الاجتهاد الجماعي وأهميته في النوازل الاقتصادية المعاصرة

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

لقد كان العمل الاجتهادي أمرًا بارزًا في منظومة التشريع الإسلامي من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا،ولم ينقطع هذا العمل يومًا ما في تاريخنا التشريعي،سواء أكان بصفته المطلقة أم المقيدة،أما ما شاع في كتب المعاصرين من أن باب الاجتهاد قد أغلق في القرن الرابع أو الخامس الهجري، وأنه قد سُدَّ لعدم وجود من هو أهل للاجتهاد، فهو استنتاج لا دليل عليه، وبالمثل ما ذهب إليه بعضهم لتبرير هذه المقولة بقوله: “وكان غرضهم من هذه الفتوى قطعَ الطريق أمام المدّعين للاجتهاد من غير تحقيق لشروطه”.
والأمر كله لا دليل عليه،ولا برهان يقود إليه،وإنما هي استنباطات وصل إليها بعض الدارسين من خلال بحثهم لبعض المسائل الأصولية والنوازل الفقهية وأذاعوها في الناس،مما جعل المتربصين من أهل الفكر والتنظير يعدونه مَمسكًا على التشريع الإسلام،ي وأنه غير مساير للعصر؛ لأن أساس التطور في كل ملَّة وشرعة هو الاجتهاد وقد أغلق بابه للأبد!
وهذا الأمر ببساطة تَنفيه وقائع الحال عبر تاريخ التشريع الإسلامي الذي يعجُّ بالمجتهدين المطلقين والمقيَّدين، وإن اختلفت أعدادهم كثرةً وقلةً عبر عصور التشريع.

الاجتهاد الجماعي ضرورة للواقع المعاصر:

