الآثار الاقتصادية للحروب في العالم (2)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
هناك العديد من الآثار الاقتصادية السلبية للحروب في العالم على الدول المتحاربة، وكذلك الدول المجاورة لها، ولا نجد دولة في العالم تلتزم القيم والمبادئ والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المدنيين والأسرى والمرضى ونحوهم في الحروب، بل نجد الكثير من الدول تستخدم الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًّا؛ لحسم الحرب لصالحها، وإن أدى ذلك إلى إبادة وتشويه أجيال بأكملها، وبعض الدول تعتبر ميدان الحرب أفضل حقل لإجراء التجارب على أسلحتها الجديدة الفتاكة الممنوعة، وتفشو الممارسات غير الأخلاقية في حق النساء والأطفال وكبار السن، ولهذا أنهينا المقال بالحديث عن الأخلاقيات الإسلامية في الحروب.
وقد تناولنا في المقال السابق أنواع الحروب وأسبابها وتكلفتها الكبيرة واستنزافها للاقتصاد العالمي، ونستكمل موضوعنا في هذا المقال.
أولاً: أهم الآثار الاقتصادية السلبية على الدول المتحاربة.
للحروب آثار اقتصادية سلبية عديدة على الدول المتحاربة، ومن بينها:
- التدهور في مجالات عديدة، كتدهور الاقتصاد المحلي وانخفاض الإنتاج: فينخفض النمو الاقتصادي، كما تنخفض الأرباح التجارية؛ لانخفاض معدل الإنتاج وتوقفه أحيانًا، وتدمير البنية التحتية للدول المتحاربة، مما يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي، وترتفع معدلات البطالة والفقر في المجتمعات المتأثرة بالحرب. وذلك فضلاً عن تدهور قطاعات الاقتصاد الأساسية: كالزراعة والصناعة والخدمات والتعليم والصحة؛ وتراجع أدائها.
وكذلك تدهور العملة وارتفاع معدلات التضخم: نتيجة لتوقف الإنتاج واستيراد السلع الأساسية، وانهيار القطاع المالي، وما يترتب عليه من ركود للنشاط الاقتصادي، وارتفاع أسعار صرف العملات.
مثال ذلك: الحرب الأهلية الأمريكية، فقد واجهت الكونفدرالية تكاليف الحرب الباهظة التي فاقت قدراتها في ذلك الوقت بطباعة النقود بهدف دفع رواتب الجنود المستحقة عليها، مما نتج عنه هبوط حاد في قيمتها، وهو الأمر الذي جعل قيمة الأموال المدّخرة لدى المواطنين لا تساوي شيئًا. - زيادة الديون الخارجية والداخلية: لزيادة المصروفات الحكومية في الحرب، وتقترض الدول بصورة تفوق المعتاد لتلبية الزيادة في الإنفاق الحربي؛ ومعلوم ما تستنزفه الحروب من موارد مالية هائلة؛ لتجهيز الجيوش وتوفير الدعم اللوجيستي ونحوها من ضرورات الحرب، إضافة إلى إعادة بناء المرافق العامة والبنية التحتية المدمرة، ما يرفع مستوى الديون الخارجية والداخلية.
مثال ذلك: الآثار الاقتصادية للحرب العالمية الثانية على أوربا، وتتمثل في تراجع القوة الاقتصادية لأوروبا المدمرة لصالح الولايات المتحدة فكثرت مديونيتها، وانخفضت قيمة عملاتها، وارتفعت أسعار السلع فيها، وذلك نتيجة تحطم البنية الإنتاجية من طرق مواصلات وأراض زراعية.
فعلى الرغم من أن بريطانيا وحلفاءها خرجوا من الحرب منتصرين، إلا أن اقتصاد بريطانيا خرج مكبلاً بالديون التي أخذت في التراكم حتى بلغت ذروتها عام 1960م. وقد وصل دين بريطانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية إلى 150%، وزاد في فترة الخمسينات حتى بلغ 240%، وكان السبب في ذلك الاستفادة من هذه النفقات في إعادة الإعمار؛ اعتمادًا على القروض الأمريكية والكندية، فيما استغرق منها سداد هذه القروض عدّة عقود، استمرت حتى ديسمبر 2006م.(1) - الدمار وهروب الاستثمارات والإبادة، وذلك من خلال إبادة وتشويه أجيال بأكملها؛ نتيجة لاستخدام أسلحة نووية أو جرثومية أو غازات سامة قاتلة في الحرب، كما حدث في هيروشيما ونجازاكي، حيث قامت أمريكا عام 1945م في نهاية الحرب العالمية الثانية بقصف المدينتين باستخدام الأسلحة النووية، التي قتلت ما يصل إلى 140,000 شخص في هيروشيما، و80,000 في ناجازاكي.
