الاحتكار أضراره الاقتصادية وسبل القضاء عليه
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
تشكِّل ظاهرة الاحتكار انحرافًا أخلاقيًّا وسلوكيًّا، لا تقف آثاره عند حد أكل أموال الناس بالباطل، من خلال مضاعفة أسعار السلع المعيشية عليهم، بل إنها تتضمن آثارًا خطيرة على مستوى الاقتصاد والمقاصد الشرعية، ويرصد هذا المقال مفهوم هذه الظاهرة وآثارها ويحدد سبل مواجهة هذه الظاهرة في ضوء مبادئ الاقتصاد الإسلامي.
1. مفهوم الاحتكار ومحله:
الاحتكار تصرف يدفع إليه الجشع والطمع والرغبة في تعظيم الكسب عن طريق “حبس السلعة من الأسواق رغبة في تضاعف سعرها مع حاجة الناس الماسة إليها“، فيقتضي حبسها التضييق على الناس والإضرار بهم.
وتتفق كلمة الفقهاء على حرمة الاحتكار بناء على الوعيد الشديد الذي ورد في القرآن السنة على مرتكب هذه الجريمة الأخلاقية التي لا تناسب قيم الإسلام، وتقف حجرة عثرة أمام مقاصدة المتكاثرة في رواج المال وتداوله وقيام الأسواق ونشاط الأعمال.
لكن كلمتهم تختلف في محل التحريم فلئن عمم بعضهم التحريم في كل السلع التي تتعلق بها حاجة البشر، فلقد خصص بعضهم التحريم بالقوت رعاية لمكان الأحاديث التي وردت خاصة في هذا الشأن، ورعاية لعدم مساس الحاجة إلى كثير من السلع.
إن المجتمعات الإسلامية في سابق عهدها لم تكن بهذا التنوع ولا التعقد الذي أصبحت عليه في العصور المتأخرة، حيث ظهرت حاجات جديدة بدوام تعلق الرغبات، وقيام المجتمعات على هذه السلع والخدمات، مما جعل هذه السلع والخدمات تتداخل مع الحاجات وتقترب بوجه ما من الضرورات.
وقد كان من فقهاء الإسلام ومفكريه الاقتصاديين من أدرك بثاقب نظره وعمق نظرته مرونة الحاجات، وتنوعها بتنامي الرغبات، مما يرشح كل سلعة من السلع لتحتل هذه المرتبة الجليلة، ولهذا وسع دائرة التحريم ومد بساط النهي ليشمل كل ما تتعلق بها الحاجات من سلع وخدمات.
فيقول المفكر الاقتصادي أبو يوسف: ” كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا”(1).
وقال القاضي حسين: “إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك امساكه ” قال السبكى ” ان أراد كراهة تحريم فظاهر، وان أراد كراهة تنزيه فبعيد”(2).
ويميل الشوكاني إلى هذا التعميم؛ لأن العلة إذا كانت هي الإضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار إلا على وجه يستوي في ذلك القوت وغيره؛ لأنهم يتضررون بالجميع(3).
والتعميم هو الأليق بحال الشريعة التي لا تراعي رفع الحرج في كل مواردها وتتصدى للضرر بكافة أشكاله، وليس من قبيل رفع الضرر تحريم الاحتكار في جانب من جوانب الحاجيات ثم إباحته في جانب آخر، ولعل تخصيص بعض العلماء تحريم الاحتكار جاء مراعاة لبعض النصوص التي وردت خاصة بالطعام، ومن المقرر في الأصول: أن التنصيص على بعض الأفراد لا يفيد التخصيص، وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد(4).
