الآثار الاقتصادية للحروب في العالم (1)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
لقد عانى العالم من ويلات الحروب على مدار تاريخه، حيث شهد العالم العديد من الحروب الكبرى المدمرة، التي أثرت على اقتصاد الدول ورفاهية المجتمعات وتدمير البنية التحتية بل تدمير الإنسان، فللحروب آثار مدمرة على جميع جوانب الحياة، ولها العديد من الآثار السلبية على الاقتصاد عمومًا، وعلى الكليات الخمس الضرورية خصوصًا، ولهذا جعل الشارع الجهاد في سبيل الله تعالى وسيلة لرفع الظلم ورد العدوان، وإقامة العدل ونشر القيم الإسلامية، وليس غاية في ذاته؛ لما يترتب على القتال من ذهاب الأنفس والأموال وتهديد الأمن القومي…
وتلافيًا للآثار السلبية للحروب على حقوق الإنسان قامت المنظمات الدولية بسن القوانين والتشريعات التي تحفظ حقوق الإنسان أثناء الحروب، ومنها قانون حقوق الإنسان، وقانون اللاجئين، وغيرها من القوانين التي تحظر أعمال العنف والتمييز والتعذيب، وتبين كيفية التعامل مع الأسرى والمدنيين؛ ومثال ذلك: “اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/أغسطس 1949م”(1)، وهدفها الأساسي هو تقديم الحماية للمدنيين والحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة، وإنقاذ الأرواح، والتخفيف من المعاناة.
واقتصاد الحرب (War Economy): هو إجراءات الطوارئ التي تتخذها الدول لتعبئة اقتصادها للإنتاج خلال فترة الحرب… وقد استشْرَتِ الحروب في عصرنا في شتى جنبات العالم، وحدث فيها انتهاك كبير لحقوق الإنسان، وكلفت العالم أموالاً طائلة؛ مما استدعانا لبيان الآثار الاقتصادية السلبية للحروب في هذا المقال، وذلك على النحو التالي:
أولاً: العالم بين الحرب والسلام:
شهد العالم في تاريخه الطويل منذ خلق الله تعالى آدم وإلى يومنا العديد من الحروب المدمرة، ولو أخذنا القرن العشرين حيث الحضارة والتقدم والعلم، وحاولنا حصر الحروب التي جرت فيه وآثارها المدمرة، “نجد أنه قد حدثت خلاله 265 حربًا، بداية من حرب بوير بين عامي 1899م-1902م، وتبعها حرب الألف يوم، والحرب الروسية الصينية عام 1900م، والحرب اليابانية الروسية عام 1904م، إلى حروب البلقان الأولى، ومن ثم حروب الثورة المكسيكية، والحرب العالمية الأولى بين عامي 1914م- 1918م، بكل ما فيها من فظاعات، ثم إبادة الأرمن، والحرب الروسية الأهلية، والحرب الإيطالية الإثيوبية، ثم كانت أكبر المجازر البشرية في الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1939م-1945م، وحتى بعد وجود الأمم المتحدة في أكتوبر عام 1945م استمرت وتيرة الحروب من دون توقف، حتى وصلنا إلى الرقم 265 حربًا خلال ال 100 عام من تاريخ الإنسان. وبلغ عدد الذين ماتوا جراء هذه الحروب من (203-258) مليون شخص. وقتل في الحرب العالمية الأولى (20) مليونًا، وفي الحرب العالمية الثانية (50) مليونًا”.(2)
فتاريخ العالم تسوده الحروب والنزاعات، والهدنة التي تقع بينها ما هي إلا استعداد وتأهب للحرب التالية، ولهذا كشف معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام أن حجم الإنفاق العسكري العالمي بلغ (2.113) تريليون دولار في 2021م، وهو أكبر إنفاق في التاريخ حيث لم يتجاوز التريليوني دولار من قبل، وبلغ (2,24) ترليون دولار عام 2022م، بينما يقدر المبلغ اللازم لإنهاء الفقر بالعالم (175) مليار دولار، أي أقل من عُشر ما ينفق على الدفاع.
فإذا كان الأصل هو السلام والوئام والعهود والمواثيق، فلماذا لا ينفق العالم هذا المبلغ الزهيد للقضاء على الفقر في العالم، ويوفر كل هذه المبالغ الطائلة التي تنفق على حشد وتجميع وتصنيع الأسلحة في جنبات العالم.
ثانيًا: أنواع الحروب وأسبابها:
أشار ابن خلدون إلى أنواع وأسباب الحروب بقوله: “اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليفة منذ براها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصّب لكلّ منها أهل عصبيّته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطّائفتان إحداهما تطلب الانتقام، والأخرى تدافع كانت الحرب، وهو أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة ولا جيل. وسبب هذا الانتقام في الأكثر: إمّا غيرة ومنافسة، وإمّا عدوان، وإمّا غضب للَّه ولدينه، وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده. فالأوّل: أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة. والثّاني: وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشيّة؛ لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك، وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب النّاس على ما في أيديهم. والثّالث: هو المسمّى في الشّريعة بالجهاد. والرّابع: هو حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها. فهذه أربعة أصناف من الحروب الصّنفان الأوّلان منها حروب بغي وفتنة، والصّنفان الأخيران حروب جهاد وعدل”.(3)
ثالثًا: تكلفة الحروب في العالم:
ينفق العالم على تمويل الحروب أموالاً طائلة، وتختلف تبعًا لمدة الحرب ونوعها، ومجرياتها وما آلت إليه من نتائج، كما تختلف تبعًا للأضرار الناجمة، حيث تؤخذ الأموال التي تُصرف في إصلاح الدمار الناجم عن الحرب في عين الاعتبار، بالإضافة إلى الخسائر البشرية التي لا يمكن تعويضها.
