نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ، أَعْطَاهُ مِنَ الْعَقِيقِ مَا أَصْلَحَ فِيهِ مُعْتَمَلًا، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ قَالَ: فَلَمْ يَعْتَمِلْ بِلَالٌ فِي الْعَقِيقِ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي وِلَايَتِهِ: إِنْ قَوِيتَ عَلَى مَا أَعْطَاكَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ مُعْتَمَلِ الْعَقِيقِ فَاعْتَمِلْهُ، فَمَا اعْتَمَلْتَ فَهُوَ لَكَ كَمَا أَعْطَاكَهُ، فَإِنْ لَمْ تَعْتَمِلْهُ قَطَعْتَهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ تَحْجُرْهُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ بِلَالٌ: أَتَأْخُذُ مِنِّي مَا أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِ اشْتَرَطَ عَلَيْكَ فِيكَ شَرْطًا». فَقَطَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِلَالٌ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ أَخَذَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْهُ».(1)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَذَ مِنْ مَعَادِنِ الْقَبِيلَةِ الصَّدَقَةَ، وَأَنَّهُ أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ قَالَ لِبِلَالٍ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْطَعْكَ لِتَحْجِزَهُ عَنِ النَّاسِ، لَمْ يَقْطَعْكَ إِلَّا لِتَعْمَلَ» قَالَ: فَقَطَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ الْعَقِيقَ».(2)
ثانيًا: وأما سعي الناس لشراء الأرض من الأفراد أو من الدولة أو استصلاحها بصورة مباشرة إذا كانت قوانين الدولة تسمح بذلك فهو جائز مشروع، بل مندوب إليه؛ لما فيه من تحقيق مقصود الخلق وهو إعمار الأرض واستنبات خيراتها، والإسهام في التنمية الزراعية والصناعية والتجارية والاقتصادية.
والواجب على جميع الدول أن تيسر لمواطنيها سبل التعمير والإصلاح الزراعي بشتى الطرق، بتوصيل المرافق، وتوفير الخدمات، وتقديم العون المادي والمعنوي، وفق خطة زمنية تمكنها من توفير احتياجات مواطنيها من خلال ما تنتجه في بلادها من محاصيل زراعية، وما يقوم عليها من صناعات وخدمات متعددة.
التطبيق الثالث: الصكوك الخضراء ودورها في تمويل مشاريع التنمية الزراعية:
وتشكل الصكوك أحد أهم المصادر المشروعة لتمويل التنمية الاقتصادية المستدامة، فحملة الصكوك ينشئون المشروع أو يوسعونه بأموالهم، وتدير المشروع الحكومة أو الشركة أو المصرف، فإن ربح المشروع استحق حملة الصكوك نسبة من الربح بحسب المتفق عليه في نشرة الإصدار، واستحق مدير المشروع الباقي، وإن خسر المشروع دون تعد أو تقصير من الإدارة يتحمل حملة الصكوك الخسارة.
ويمكن للمؤسسات المالية أو الشركات أو المصارف الإسلامية أن تقوم بتوجيه جزء من مدخراتها نحو المشروعات الإنمائية التي تسهم بشكل كبير في عملية التنمية الاقتصادية المستدامة، كالمشروعات الزراعية التي تقوم على فكرة إحياء الموات، والمشروعات الصناعية المرتبطة بها، واستغلال الطاقات والموارد الطبيعية المعطلة عن الإنتاج، والتي تلبي الاحتياجات الضرورية للمجتمع. وذلك من خلال طرح صكوك على عملائها لهذا الغرض.
وقد اشتدت الحاجة لمثل هذه الصكوك؛ لتمويل مشاريع التنمية الزراعية وإحياء الموات؛ بقصد تلبية الاحتياجات المحلية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وسد العجز والفجوة الغذائية التي تعاني منها بعض الدول، وخصوصًا بعد وقوع جائحة كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا، وآثارها السلبية على سلاسل الإمدادات الغذائية، فضلاً عن ارتفاع أسعار المحاصيل الأساسية كالقمح والذرة والأرز ونحوها.
وفي الختام ننوه إلى أهمية الالتفات إلى هذه الوسيلة من وسائل التنمية الاقتصادية المستدامة، وضرورة تيسير الدول على أبنائها وشبابها السبيل لتحقيق الكفاية والتنمية الزراعية، وأن تكون عونًا لهم على إحياء الأرض الموات، وطريقًا إلى توسيع دائرة الملكية؛ للاستفادة من الموارد المتاحة؛ وتحقيق التنمية الزراعية والاقتصادية المستدامة.
وكذلك ينبغي على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية الالتفات إلى هذه الوسيلة الاستثمارية الناجعة المؤثرة؛ التي تحقق التنمية الاقتصادية المستدامة، وتحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء للأمة بأسرها، كما تحقق الربح المادي الوفير.
هذا هو إحياء الأرض الموات، وهو أحد أهم أدوات التنمية الاقتصادية المستدامة في الفقه الاقتصادي الإسلامي، ويسهم في تحقيق المصلحة الخاصة والعامة، ويعود بالنفع على الفرد والمجتمع والدولة بل الأمة بأسرها، ويسهم في القضاء على البطالة والتضخم والفقر والجوع والمرض وغيرها مما تعانيه المجتمعات في عصرنا.
فهل تلتفت الدول المعاصرة إلى أهميته وتفعيله وتيسير السبل إليه، وعدم تعقيد الإجراءات أمام الأفراد للتمكن من إحياء الموات؟ وهل تقوم المؤسسات المالية الإسلامية بالاستثمار في هذا المجال؟ وهل نستفيد من تطبيقاته المعاصرة ونبتكر المزيد من الأمثلة والتطبيقات؟ وهل تدخل الصكوك الإسلامية بثقلها في هذا المجال؟ هذا ما نرجوه ونتمناه.
(1) تاريخ المدينة، لأبي زيد عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، ت: ٢٦٢هـ، ت: فهيم محمد شلتوت، طبع على نفقة: السيد حبيب محمود أحمد-جدة ١٣٩٩هـ/1979م: 1/150.
(2) أخرجه ابن خزيمة: 4/44 (2323) جماع أبواب صدقة الورق، بَابُ ذِكرِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ إِنَّ صَحَّ الْخَبَرُ، فإِنَّ فِي الْقَلْبِ مِنَ اتِّصَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ. والبيهقي: 8/246 (7712) كتاب الزكاة، باب ركاز المعدن، وصححه ووافقه الذهبي.