والعدل يقتضي تعميم الاحتكار في كل السلع التي تتعلق بها حاجات الناس، ويقوم عليها نظام حياتهم حتى لو كانت في وقت ما من قبل الرفاهية لمكان الضرر والحرج الذي ينزل على الناس، ولا يقال في منع هذا الاحتكار أنه حجر على حرية تصرف التجار وأصحاب الأموال؛ لأننا حينئذ أمام موازنة بين ضرر عام ينزل بالناس وضرر خاص، وهذه الموازنة تقتضي ترجيح الضرر الخاص على الضرر العام هذا لو فرض أن ثمة ضرر ينزل على البائع؛ لأننا لا نأمره إلا بأن يبيع بسعر المثل أو بما يُتغابن به الناس عامة، ومن جهة أخرى فالملكية وظيفة اجتماعية فلا تطلق يد التصرف فيها بما يضر بمصالح الناس ويؤدي إلى كساد أسواقهم وتعطل اقتصادياتهم التي بها قوامهم(5).
2. بين الاحتكار وإمساك السلعة لوقت الحاجة:
من البدهي ألا يكون ادخار الوقت للحاجة الشخصية غير داخل في الادخار بل كان النبي صلى الله عليه وسلم وسلم “ويحبس لأهله قوت سنتهم”(6)، ولا يظن أن تلتبس هذه الحالة بحالة الاحتكار المحرمة، لكن الذي قد يلتبس على بعض الناس هو عمية إمساك السلعة في وقت كسادها تربصا بوقت رواجها، أو بوقت ارتفاع ثمنها بسبب تجدد وقوة الحاجة إليها.
وانطلاقا من هذه الإشكالية يفرِّق العلماء بين الاحتكار وقت الحاجة ووقت ندرة السلعة، والذي يتحرّى به مرتكب هذا الفعل إغلاء السعر إغلاء فاحشا، وبين تخزين أو جمع السلع في وقت الكثرة تربصا بها لوقت الندرة، فيجيزون هذه الأخيرة ولا يعتبرونها من قبيل الاحتكار الممنوع بل يعده بعضهم من قبيل فعل الخير والإحسان؛ إذ هو حفظ لما تقوم به الحاجات وقت الحاجة خاصة أنه مزهود فيه وقت الندرة ولربما تلف بكثرة المعروض، فإذا قام التاجر بحفظه لوقت الحاجة وقام على ذلك بما تحتاجه السلعة من نفقات تخزين وحراسة وحفظ فهو مأجور، بشرط أن يبيعه في وقته بثمن المثل أو بما لا يُتغابن فيه الناس عادة.
يقول الغزالي: “فأما إذا اتسعت الأطعمة وكثرت واستغنى الناس عنها ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة فانتظر صاحب الطعام ذلك ولم ينتظر قحطا فليس في هذا إضرار، وإذا كان الزمان زمان قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار”(7).
وقال السبكي: “الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه “إن منع غيره من الشراء وحصل به ضيق حرم وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القدر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى، أما إمساكه حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي أن لا يكره بل يستحب»(8).
3. مفاسد الاحتكار وآثاره السيئة:
إن الاحتكار جريمة أخلاقية كبرى تدل على قسوة نفس صاحبها، وشديد طمعه وشراهة نفسه إلى المال ولو بظلم العباد وإقلاق أمنهم وتعريضهم للفناء، وهو جريمة اجتماعية واقتصادية حيث لا تقف آثارها عند حد تعطيش الأسواق من السلع وانتهاب أموال الناس استغلالا لحاجتهم، بل تتعدى ذلك لتصل إلى حد تعرض النفوس للتلف حينما يقف العاجزون عن الشراء بعيدا عن ضرورات معيشتهم، فتدب فيهم الأمراض ويسري فيهم الوهن، وينتشر فيهم الضعف، وتكون الحياة وقفا على القادرين الذين يتحولون تدريجيا إلى عاجزين بحسب قدرتهم على تحمل مغبات هذه الظاهرة تبعا لقدرتهم الاقتصادية وموقعهم في نسق الثراء.