ومن ذلك: تكلفة الحرب العالمية الأولى في الفترة بين 1914م و1918م، التي تزيد بحسابات اليوم على (3) تريليونات دولار. وأما الحرب العالمية الثانية: فهي الأغلى في التاريخ، بحسب جامعة نورويتش الأمريكية العسكرية العلمية، فبحساب فارق التضخم مع قيمة الدولار الآن، فإن تكلفة الحرب بلغت أكثر من (4,1) تريليون دولار في عام 1945م، وشكّل الإنفاق الدفاعي في العام الأخير من الحرب حوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي. (4)
كما بلغت تكلفة حربي العراق وأفغانستان أمريكا أكثر من (3) تريليون دولار، فحرب أفغانستان الأطول في التاريخ الأمريكي حيث امتدت نحو (20) عامًا بلغت نفقاتها الحربية أكثر من (2,26) تريليون دولار، فيما بلغت النفقات الحربية لحرب العراق أكثر قليلاً من تريليون دولار، كما أن إجمالي نفقات الحرب على الإرهاب التي بدأتها أمريكا عام 2001م، بلغ حتى عام 2022م نحو (8) تريليون دولار.(5)
وقدّر البنك الدولي في تقريره الأخير الصادر في مارس 2023م، كلفة تعافي أوكرانيا وإعادة بنائها من الحرب الروسية بمبلغ (411) مليار دولار على مدى العقد المقبل، مع كلفة رفع أنقاض الحرب وحدها بمبلغ (5) مليارات دولار، وأورد البنك الدولي في تقريره، تفاصيل بعض حصيلة الحرب الروسية، حيث تأكد تضرر ما يقرب من مليوني منزل وأكثر من مؤسسة من كل خمس مؤسسات للصحة العامة، ووفق التقرير فإن الحرب الروسية أدت إلى هدر (15) سنة من التقدم الاقتصادي في أوكرانيا، مما أسفر عن تراجع الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا بنسبة 29% ودفع (1.7) مليون أوكراني إلى الفقر إجمالاً، وقدّر البنك الدولي (135) مليار دولار حساب الأضرار المباشرة للمباني والبنية التحتية حتى لحظة صدور التقرير، من دون احتساب الأضرار الاقتصادية الأوسع.
كما تكبد الاقتصاد العالمي (1.2) تريليون دولار، جراء الحرب المتواصلة في أوكرانيا، مع تأثر الاقتصادات الغربية على نحو خاص حيث فقدت ثلثي إنتاجها العالمي، كما شكلت مشكلات إمدادات الطاقة والمواد الخام ضغطًا على الشركات في جميع أنحاء العالم. كما بلغ معدل التضخم العالمي العام الماضي (8.8%)، وستتواصل عواقب الحرب على الاقتصاد العالمي، حيث يتوقع أن ينخفض النمو العالمي من (3.4%) في عام 2022م إلى (2.9%) في 2023م.
وأما الحرب الدائرة على أرض فلسطين المحتلة: فجاء في تقرير وكالة “بلومبرغ إيكونوميكس” الجمعة 13 أكتوبر 2023م، أن هذه الحرب قد تدفع أسعار النفط إلى 150 دولارًا للبرميل، وترفع من مستويات التضخم لتقترب من 7%، وأن يتراجع النمو الاقتصادي العالمي إلى 1.7%، وهو ركود يقتطع نحو تريليون دولار من الناتج الاقتصادي العالمي.
فهل يتخذ عقلاء العالم موقفًا موضوعيًّا للقضاء على الحروب في العالم، وتوجيه بعض ما يُنفق على التسلح للقضاء على الفقر والجوع والمرض والجهل في العالم؟ أم نظل في دائرة مفرغة من الحروب التي لا تنتهي وتأكل الأخضر واليابس؟
هذه هي أنواع الحروب وأسبابها وتكلفتها الكبيرة واستنزافها للاقتصاد العالمي، وأما الأضرار الاقتصادية التي تقع على الدول المتحاربة، وعلى الدول المجاورة لها، فنتناوله في المقال التالي.
(1) راجع موقع الأمم المتحدة: https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/geneva-convention-relative-protection-civilian-persons-time-war.
(2) راجع موقع جريدة الرياض 2 نوفمبر 2023م: https://www.alriyadh.com/950808.
(3) تاريخ ابن خلدون، لعبد الرحمن بن خلدون، ت: 808هـ، ط1 دار الفكر-بيروت 1401هـ/1981م: 1/343.
(4) راجع موقع جامعة نورويتش: https://www.norwich.edu/search?search=World%20War.
(4) راجع موقع صحيفة يو إس أي تودي الأمريكية: https://www.usatoday.com. وموقع معهد واتسون للشئون العامة والدولية بأمريكا: https://home.watson.brown.edu.