مقارنة بين معالجة أزمة اقتصادية في ظل التمويل التقليدي والتمويل الإسلامي: دراسة حالة

بقلم الأستاذ الدكتور/ معبد الجارحي

معالجة الأزمة في ظل التمويل التقليدي: مثال الأزمة المالية العالمية

أولاً: الخلفية المؤسسية للأزمة

  • تقوم الحكومة الأمريكية بتسهيل تملك المساكن للمواطنين عن طريق الرهن العقاري.
  • يقوم المواطن بالبحث عن مسكن مناسب من خلال الشركات العقارية عادة، أو بالاتصال بالمالك مباشرة.
  • يتقدم المواطن بطلب للبنك لتمويل مسكنه، برهن العقار كضمان للسداد.
  • يقدم البنك قرضًا للمواطن لشراء العقار، ويتم سداد القرض للمواطن الذي يحوله للمالك بغية البدء في تسجيل الرهن العقاري.
  • أنشأت الحكومة مؤسستين حكوميتين للتأمين على الرهن العقاري، لكي تشجع البنوك على تقديم القروض العقارية من ناحية، ولكي تساعد على تخفيض أسعار الفائدة المفروضة على تمويل المساكن. والمؤسستان هما:
    • Fannie Mae
    • Freddie Mac
  • تقوم المؤسستان بشراء الرهون العقارية من المقرضين، ثم الاحتفاظ بها في محافظهما المالية، أو تصكيك الرهون على هيئة أدوات مالية وبيعها للجمهور. وبهذه الطريقة، تتيح المؤسستان المزيد من الموارد المالية للمقرضين بشراء الرهون، وفي الوقت نفسه تحشد المزيد من الموارد عن طريق التصكيك (سندات مدعومة برهون، أو سندات عقارية) (mortgage backed securities, MBS) وبيع الأدوات المالية للبنوك والجمهور.
  • تقوم المؤسستين بضمان سداد أقساط الرهون في مواعيدها مما يشجع الجمهور على شراء السندات العقارية، كتوظيف آمن للأموال.

ثانيًا: كيف حدثت الأزمة

  • من الطبيعي أن ينتشر تمويل المساكن بأسلوب الرهن العقاري، بفضل التشجيع والدعم الحكومي وقد حدث رواج كبير في سوق العقار، صاحبه ارتفاع مشهود في أسعار العقارات.
  • ونظرًا للضمانات التي تقدمها المؤسستان الحكوميتان، أقبلت البنوك على عرض المزيد من القروض العقارية على أصحاب المساكن المرهونة، بشروط مغرية.
  • لكن غالبية أصحاب العقارات لم يكن لديهم القدرة الكافية لسداد المزيد من القروض على مساكنهم المرهونة، وقد كان ذلك معلومًا للبنوك المقرضة من قبل، ولكن ضمان السداد الذي تقدمه المؤسستان الحكوميتان شجع البنوك على تقديم المزيد من القروض، دون تحسُّب لإمكان الفشل في تسديدها وقد أطلق على هذه الحالة من الإقراض “الإقراض العدائي أو الافتراسي (predatory lending)”.

واندلعت الأزمة مع انفجار بالون الرواج العقاري وانهيار أسعار العقارات، حينما لم يعد بإمكان الملاك تسديد القروض، ثم اتسع نطاق الفشل في سداد القروض العقارية بصورة كبيرة وكان من مظاهر ذلك أنه:

  • لم تستطع مؤسسات الإقراض العقاري سداد مستحقات التأمين.
  • تهددت البنوك الأمريكية بالإفلاس، وبدأت في التساقط، وعلى رأسها (Lehman Brothers)

ثالثًا: السياسات النقدية في مواجهة الأزمة:

تقدم بنك الاحتياط الفدرالي بسياسة مبنية على ما يلي:

  • إنقاذ البنوك، أي الدائنين من الانهيار.
  • إنقاذ مؤسستي التأمين العقاري من الانهيار.