وكذلك تدمير البنية التحتية والمرافق العامة: مما يؤثر سلبًا على الخدمات الأساسية؛ كالماء والكهرباء والصحة والتعليم. وما يترتب على ذلك من هروب الاستثمارات الخارجية :من المناطق المتأثرة بالحروب، فرؤوس الأموال تبحث عن بلدان وملاذات آمنة من الحروب؛ مما يؤثر سلبًا على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، وينخفض الإنتاج، ويتدهور النمو الاقتصادي. - الآثار الاقتصادية السلبية المجتمعية، كارتفاع معدلات البطالة: نتيجة لنزوح العمالة وتوقف الأنشطة الاقتصادية خلال فترة الحروب. وانخفاض مستوى المعيشة؛ وزيادة مستوى الفقر في الدول المتحاربة؛ نتيجة للتدهور الاقتصادي. وانهيار المنظومة التعليمية في الدول التي تعاني من الحروب، نتيجة لتدمير المدارس والمنشآت التعليمية بسبب الحرب. وكذلك نزوح السكان وتغير النظام البيئي: بسبب تدمير المنازل والمزارع والممتلكات الشخصية، فضلاً عن تغير النظام البيئي بسبب استخدام الأسلحة ذات الأثر البيئي السلبي؛ كالأسلحة الكيماوية والنووية… فضلاً عن الابتزاز والعنف ضد المدنيين، والسيطرة على الشبكات التجارية.
- تقلبات الأسواق وسلاسل الإمدادات، فيزيد التقلب في الأسواق العالمية: نتيجة لتأثر الاقتصاد العالمي بالحروب والنزاعات، وتتوتر العلاقات بين الدول، وتزيد مخاطر الاستثمار المالي، مع زيادة التقلبات في الأسواق العالمية. وقد تتوقف سلاسل الإمدادات؛ لصعوبة تأمين البضائع بسبب انهيار نظام الأمان، فيصبح النقل والشحن أمر يصعب ضبطه، وتأمين وصوله دون ضرر أو تعرض للسرقة والنهب، فضلاً عن وصوله في الوقت المحدد أو المناسب. يضاف إلى ذلك ضعف القطاع الخاص: حيث يتعرض القطاع الخاص للتدمير والنهب والتخريب.
ثانيًا: أهم الآثار الاقتصادية السلبية التي تواجه البلدان المجاورة للدول المتحاربة.
لا تقف الآثار الاقتصادية السلبية للحروب على الدول المتحاربة فحسب، بل تمتد إلى البلدان المجاورة لها، ومن بين هذه الآثار السلبية: انحسار التبادل التجاري وانخفاض حجم التجارة البينية: حيث يقل أو يتوقف التبادل التجاري بين الدول المجاورة للدول المتحاربة، مما يؤدي إلى تقلص في النشاط التجاري والعمليات التجارية، وبالتالي يعمل على زيادة البطالة، وتدهور اقتصاد البلدان المجاورة. بل قد يمتد الأثر إلى بلاد بعيدة تعتمد في بعض السلع الأساسية على الدول المتحاربة، كما في حرب روسيا وأوكرانيا، وتأثر أسعار القمح العالمية؛ لكون الدولتين من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للقمح في العالم.
وكذلك زيادة أعباء الخدمات الاجتماعية: حيث تضطر الدول المجاورة لاستقبال اللاجئين إليها من الدول المتحاربة، ويزيد الضغط على الخدمات الاجتماعية الأساسية؛ كالتعليم والصحة والسكن. وهذا أمر واقع في جل الدول العربية والإسلامية بسبب الحرب في اليمن وسوريا والسودان وليبيا…
يضاف إلى ذلك ارتفاع أسعار السلع الضرورية والمواد الغذائية: لتدهور آلية العرض والطلب في الأسواق بسبب الحرب، مما يصعب من الحصول على السلع الأساسية والطعام والشراب بأسعار مناسبة، وتتراجع الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
بقيت الإشارة إلى: أن بعض الدول قد تستفيد من الحروب: كالدول التي تحتكر تصنيع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وكذلك ما قد يترتب على الحرب من ارتفاع لأسعار البترول والغاز الطبيعي وبقية أنواع الوقود، فتستفيد الدول الـمُصدِّرة من ارتفاع الأسعار، وكذلك ارتفاع أسعار السلع الحيوية كالقمح وغيره، فتستفيد الدول المنتجة والمصدرة للقمح.
