الإدارة بالأزمات في ميزان الشريعة الإسلامية

الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

سبق وتحدثنا عن إدارة الأزمات وأهميته في حياتنا المعاصرة، واهتمام الشريعة والاقتصاد الإسلامي بذلك، ويرتبط به ارتباطًا وثيقًا، الإدارة بالأزمات؛ مما استدعانا لكتابة هذا المقال التكميلي.

أولاً: مفهوم الإدارة بالأزمات:

الإدارة بالأزمات تقوم على افتعال الأزمات وإيجادها من عدم؛ كوسيلة للتغطية والتمويه على المشاكل القائمة التي تواجه الكيان الإداري، وهو ما يُعرف بعلم صناعة الأزمة للتحكم والسيطرة على الآخرين. (1)
فهي خلق أزمة وهمية وافتعالها، وذلك في مستوى إداري معين؛ لتحقيق مصالح شخصية أو مصالح عامة معينة من خلال توجيه أو تحريك أطراف الأزمة بما يخدم الأهداف الاستراتيجية والمصالح المعينة لمفتعل الأزمة، سواء أكان شخصًا أو مؤسسة أو دولة، وخير مثال واقعي لذلك: مصطلح الفوضى الخلاقة، الذي برز مؤخرًا في عصرنا، فهو خير مثال على الإدارة بالأزمات.
كما تهدف الإدارة بالأزمات أيضًا إلى تحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى وخفية وغير معلنة، وتتوقع الإدارة أنها قد تكون غير مقبولة من العاملين.

ثانيًا: الفرق بين إدارة الأزمات والإدارة بالأزمات:

ذكرنا في مقالنا السابق أن إدارة الأزمات تهتم بمعرفة أسباب الأزمة، وطرق التعامل معها، وإيجاد حلول لها، والعمل على تحييدها وتطويقها؛ حتى لا تتطور وتتسع لما حولها، ويصعب السيطرة عليها.
أما الإدارة بالأزمات: فهي على النقيض من ذلك تمامًا؛ لأنها تقوم على افتعال الأزمة، والعمل على تأجيجها وتحويلها إلى معضلة تنشغل بها جميع الأطراف، والعمل على إمساك جميع الخيوط المتعلقة بها ومنع حلها، وأن يكون الحل الوحيد لها بيد مفجر الأزمة أو من يدير بالأزمة.
فالمقصود من الإدارة بالأزمات: هو تحقيق مصالح ومنافع خاصة لمن يدير بالأزمات، وهو يعتقد أنه لا يمكنه الوصول إلى هذه المصالح والمنافع الشخصية إلا بخلق هذه الأزمات. وهذا النوع من الإدارة يظهر بصورة واضحة في السياسة الدولية.

ثالثًا: مقاصد الإدارة بالأزمات:

مما يمكن ذكره من أهداف ومقاصد للإدارة بالأزمات ما يلي:

  1. تحقيق مصالح شخصية ضيقة.
  2. السيطرة على الآخرين وإخضاعهم وابتزازهم.
  3. تحقيق الأهداف الخفية طويلة المدى لبعض الدول التي تفتعل الأزمات عالميًّا.
  4. توجيه التفات الجماهير في اتجاه معين؛ لتمرير المشاكل والأزمات.
  5. الاستفادة من وسائل التقدم في نشر الشائعات؛ لافتعال أزمة وتمرير أزمة أخرى أكبر.
  6. التغطية والتمويه على المشاكل القائمة من خلال افتعال الأزمات تلو الأزمات.
  7. إحداث تغييرات كبيرة في بعض المؤسسات أو الدول من خلال افتعال أزمات داخلية وخارجية.

رابعًا: نماذج وأمثلة للإدارة بالأزمات قديمًا وحديثًا:

  1. الصحابي الجليل أبو بصير وإدارته الأزمة بالأزمة؛ لحل أزمة المسلمين المستضعفين، «فقد رجع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى المدينة بعد صلح الحديبية، فجاءه أَبُو بصير-رجل من قريش- وَهُوَ مسلم، فأرسلت قريش فِي طلبه رجلين، فقالا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: العهد الَّذِي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلمًا. فدفعه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرجلين، فخرجا حَتَّى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فَقَالَ أَبُو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هَذَا جيدًا يَا فلان، فاستله الآخر، وَقَالَ: أجل والله، إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فَقَالَ له أَبُو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه به حَتَّى برد، وفر الآخر حَتَّى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هَذَا ذعرًا. فلما انتهى إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أَبُو بصير، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد والله وفت ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني اللَّه منهم. فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ويل أمه ‌مسعر ‌حرب ‌لو ‌كَانَ ‌معه أحد. فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حَتَّى أتى سيف البحر. قَالَ: وانفلت منهم أَبُو جندل بْن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير، وجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم، إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. قال: فو الله مَا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا اعترضوا لهم، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تناشده اللَّه والرحم إلا أرسل إليهم، فمن أتاك منهم فهو آمن» ()، فقد شكل أبو بصير ومن معه أزمة كبيرة تهدد طريق تجارة قريش، بل يهدد أمن واستقرار قريش الاقتصادي؛ مما دفعهم للاستنجاد بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لإلغاء هذا البند من المعاهدة، وضَمِّ أبي بصير ومن معه إلى المدينة؛ فانحلت الأزمة الرئيسية بالأزمة التي افتعلها أبو بصير ومن انضم معه من المسلمين المستضعفين الذين فروا من تعذيب قريش.
  2. الاحتكار التجاري في عصرنا، حيث يعمد بعض التجار المحتكرين إلى خلق أزمات في بعض السلع، وذلك من خلال تخزينها، وعدم طرحها بالأسواق؛ لإخلال التوازن بين العرض والطلب، وتعطيش المستهلك للسلعة، ونشر الشائعات حول حدوث أزمة شديدة في إنتاج السلعة، مما يدفع المستهلكين للبحث عنها بأي سعر؛ لتلبية وإشباع احتياجاتهم، وهنا يقوم التاجر بعرضها سرًّا لتحقيق أرباح طائلة.
  3. نظرية الفوضى الخلاقة، (Creative Chaos) هو مصطلح سياسي – عقدي يقصد به تكوين حالة سياسية بعد مرحلة فوضى متعمدة الإحداث تقوم بها أشخاص معينة بدون الكشف عن هويتهم، وذلك بهدف تعديل الأمور لصالحهم، أو تكوين حالة إنسانية مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة من أشخاص معروفة؛ من أجل مساعدة الآخرين في الاعتماد على أنفسهم.