كما قام بنك الاحتياط الفدرالي بشراء أجزاء مهمة من أصول البنوك، بما يشبه التأميم المؤقت، كما قام بشراء أجزاء من أصول مؤسستي التأمين العقاري.
وقد بلغت حصيلة ما أنفقه بنك الاحتياط من موارد الدولة 800 مليار دولار في المرحلة الأولى، ثم أتبعها بمبلغ 1000 مليار دولار كمرحلة أخيرة.

رابعا: الآثار الاقتصادية للأزمة الاقتصادية:

ترتب على أزمة الرهن العقاري جملة من الآثار الاقتصادية الفادحة التي شملت الاقتصادي الكلي والجزئي وانتقلت عدواها إلى دول العالم أذكر منها ما يلي:

  1. إفلاس معظم أصحاب العقارات الذين تم طردهم من مساكنهم، والتي بدورها بيعت بأثمان بخسة للغاية، ورؤيت عائلات بكاملها تسكن في الحدائق العامة بعد فقدان مأواها.
  2. عجز المفلسين عن تغطية نفقات احتياجاتهم الضرورية، فانتقلوا للعيش على المعونات الخيرية والحكومية.
  3. انخفاض الطلب الكلي، مع انتشار العجز عن الإنفاق، وبدأ الكساد يعم الاقتصاد الأمريكي، ثم ينتقل تباعًا للدول الأخرى بما يشبه العدوى.
  4. ازدياد حدة الكساد، وذلك حين امتنعت البنوك عن المخاطرة باستخدام الأموال التي ضختها الدولة لمنع البنوك من الانهيار في تقديم القروض.
  5. تأخُّر تعافي الاقتصاد العالمي، حيث بدأت الأزمة عام 2007م، ولم تبدأ مظاهر التعافي منها في الظهور إلا في 2012م، مما رشَّح هذه الأزمة للتفوق على سائر الأزمات، واعتبرت الأزمة المالية العالمية أشد الأزمات وأصعبها تعقيدًا، بل أشد وطأة من الكساد الكبير عام 1930م.
  6. الكشف عن جوانب الخلل في نظام اقتصاديات السوق، مثل الفساد، والجشع، والرشوة، والغش، والخداع.
  7. احتمالية تكرر هذه الأزمة، حيث لم يتمكن واضعو السياسات الاقتصادية من معالجة أسباب الأزمة، مما يجعل من الممكن أن تتكرر بنفس الطريقة.

خامسًا: هل يمكن أن تحدث أزمة مماثلة في ظل التمويل الإسلامي؟

إذا حاولنا الإجابة على هذا السؤال بفرض تطبيق التمويل الإسلامي تطبيقًا صحيحًا دون تحايل من أي نوع، نجد أنه من المستحيل أن تحدث أزمة مماثلة في ظل التمويل الإسلامي للأسباب التالية:

  • أن تمويل المساكن لن يكون بطريق الإقراض، وإنما باستخدام واحد أو أكثر من العقود العشرين التي تضم المشاركات، والوكالات، والمبايعات.
  • أن التمويل بالمشاركات (في الربح أو الناتج) وبالوكالة، لا ينتج عنه ديون على الإطلاق.
  • أن التمويل بالمبايعات وإن كان ينتج عنه ديون، فإن القاعدة في الديون: أن قيمة الدين تثبت في بداية البيع، وتصبح بعد ذلك غير قابلة للزيادة بأي شكل من الأشكال.
  • أن العقار المموَّل يعتبر تلقائيًّا رهنًا مقابل سداد الأقساط، ولا يمكن لمشتري العقار أن يقترض بضمان العقار المزيد من الأموال، ولا يُتصوَّر أن مبلغ التمويل يزيد عن قيمة العقار وقت البيع؛ نظرًا لأن التمويل يتم لشراء العقار.
  • في حالة الإعسار:
    • تتم إعادة جدولة الدين المستحق بنفس القيمة الكلية ودون أية زيادة ولكن بسدادها على أقساط أصغر حجمًا، موزعة على فترة سداد أطول، وتكون الأولوية لمساعدة المدين (الطرف الأضعف) وليس الدائن.
    • إذا انخفض دخل المعسر بصورة لا تمكِّنه من القيام بتوفير حاجياته، يصبح مستحقًّا للزكاة، كما يصبح محل اهتمام المؤسسات الخيرية التي تقدم المساعدة في هذه الأحوال.

