دور المصارف الإسلامية في تحقيق التنمية الاجتماعية أثر الأسُس المرجعية، ودور الهياكل المؤسسية والأنشطة الاستثمارية

بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد

يمثِّل مصطلح التنمية الاجتماعية بمفهومه الشامل، خلاصة جهود مختلفة على المستوى الاقتصادي والفكري والاجتماعي والنفسي والبيئي، وإن كان الاهتمام المبكر بهذا المفهوم قد جاء من قِبَل الحقل الاقتصادي، حيث أولى عنايته بالجوانب الاقتصادية التي تدور حول الربحية والعوائد والنمو الممثل في المداخيل من خلال الأرقام والنواتج الحسابية.
ومع هذا السبق الذي يُسجَّل للاقتصاديين فإن هذا المدلول يحمل دلالات نفسية وتربوية واجتماعية لم يهتم بها علم الاقتصاد، ما شكَّل نظرةً غير دقيقة لأهمية الجوانب الاجتماعية في العملية التنموية ككل وفي الأهداف المقترنة بهذه العملية على وجه الخصوص، ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى قصورٍ مفهوم التنمية ببعده الاقتصادي، فإن الدعوة إلى الاستدامة والتنمية المستدامة خير دليل على قصور التصورات السابقة لمفهوم التنمية، وإزاء ذلك تكاملت الجهود الدراسة وتمخَّضت عن مفهوم التنمية الاجتماعية، الذي أعاد النظر في الجوانب الاجتماعية للتنمية وقرر أن الإنصاف وضع هذا المفهوم إلى جانب النمو الاقتصادي رأسا برأس؛ ليكون متغيِّرا مستقلًّا في أساس المعادلة وليس مجرد متغيِّرٍ تابعٍ.
لقد أدرك المفكرون والدراسون أن التنمية الاقتصادية تؤدي إلى جانب وظيفتها الاقتصادية وظيفة أخرى اجتماعية كذلك، فهي في المدى البعيد تستهدف رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته، في حين لا جدال في أن التنمية الاجتماعية هي ضمانة تحقيق أقصى استثمار ممكن للطاقات والإمكانيات البشرية الموجودة في المجتمع، فالتنمية الاقتصادية لا تحدث في فراغ بل تحدث في مجتمع من القدرات تتشكل من مجموع ما لدى البشر من قوة بدنية واستقرار نفسي ومقدرات عقلية، ويعني ذلك أنه لا أثر لتنمية اقتصادية لا تسير مع التنمية النفسية والعقلية(1).
ومن هنا توجهت الاهتمامات لدراسة محدِّدات التنمية الاجتماعية وأعيد النظر في أهداف التنمية الاقتصادية؛ لتعدد أبعادها حسب الأهداف الألفية السبعة عشر المعروفة.
ويتناول هذا المقال علاقة المصارف الإسلامية بالتنمية الاجتماعية من حيث الأسس النظرية، أو العقيدة الاقتصادية التي تشكل منطلقات الاقتصاد الإسلامي، ثم من خلال انعكاسات هذه العقيدة على الأنشطة والأعمال التي تقوم بها المؤسسة لتجعل منها أداة من أدوات تحقيق التنمية الاجتماعية.

1. الأسس المرجعية للتنمية الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي:

