الجوانب الاقتصادية لنظام الإرث في الإسلام (1) – “أهميته وخصائصه ومقاصده الاقتصادية”
الإرث:” يقصد به انتقال الملكية من الميت، إلى ورثته الأحياء، سواء كان المتروك مالًا- أي نقود-، أو عقارًا، أو حقًا من الحقوق الشرعية” (1). وقيل:” هو استحقاق ما خلفه الميت من مال أو حق بسبب من أسباب الميراث الشرعية” (2).
ويراد به معان مختلفة منها: الخلافة عن المتوفى في ماله، بسبب من الأسباب الموجبة له بمعنى أن الميراث اسم لما يستحقه الوارث من مورثه، ومنها كذلك المال الموروث، يقال: هذا الشيء ميراث لفلان، أي استحق ملكيته بسبب الميراث، وهذا من باب إطلاق المصدر، وإرادة اسم المفعول، إذ المراد أن هذا الشيء موروث له.
فكلمة الوارث يراد منها: الشخص الذي ينتقل إليه المال. وكلمة الموروث يراد منها: الأموال والحقوق المالية التي تركها الميت، أي الشيء الموروث وهو التركة (3). والميراث أصله عطاء، لأن الوارث تملك شيئاً لم يكن في ملكه، وقد لا يكون قد شارك بعمل عند تكوين هذه الثروة الموروثة، فصار بالعطاء من مورثه مالكًا بحكم شرعي، فصار بالعطاء أو بالحكم الشرعي مالكاً، ملكاً خالصاً بعد أن تم نقل الملكية للوارث (4).
ويُعد نظام الميراث في الإسلام من الأنظمة الاقتصادية التي تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واستقرار المجتمع. وهذا ما سنلقي عليه الضوء.
أهمية الإرث الاقتصادية:
فيما يلي أبرز النقاط لأهمية الإرث الاقتصادية وذلك على النحو التالي: –
- يعمل الميراث على المحافظة على الكيان الاقتصادي للثروة كونه الفريضة التي ينظم بها الإسلام انتقال الثروة، وتوزيعها بعد وفاة المورث، هذا التنظيم يعالج من ناحية أخرى عدم تعرض الثروة للتفتيت، والتشتت تحت وطأة النزاعات الأسرية، مما يحافظ على التوحد الأسري وانعكاس ذلك على القرار الاقتصادي (5).
- الإرث نظام متعلق بقسمة المال وتوزيعه، ويهدف إلى تحقيق مقاصد اقتصادية تلقي بظلالها على الفرد والمجتمع، وفق آلية محددة يمكن من خلالها إعادة توزيع الدخل والثروة بكفاءة وعدالة.
- يسهم في الحد من الفقر والبطالة: حيث يوفر الميراث للورثة رأس المال الذي يمكنهم استخدامه لبدء مشروع تجاري أو استثماري.
- تعزيز الادخار: حيث يحفز الميراث الناس على الادخار من أجل توفير مستقبل أفضل لأبنائهم وأحفادهم.
- تحفيز الاستثمار: حيث يوفر الميراث للورثة رأس المال الذي يمكنهم استخدامه للاستثمار في المشاريع التجارية، مما يسهم في نمو الاقتصاد.
خصائص الإرث الاقتصادية:
نتناول فيما يلي أبرز الخصائص الاقتصادية للإرث (6):-
- تحقيق الكفاءة الاقتصادية: من خلال حفظ حقوق الورثة بمنع الوارث من إضاعة ماله قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]. وحماية أنصبة الورثة من العبث قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13-14]. ومنع التفريق بين الأبناء بإعطاء أحدهما أكثر من الآخر قال صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ” (7). أو الوصية في ماله بأكثر من الثلث قال صلى الله عليه وسلم:”… الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ” (8). كذلك الكفاءة من خلال حفظ مدخرات الورثة صغيرهم وكبيرهم حتى الجنين يحفظ له حقه، مع نقل الثروة لطاقات شبابية تستثمرها.
- تحقيق العدالة: ركز القرآن الكريم والسنة النبوية تركيزاً منقطع النظير على العدالة في الميراث، ولا يمكن أن نعد المساواة في جميع الظروف والأحوال هي العدالة، ولا التفاوت في كل الظروف من الظلم، بل سنجد أن مدار الأنصبة على مدى القرب والبعد من المورث، والحاجة، والذكورة، والأنوثة، ومستقبل للحياة ومستدبرها وغيرها كضوابط لحجم الأنصبة. ومن صور العدل في الميراث جعلها في دائرة الأسرة، والعدل بين الأولاد الذكور، وعدم حرمان المرأة من الإرث بل وإعطائها أكثر من نصيب الرجل في بعض الحالات، وإعطاء أصول الميت أقل من فروعه.
مقاصد الإرث الاقتصادية:
نتناول أبرز المقاصد الاقتصادية للإرث على النحو التالي: –
- تحقيق للاستخلاف: قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:7] قال الإمام الرازي: إن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، ثم إنه تعالى جعلها تحت يد المكلف، وتحت تصرفه لينتفع بها على وفق إذن الشرع. وأنه سبحانه وتعالى جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم، لأجل أنه نقل أموالهم إليكم على سبيل الإرث، فاعتبروا بحالهم، فإنها كما انتقلت منهم إليكم فستنقل منكم إلى غيركم (9).