في مطلع عام 2005م أدلت وزيرة الخارجية الأميركية “كونداليزا رايس” بحديث صحفي مع جريدة واشنطن بوست الأميركية، أذاعت حينها نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية بالعالم العربي، والبدء بتشكيل ما يُعرف ب «الشرق الأوسط الجديد»، كل ذلك عبر نشر «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط عبر الإدارة الأميركية.
بدأت الفوضى الخلاقة منذ الحرب العراقية (2006-2008م) في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق والإطاحة بصدام حسين، وقد تم اعتبار ثورات الربيع العربي عام 2011م، والتي تطورت لحروب أهلية دامية بأنها امتداد للفوضى الخلافة التي ستؤدي في نهاية المطاف للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وتزيل الحكومات العربية الاستبدادية… ومن مظاهرها كذلك انتشار بعض فرق الموت ومنظمات إرهابية مثل شركة بلاك ووتر الأمنية ()، وهذا يعني الهدم، ثم البناء، ويعني إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ثم إعادة البناء حسب المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة.

خامسًا: الإدارة بالأزمات في ميزان الشريعة الإسلامية:

الإدارة بالأزمات ليست شرًّا مطلقًا وليست خيرًا مطلقًا، وإنما هي من المصطلحات الإدارية الحديثة، وهي وسيلة من الوسائل التي تأخذ أحكام المقاصد، فكما هو معلوم من قواعد المقاصد أن: “للوسائل أحكام المقاصد“، فوسيلة المحرم محرمة، ووسيلة المكروه مكروهة، ووسيلة الواجب واجبة، ووسيلة المندوب مندوبة، ووسيلة المباح مباحة.
ومن أمثلة الإدارة بالأزمات المحرمة: ما تختلقه بعض الدول من أزمات في غيرها من الدول؛ لإحداث القلاقل والاضطرابات، بغرض احتلال تلك الدول، أو إخضاعها للسيطرة على مواردها واستغلال خيراتها من الدول الظالمة.
ومن أمثلة المكروه والممقوت في الإدارة بالأزمات: أن بعض المديرين يسعى دائمًا لافتعال وإیجاد الأزمات كوسيلة للتغطية والتمويه على المشاكل القائمة بالفعل، وضرب الإدارات بعضها ببعض، وصرف الجميع عن الوقوف على الخلل المالي أو الإداري في المؤسسة، وذلك بشغلهم في سلسلة من الأزمات والخلافات التي لا تنتهي.
ومن أمثلة الإدارة بالأزمات المشروعة المباحة: ما فعله الصحابي الجليل أبو بصير ومن معه من المستضعفين من المسلمين.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الإدارة الإسلامية إدارة أخلاقية، تحب الخير للناس جميعًا، وأن تحيا جميع الشعوب حياة طيبة آمنة مطمئنة. كما أنها تراعي جانب المشروعية الذي يحكم تصرفات الفرد والدولة حتى مع المخالفين لنا بل مع أعدائنا، فنحن نحب أن تكون حياة الناس جميعًا طيبة. كما أن الوسائل والغايات مشروعة، فالغاية عندنا لا تبرر الوسيلة.
بقيت الإشارة إلى: أن الإدارة بالأزمات تجمع بين المشروع والممنوع كما سبق، لكن توجد أنواع أخرى من المدارس الإدارية الحديثة تقوم على العلم والمعرفة، واستخدام وسائل العصر في التطوير والتحديث؛ كالإدارة بالمعرفة، والإدارة بالأهداف، والإدارة بالمواقف، والإدارة المؤسسية، والإدارة بالمقاصد الشرعية، وهو ما سنتناوله في مقالات أخرى.

(1) ‌انظر: إدارة ‌الأزمات: علم امتلاك كامل القوة في أشد لحظات الضعف، لمحسن الخضيري، ط2 مجموعة النيل العربية-القاهرة 1422هـ/2002م: 20-21.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، ت: ٤٦٣هـ، ت: علي محمد البجاوي، ط1 دار الجيل-بيروت ١٤١٢هـ/١٩٩٢م: 4/1613.
(3) راجع موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki.

Comments are disabled.