غير أن هذه الفوائد بلا شك تعتبر أضرارًا لدول أخرى، تتعثر ميزانيتها وتضطر للاقتراض حتى تسد عجز موازنتها بسبب هذه لزيادة الطارئة في الأسعار.
كما ينبغي الالتفات إلى أن تركيزنا على الخسائر الاقتصادية لا يعني أنها أهم من الخسائر البشرية، فالإنسان هو الذي يبدع وينتج ويصنع ويستثمر.
ثالثًا: الأخلاقيات الإسلامية في الحروب.
فمن أهم أخلاقيات وآداب الحرب في الإسلام: ألا يُقتل طفل ولا امرأة ولا شيخ كبير ولا راهب تفرغ للعبادة، ولا أهل الفلاحة والزرع والغرس، وغيرهم ممن لا يشارك في الحرب من قريب أو بعيد. فعن أنس بن مالك قال: كنت سفرة أصحابي وكنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيقول: “انطلقوا بسم اللَّه وفي سبيل اللَّه، تقاتلون أعداء اللَّه في سبيل اللَّه، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا صغيرًا، ولا امرأة ولا تغلوا”».(2)
وكذلك نهت الشريعة الإسلامية عن الغدر والمثلة، فعَنْ سليمان ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَمَّرَ أمير على جيش أو سرية، أوصاه خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خيرا. ثم قال: اغزوا باسم الله. وفي سَبِيلِ اللَّهِ. قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ. اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».(3)
كما نهت الشريعة الإسلامية عن التدمير والتخريب: جاء في وصية أبي بكر للجيش: “وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الصَّوَامِعِ فَاتْرُكُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا لَهُ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا وَلِيدًا، وَلَا تُخْرِبُوا عُمْرَانًا، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَعْقِرُنَّ بَهِيمَةً إِلَّا لِنَفْعٍ، وَلَا تَحْرِقُنَّ نَخْلًا، وَلَا تُغَرِّقُنَّهُ، وَلَا تَغْدِرْ، وَلَا تُمَثِّلْ، وَلَا تَجْبُنْ، وَلَا تَغْلُلْ”.(4)
وحثت الشريعة الإسلامية على الإحسان إلى الأسرى، وعدم إيذائهم أو ترويعهم أو تجويعهم، “وصف المؤرخون ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي إلى القدس فاتحًا، لم ينتقم أو يقتل أو يذبح، بل اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة والإنسانية. فبينما كان الصليبيون منذ ثمانٍ وثمانين سنة يخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه إذ صار رجال الشرطة يطوفون بالشوارع والأبواب؛ تنفيذًا لأمر صلاح الدين لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين، وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس الأسرى، فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز.
وأقبل نساء الصليبيين وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين ماذا يكون مصيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأسر؟ فأجاب صلاح الدين: بأن وعد لإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته، فكانت رحمته وعطفه نقيض أفعال الصليبيين الغزاة”.(5)
وكذلك حثت الشريعة الإسلامية على الاستجابة لطلب العدو الصلح والمسالمة: مع التزامهم التام بما عليهم من بنود الصلح؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].
هذه هي أهم الآثار الاقتصادية السلبية للحروب في العالم، وحجم الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي بسبب الحروب والنزاعات، وقد ختمنا المقال بالأخلاقيات الإسلامية حال الحرب، فهل تأخذ بها دول العالم في ظل انحسار القيم والمبادئ والأخلاقيات في الحروب، وهل يتم تفعيل الاتفاقيات الدولية؛ كاتفاقية جنيف 1949م؛ لتطبق على جميع دول العالم دون انحياز لعرق أو جنس أو دين، أم يظل العالم في وضع التحارب والتظالم؟ ويظل الأصل في التاريخ والسنن أن الصلح والهدوء ما هو إلا هدنة ومرحلة بين حربين، تقوم كل الأطراف بالاستعداد للحرب التالية؟ وهل يتم احترام حقوق وآدمية الإنسان أثناء الحرب؟ أم يُقصف المدنيون العزل بكل أنواع الأسلحة الفتاكة المميتة؟
(1) راجع موقع: https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 18/375 (35330).
(3) أخرجه مسلم: 3/1357 (1731) كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث.
(4) أخرجه البيهقي: 9/153 (18150) كتاب السير، بَابُ تَرْكِ قَتْلِ مَنْ لَا قِتَالَ فِيهِ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْكَبِيرِ وَغَيْرِهِمَا.
(5) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام، لأحمد بن سليمان أيوب، إشراف: د. سليمان الدريع، ط1 دار إيلاف الدولية للنشر ١٤٣٦هـ/٢٠١٥م: 10/202.