ولن يكتمل معنى استخلاف الله للإنسان في الأرض إلا بمعنى الميراث … كما بين قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: 128]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [آل عمران: 180]. فما بين أن يُورِّث الله الأرض وبين أن يرثها، تقع الخلافة، فالخلافة تقع بين مورث، ووارث وبينهما ملك موروث (10). - حفظ الأموال: وتشريع الميراث في الإسلام إنما هو لتحقيق مصالح الناس وحفظ أموالهم، لذلك لا يجوز العمل على منافاة قصد الشارع من تشريع حكم الميراث. وقد جعل الشارع الحكيم لصاحب المال الحق في أن يتصرف في ماله بالهبة والوصية والتبرع، لكن دون أن تكون نيته حرمان ورثته من الميراث إضرارً بهم. قال ابن عاشور:” ألا يُجعَل التبرعُ ذريعةً إلى إضاعة مال الغير، من حق وارث أو دائن … فكان من سد الذريعة لزوم كون صورة التبرع بعيدة عن هذا القصد -أي قصد حرمان الورثة – (11).
والحال كذلك في الوصية، فقد أباح الله عز وجل لصاحب المال أن يوصي في ماله، لكنه يوصي في حدود ثلث ماله فقط حتى لا يضر بورثته، أما الثلثان الباقيان فهو لقرابته من ورثته الذين يستفيدون به بعد موته، والإسلام بهذا يحفظ لمجموع الورثة من قرابة الميت نصيبهم من الإرث. - تداول المال وتحقيق التوازن الاقتصادي: إن مقصد تداول المال مقصد مهم في نظر التشريع الإسلامي، لتأثيره على الحياة الاقتصادية للفرد والأمة، وقد شرع الإسلام وسائل لتحقيق هذا المقصد، ومن أهم هذه الوسائل: منع كنز المال، ومنع احتكار السلع الضرورية، وتحريم التعامل بالربا… (12).
وتحقيقاً لهذا المقصد بالصورة المطلوبة شرع الله عز وجل نظام الميراث، لكيلا تكون الأموال دولة بين فئة قليلة من الناس؛ ويظل المال راكداً أو مقتصراً على فئة دون أخرى، ولهذا جاءت التشريعات الإسلامية في المعاملات المالية تيسيراً للمداولة، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر:7]. - التفتيت الهادئ والعادل للدخل والثروة: فالإسلام يحارب تكديس الثروة في أيد معينة، كالذكور دون الإناث، أو في أيدي الكبار دون الصغار، بل فيه نظام يحد من شرور تضخم الملكيات، ويجزئ الثروات بصفة دائمة، وبنسب عادلة، وهو نظام الميراث. الذي بفضله لا تلبث الثروات الكبيرة، أو رؤوس الأموال التي قد يتفق جمعها في يد شخص معين أثناء حياته، أن توزع بعد مماته، وبصورة هادئة، لا عنف فيها ولا اهتزاز للمجتمع، على أكبر عدد من الخلف (13).
هذه بعض الوقفات حول نظام الإرث في الإسلام على أن نتناول الجوانب الاقتصادية الأخرى المتعلقة به في مقالات لاحقة إن شاء الله.
(1) المواريث في الشريعة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة، لمحمد علي الصابوني، دار الحديث، القاهرة: 34.
(2) في الميراث والوصية، محمد البلتاجي، ط 1 دار السلام، القاهرة 1428هـ/2007م: 10.
(3) الوجيز في الميراث والوصية، ليوسف قاسم، المعهد العالي للدراسات الإسلامية، 1414هـ/2020م: 9.
(4) الميراث دراسة في آثاره على التراكم الرأسمالي وتوزيع الثروة، لهالة إبراهيم كدواني، منشورات مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، القاهرة 1438هــ/ 2017م: 521.
(5) انظر: المرجع السابق: 85.
(6) انظر: الآثار الاقتصادية للميراث في الشريعة الإسلامية، لناصر سلامة نواصرة، رسالة ماجستير جامعة اليرموك، الأردن 1424هــ/2003م:34 وما بعدها، واقتصاديات الميراث في الإسلام، لعمر فيحان المرزوقي، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، القاهرة، س 5، ع 14، 1422هـ/2001م:132 وما بعدها.
(7) سنن الترمذي: 4/434 (2121) أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(8) أخرجه البخاري واللفظ له: 4/3 (2744) كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، ومسلم: 3/1250 (2628) كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث.
(9) مفاتيح الغيب، لأبي عبد الله محمد بن عمر الرازي، ت 606هـ، ط 3 دار إحياء التراث العربي، بيروت 1420هـ/1999م: 29/450.
(10) الميراث دراسة في آثاره على التراكم الرأسمالي وتوزيع الثروة، لهالة إبراهيم: 29.
(11) مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر ابن عاشور، ط1 دار الكتاب المصري 2011م: 336،335.
(12) انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ليوسف حامد العالم، ط 2 المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1415هـ/1993م: 498.
(13) انظر: اقتصاديات الميراث في الإسلام، لعمر فيحان المرزوقي: 131.