إن الاحتكار بهذا خطر أيما خطر على مقصد حفظ النفس حينما يعرضها للتلف حالا أو مآلا، وهو كذلك خطر على أموال الأمة؛ إذ هو انتهاب لها وتجميع لها في حوصلة أصحاب السلع دون وجه حق، ولا ريب أن الأموال التي تقتطع من أبناء الأمة بهذه الطريقة تؤثِّر على أحوالهم ومعايشهم وقد تؤدي إلى خلل في جوانب أخرى وتحول بينهم وبين استثمارها لصالح أنفسهم في ترقية أحوالهم وتنمية معايشهم، فتذهب لصالح فئة معدودة ويؤول الأمر إلى اكتناز وخلل في بنية المجتمع الاقتصادية، ويمتد بساط الفقر بقدر ما تستمر هذه الظاهرة، وتصبح الأموال دُولة بين طائفة محددة من طوائفة الأمة، طائفةٍ آثرت أن تصل إلى الغنى بطريقة لا يقرّها الدين ولا تقبلها المروءة ولا يقوم معها الأمن الاجتماعي.
إن هذه الظاهرة إذ تعود بالبشرية إلى حيوانية مقنَّعة تورث الحقد والضغائن بين أفراد المجتمع وبين هؤلاء المحتكرين، وإذا كانت الزكاة تطهر النفوس وتمحو الضغائن وتورث الحب بين المعطي والآخذ، فإن الاحتكار يثير الأحقاد ويربي الضغائن ويزرع الريبة والكراهية في نفوس هؤلاء الضعفاء تجاه القائمين بهذه الظاهرة الأثيمة، فإن الاحتكار لا يقطع فقط أموال الناس بغير حق بل يقطع كذلك أمان نفوسهم واستقرارها حيث تظل متعلقة بما راح منها ولله در ابن خلدون إذ يقول:
«وممّا اشتهر عند ذوي البصر والتّجربة في الأمصار أنّ احتكار الزّرع لتحيّن أوقات الغلاء مشئوم. وأنّه يعود على فائدته بالتّلف والخسران. وسببه والله أعلم: أنّ النّاس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرّون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطرارا فتبقى النّفوس متعلّقة به وفي تعلّق النّفوس بما لها سرّ كبير في وباله على من يأخذه مجّانا ولعلّه الّذي اعتبره الشّارع في أخذ أموال النّاس بالباطل … فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النّفسانيّة على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. والله تعالى أعلم»(9).
4. العقاب الشرعي للمحتكر:
ظهر مما سبق كيف يتسبب الاحتكار في انفصام عرى الأخوة الإيمانية وتكدر زلال المحبة بين المسلمين، فضلا عن الآثار الاقتصادية السيئة التي تعطّل عن العمل وتمنع رواج المال، ونشاط الأعمال، ومن أجل ما يشتمل عليه الاحتكار من أثرة وحب للنفس وقسوة على الخلق توعد الشارع صاحبه بأشد العقوبة، فاعتبره خاطئا(10) أي: مذنبا عاصيا لا عذر له لتعمده(11)، وفسره العلماء بالإلحاد(12) الذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥﴾ [الحج: 25] .
وهذا العذاب قد يكون مؤجلا للآخرة وقد يعجَّل لصاحبه في الدنيا، كشأن سائر الكبائر، وقد روي فيه ذلك بسند فيه ضعف أن مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه امتنع عن الاحتكار بعد سماع عمر رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه: “من احتكر طعاما على المسلمين ضربه الله بالإفلاس أو بالجذام”، فيحكي الراوي أنه رأى مولى عمر مجذوما مجدوعا(13).
5. آليات مواجهة الاحتكار في الاقتصاد الإسلامي
تتنوع الآليات التي يمكن للدولة أن تواجه بها المحتكرين وتقضي على ظاهرة الاحتكار، فهناك إجراءات كثيرة يمكن للدولة أن تقوم بها في هذا الصدد بشرط مراعاة المصلحة الشرعية، ومما ذكره علماء الاقتصاد الإسلامي في هذا الصدد:
- فرض العقوبة المالية أو البدنية على المحتكر.