سادسًا: فرضية حدوث أزمة وكيفية معالجتها في ظل التمويل الإسلامي

نظرًا لأنه لا مجال في ظل التمويل الإسلامي للإقراض العدائي، ولا للإقراض بضمان الأصول، فلابد من افتراض سبب آخر لحدوث أزمة، فلنفترض إذن أن المجتمع يعمل معظمه في حقل الزراعة، وأن المزارعين حصلوا على تمويل لمساكنهم بأسلوب الإجارة المنتهية بالتمليك، وأن البنوك قامت بإنشاء هيئة ذات غرض خاص (special purpose vehicle, SPV) تقوم بتصكيك المساكن المرهونة، ويستحق حملة الصكوك نصيبا من مدفوعات المزارعين الدورية، ويتم تداول الصكوك في السوق المالية جنبا لجنب مع الأدوات المالية الأخرى، مثل الأسهم وشهادات الاستثمار وشهادات الصناديق وغيرها من الأدوات المالية الإسلامية.
لابد لكي تحدث الأزمة أن نفترض أن عاملاً خارجيًّا قد تدخل في منظومة حياة المزارعين، كما لو أن المحصول هذا العام قد أصيب بصقيع غير متوقع، قضى على معظمه.
وبالرغم من ارتفاع أسعار المحصول، فإن دخل المزارعين من بيعه أصبح ضئيلاً جدًّا بدرجة لا تسمح لهم بسداد أقساط الإجارة. مما سوف يترتب عليه أن المزارعين لن يستطيعوا سداد الأجرة حتى وقت الحصاد التالي، وأن الاقتصاد سيصبح مهددًا، بإفلاس المزارعين والبنوك، وحلول الكساد.

سابعًا: إجراءات علاج الأزمة

في ضوء هذه الأزمة الافتراضة ستكون إجراءات علاج هذه الأزمة في ضوء قواعد التمويل الإسلامي قائمة على السياسات الآتية:

  • منح المزارعين إعادة جدولة دون زيادة في حجم الدين مع إطالة فترة السداد، وخفض الأقساط.
  • ضخ أرصدة نقدية جديدة عن طريق زيادة الودائع المركزية لدى البنوك الإسلامية، لاستخدامها في تمويل الاستثمارات. أي: زيادة معدل التوسع النقدي.
  • إعطاء أولوية لتمويل المحصول القادم بطريقة المزارعة أو السلم، بحيث يتمكن المزارعون من البدء في تجهيز الأرض للمحصول القادم.
  • تقديم المعونات اللازمة من صندوق الزكاة وأموال الصدقات والوقف، لتمكين المزارعين من الوفاء بحاجياتهم المعيشية، حتى لا ينكمش الطلب الكلي ويعرض الاقتصاد للكساد.
  • ولا ريب أن هذه الإجراءات سوف تحمي المزارعين من الإفلاس، وتمكِّنهم من الاستمرار في حياتهم الإنتاجية، وتمنع انهيار البنوك بسبب عدم السداد، وتنشط الاقتصاد الوطني بضخ المزيد من الاستثمار.

الخلاصة:

يعطي التمويل الإسلامي السلطات النقدية أدوات سهلة ومباشرة لعلاج أية أزمة اقتصادية قبل أن تتفاقم، بينما لا يتيح التمويل التقليدي هذه الأدوات بصورة تلقائية.

Comments are disabled.