لما كان تغيُّر الأزمان وتبدُّل الأحوال بتغير المكان سُنَّةً ماضيةً في الأكوان؛ كان الإنسان أكثر الأشياء تأثُّرًا بذلك في حياته؛ انفرادًا واجتماعًا؛ ولهذا فهو يسعى دائما بجهده واجتهاده لتطوير نظامه بما يحفظ دينه، ويرعى آدابه، ويحسِّن مسيرته.
ولكن لما كانت عقول الناس وأنظارهم ليست على وِزان واحدٍ في فهم القضايا، وتحليلها، وتبصُّر المشاكل، ودراستها، وتلمُّس مواطن الداء وعلاجها، كان التجاذُب بينهم في ذلك ديدن عملهم واجتهادهم، وكان إحكام الواقع بلجام الشريعة من ساحات هذا التجاذُب والنقاش الساخن، نظرا لكثرة المسائل المستجدة المعروضة على الساحة الفقهية، واضطراب الاجتهادات الفردية بشأنها، مثل كثير من قضايا المعاملات المالية؛ كمسائل التأمين بأنواعه المختلفة، والشركات والمضاربات الحديثة، وفتح الاعتمادات، وبطاقات الائتمان، وسائر أعمال المصارف، وكثير من القضايا الصحيّة والطبيّة، كنقل الأعضاء وزرعها، والاستنساخ، وطفل الأنابيب، والهندسة الوراثية، وغيرها؛ ممّا يجعل كثيرًا من المسلمين في حَيْرةٍ من أمرهم.
ومن رحم هذا الزخم العلمي جاء السعي لإيجاد إطار يجمع تلك الاجتهادات ويسهِّل التلاقح بينها؛ لتثمر رأيًا شرعيًّا رصينًا وقويًّا تلتقي عليه أغلب قرائح المجتهدين، ويُبعِد التشتُّت عن المتبعين والمقلدين، فاجتمعت كلمة العلماء والحكماء من هذه الأمة على إنشاء المجامع الفقهية؛ لتكون الوعاء الجامع لكل الاجتهادات الفقهية، واللسان الصادع بأمر الشريعة في الوقائع المستجدات، والحوادث النازلات. قال العلامة مصطفى الزرقاء – رحمه الله -: “فقد كان من الواجب أن لا تُعالج فوضى الاجتهاد بتحريم الاجتهاد، بل بتنظيمه وجعله بيد الجماعة لا بيد الفرد(1).
ولقد حدث هذا التطوُّر النوعي في نمط الاجتهاد وآلياته ووسائله في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك عندما انتقل الاجتهاد من العمل الفردي إلى العمل الجماعي المنتظم في إطار مؤسسي،وهنا ظهر معه مصطلح الاجتهاد الجماعي الذي لم يكن معهودًا قبل ذلك في كتب أصول الفقه.
المجامع الفقهية: ولعل أول مظاهر هذا الاجتهاد الجماعي في شكله المؤسسي كان هو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصر، الذي أُحدث في عام 1961م،والذي يعدُّ أول مجمع رسمي للاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر،ثم جاءت بعده مجامع وهيئات عديدة مثل المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في عام 1978م، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1981م، ثم أُحدثت بعد ذلك مجامع فقهية إقليمية، مثل مجمع الفقه الإسلامي الهندي الذي أسسه القاضي مجاهد الإسلام القاسمي سنة 1989، ومقره دلهي عاصمة الهند، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث الذي يُعنى بالأحكام الشرعية الخاصة بالجاليات والأقليات الإسلامية، في عام 1417هـ – 1997م، ومقره الرئيسي في (دَبْلن) عاصمة (أيرلندا)، ومجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، في عام (2002م)، ومقرّه في (واشنطن). كما أُنشئت هيئات للفتوى الشرعية الجماعية في كثير من وزارات الأوقاف في الدول الإسلامية، كهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وقِطاع الإفتاء في وزارة أوقاف الكويت، وغيرهما.
الهيئات الشرعية في المصارف الإسلامية: ومما يندرج في هذا السياق أيضا هيئات الفتوى والرقابة الشرعية في المؤسسات والمصارف الإسلامية في العالم، مثل: بنك دبي الإسلامي، وهو أول بنك إسلامي متكامل، أسس عام 1975م، وبيت التمويل الكويتي، وبنك فيصل الإسلامي، ومؤسسة الراجحي المصرفية، ومجموعة دلّة البركة للاستثمار، وكذلك تشمل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، التي تخصَّصت في إصدار الفتاوى المتعلقة بالأمور الطبية.
وأهم ما يميز الاجتهاد الجماعي هو مشاركة الخبراء والأخصّائيين في القضايا المطروحة للنظر والإفتاء؛ ليسهِّلوا على العلماء الشرعيين معرفة تفاصيل القضايا وملابساتها، وخفاياها التي إذا علمت تغيَّر حكمها بسبب ذلك العلم، وهذا واضح في تعريف العلماء للاجتهاد الجماعي حيث يقولون: “إنَّ المقصود بالاجتهاد الجماعي هو تخصيص مهمة البحث واستنباط الأحكام بمجموعة محدودة من العلماء والخبراء والمتخصصين، سواء مارسوا ذلك بالشورى المرسلة، أم في مجلس يتشاورون فيه ويتداولون، حتى يصلوا إلى رأي يتَّفقون عليه، أو ترجِّحه الأغلبية، ويصدر قرارهم بالشورى، ولكن يكون في صورة فتوى(2). وهذا يعني أن مُحصِّلة هذا النوع من الاجتهاد هي تعاون وتكامل بين فقهاء النص (علماء الشريعة)، وبين فقهاء الواقع (الخبراء والمختصين).
ويرى الدكتور قطب سانو: – الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة – أنّ هذا التكامل بين فقهاء النص وفقهاء الواقع تكامل مُؤقَّت وخطوة مرحلية، ينبغي تجاوزها واللجوء إلى التكامل الحقيقي في شخصية المجتهد نفسه، بحيث يغدو فقيهَ النص والواقع، فتتكامل في شخصيته المعرفة الدينية والمعرفة بالحياة، وهذا لا يتعارض مع وجود متخصصين في فروع العلوم، ذات الصلة بالمسائل المعروضة للنظر الاجتهادي الجماعي(3).
وأعتقد أن هذا الكلام لا يستقيم إلا إذا كنا نتحدث عن المجتهد في مسألة معيَّنة، أما تحقُّقه في كامل فروع الشريعة ومناحي الحياة الأكثر تشعُّبًا والأعقد تفصيلًا في شخصِ مجتهدٍ واحدٍ فهذا صعب المنال؛ لأنه مع التقدم المذهل للعلوم والاستفصال المعقد الذي اكتسح جميع نواحي الحياة، لا يمكن معه بأي حال إيجاد شخصية موسوعية تجتمع فيها كل هذه العلوم والفنون بتفاصيلها مثل ما كان في الزمن الماضي، والتعاون بين الفريقين أمر لا مناصَ منه من أجل سيادة الشريعة وهيمنتها على حياة الناس، ودفعهم للعيش في حماها بيسرٍ وسهولةٍ ودون تكاليفَ مرهقةٍ للنفس والعقل.

(1) الاجتهاد ودور الفقه في حل المشكلات، مصطفى أحمد الزرقا (ص: 49).
(2) فقه الشورى والاستشارة، د توفيق الشاوي، ط3، دار الوفاء المنصورة (ص: 243).
(3) ينظر: “قراءة تحليلية في مصطلح الاجتهاد الجماعي المنشود”، منشور في العدد الحادي والعشرون، من مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية- بدبي ص 199- 200.

Comments are disabled.