وقد قام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمثل هذا الإجراء مع بعض المحتكرين، حيث أحرق له حصيلة كبيرة من غلال كان قد احتكرها، قال قيس: «قد أحرق لي علي بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحتها، مثل عطاء الكوفة»(14). - توجيه الأمر للمحتكر ليبيع الطعام بسعر المثل فإذا امتنع باعه الحاكم عليه(15).
وهذا إجراء يتفق مع العدل إذ البيع بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه هو العدل “فإن من اضطر إلى طعام غيره: أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل، ولو امتنع من بيعه، إلا بأكثر من سعره، فأخذه منه بما طلب: لم تجب عليه إلا قيمة مثله”(16). - تسعير القوت في وقت الأزمات الاقتصادية إن تجاوزت الأسعار نطاق العدل(17).
وقد ورد النهي عن تسعير القوت كما في حديث أنس «غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا؟ فقال: إن الله هو القابض الرازق، الباسط المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال»(18).
وهذا الامتناع محله ما إذا كان الناس يبيعون على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر بسبب حركة العرض والطلب الطبيعية، فحينئذ يكون إلزام الناس بأن يبيعوا بقيمة بعينها إكراها بغير حق، أما في مثل حالة الاحتكار الظالمة التي تمنع الناس عن حاجياتهم وضرورات معايشهم إلا مع أثمان باهظة فالعدل هو تدخل الدولة ببيع السلعة بثمن المثل؛ إذ التسعير يكون محددا بثمن المثل وهذا هو العدل الذي يرضى الله تعالى به(19).
وقد ظهر من ذلك أن الاحتكار ظاهرة خطيرة يجب على أولي الأمر مواجهتها بكل السبل الممكنة، حرصا على سلامة المجتمع وأمنه الاجتماعي والاقتصادي، وحفظا له من شيوع القيم المادية والسعي وراء الثراء ولو على حساب حيوات الناس وضرورات معايشهم.
(1) الهداية في شرح بداية المبتدي (4/ 377).
(2) تكملة المطيعي الأولى على المجموع (13/ 48).
(3) انظر: نيل الأوطار (5/ 262).
(4) نيل الأوطار (5/ 262).
(5) انظر: الاقتصاد الإسلامي، حسن الشاذلي، (ص: 203) والتعامل التجاري في ميزان الشريعة الإسلامية يوسف قاسم (ص: 89).
(6) أخرجه البخاري، كتاب النفقات، «باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال» حديث رقم «5357» (7/ 63).
(7) إحياء علوم الدين (2/ 73).
(8) ذكره الشوكاني في نيل الأوطار (5/ 262).
(9) تاريخ ابن خلدون» (1/ 497).
(10) أخرجه مسلم، كتاب: المساقاة، “باب تحريم الاحتكار في الأقوات” حديث رقم (1605) (3/1227).
(11) انظر: نيل الأوطار (5/ 261).
(12) انظر: «تفسير القرطبي (12/ 35).
(13) أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحُكرة والجلب، حديث رقم «2155» (3/ 283)، بدون القصة المذكورة، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه» (3/ 11)، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح (4/ 348): «رواه ابن ماجه وإسناده حسن»، وأخرجه بالقصة المذكورة البيهقي في شعب الإيمان، حديث رقم (10705) (13/ 513).
(14) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف أثر رقم (20393) (4/ 301).
(15) ينظر: بدائع الصنائع (5/129) والقوانين الفقهية لابن جزي، (ص: 169) وحاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج (2/231) والبهوتي كشاف القناع للبهوتي (3/188).
(16) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص205).
(17) منع من التسعير: أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأجازه مالك إذا رأى فيه الإمام العدل مصلحة تعود على المجتمع، ينظر: بدائع الصنائع، الكاساني (5/129)، وشرح التلقين (2/ 1010)، والماوردي، الأحكام السلطانية (ص: 370)، والأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، (ص: 303).
(18) أخرجه أبو داود، البيوع، باب في التسعير حديث رقم «3451» (5/ 322) والترمذي، أبواب البيوع، باب ما جاء في التسعير حديث رقم «1314» (3/ 597).
(19) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص205).