إن الاقتصاد الإسلامي بصفة عامة هو اقتصاد التنمية والعمارة، ينطلق في ذلك من فلسفته الكبرى ومبادئه في العمل والاستثمار وتوجُّهاته وخصائصه، وقد تأكَّد ذلك من البواكير الأولى لتطبيق هذا الاقتصاد على أرض الواقع، حينما كان الوحي يكرِّر الأمر بالعمارة ودور المسلم في تحقيق الاستخلاف بتنمية موارد الأرض؛ ليتحقق للمجتمع نمط الحياة الطيبة، ويفشو الأمن على المستوى المادي والاجتماعي، وقد جعل هذا الاقتصاد مسؤولية إغناء أفراد الأمة وتوفير كفايتهم مسؤوليةً عامةً يطال جزاءُ التقصير فيها جميع أفراد المجتمع وعلى رأسهم القادة وأصحاب السبق والقدرات الاقتصادية، ومن هنا ارتبط هذا الاقتصاد بالمسؤولية الاجتماعية وشكَّلت جزءا لا يتجزأ من منظومته العملية.
وتطرح فكرة العمارة والتنمية محوريةَ وأصالةَ الدور الاجتماعي للمؤسسات المالية الإسلامية باعتبارها التجسيد العملي والواقعي للاقتصاد الإسلامي، ويرتبط بها واجب التنمية في هذا الاتجاه، تطبيقًا لقاعدة فرض الكفاية الذي يصير فرض عين على القادر، وما من شك في أن التنمية الحقيقية هي التنمية المتوازنة التي تستهدف إقامة توازن بين أفراد المجتمع، وإقامة الجسور بين القادرين وغيرهم، وفتح قنوات المال بين أفراد المجتمع؛ بين الأغنياء وبعضهم البعض من خلال الشراكات البناءة والعادلة، وبين الأغنياء والفقراء من خلال الواجبات الاجتماعية والتطوعية، أو من خلال التكامل بين رأس المال والجهد البشري؛ لتحقيق أقصى درجات استغلال الموارد بشقيها الاقتصادي والبشري.
وتتعدد الأدلة والركائز التي تشكل هذه النظرية، غير أن أبرز ما يظهر في هذا الصدد هو التصوُّرات التي تقرر أن أموال الأفراد أموال لجميع الأمة، والانتفاع بها مربوطٌ بمراعاة الحقوق المختلفة التي تروح وتغدو عليها كما تغدو الطيور على الحقول، وبمراعاة واجب استثمارها وإدراتها إدارةً تُلبِّي المصالح العامة، أو حاجات الأمة جميعها التي تبلغ مبلغ الضرورة(2).
ومن هنا يحتم الفكر الاقتصادي الإسلامي أن تكون إدارة المال قائمة على مراعاة المصلحة في تحديد مجال الاستثمار وحجمه ومكانه وأدواته، بما يعود نفعه على عموم الأمة ويكفي حاجاتها، ويسمح بالربحية في الوقت نفسه ليتجدد عطاء المال الاجتماعي في شكل تيارات الزكاة التي تتدفق على تربة الفقر، فتسبدل منه نعيمًا ورخاءً ورفاهيةً ونعمةً.
وقد قام نموذج عمل المصارف الإسلامية على أساس تقدير واعتبار الدور الاجتماعي الذي يضع نصب عينيه التنمية في شكلها الاجتماعي، القائم على توفير الكفاية الاقتصادية والقضاء على الفقر في شكله المدقع، وممثَّلًا في نقص القدرات، وتحقيق الأمن النفسي، والفكري الثقافي، والديني الخ.
حيث تشكل تلك الأمور جزءًا من الواجب العام على جميع أفراد المجتمع، والواجب الخاص على القادرين المتعينين لأمور بعينها، على ما هو مقرر ومفصل في أبواب الشريعة الإسلامية، ومؤصل في نظرية الفرض هنالك(3).

2. الأهداف الاجتماعية للمصرفية الإسلامية:

منذ تأسست المصرفية الإسلامية وهي تضع نصب عينيها قضية التنمية الاجتماعية، والتي كانت معيارًا محدِّدا لأنشطة هذه المصارف، وموجِّها لتيارات التمويل المختلفة، مع الأخذ في الحسبان ربحية هذه الأنشطة؛ لأن غياب الربحية المادية يعني غياب التنمية الاجتماعية؛ إذ الأولى تمثِّل الموارد التي يمكن توجيهها لتحقيق الثانية، في حين أن الثانية تمثِّل إحدى الثمرات المرجوة من العملية الاستثمارية، إنها هدف أولي وأولوية مستهدفة، ومن أجل ذلك يجب وضعها في الحسبان منذ بداية الأنشطة بحيث تكون عاملًا من عوامل تحديد الأنشطة وأحجامها ومواطنها في ضوء المصلحة والتوازن.
وهكذا تزدوج الأهداف أو تتآخى مشكِّلة من الجوانب الاجتماعية والربحية توازنًا لا نظير له، يحقق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ويجعل من التنمية في الاقتصاد الإسلامي عملية إنسانية نبيلة، تتوخى الغايات العليا والأهداف السامية التي تحقق سعادة الإنسان وكرامته وتحقق في الوقت ذاته ربحية استثمارية قائمة على أساس الاستقرار، بعيدة عن الأزمات والدورات التي ارتبطت بالاقتصاديات غير الأخلاقية.
وهذا ما شهدت به أقلام الغربيين الذين تعرضوا لدراسة البنية المعرفية للاقتصاد الإسلامي وتناولوا تاريخه وتطبيقاته بهذه الدراسة.
فيقول الكاتب الأمريكي هوستن سميث من كتابه أديان العالم: “يعي الإسلام تمامًا الأساس المادي للحياة، فما لم تتم تلبية الحاجات الجسمية، لا يمكن للاهتمامات الأسمى والأعلى أن تزدهر … وكما أن صحة كل كائن حي تتطلب أن يصل الغذاء إلى كل جزء منه، كذلك تتطلب صحة المجتمع أن تُوَّزع السلع المادية على نحو واسع وبشكل ملائم.
إن النموذج الذي يحرِّك الاقتصاد الإسلامي هو جهاز دوران الجسم، فالصحة تتطلب أن يتدفق الدم بحرية وبشدة؛ وأي ركود أو بطء في تدفق الدم قد يؤدي إلى المرض أو الموت بسبب حدوث تجلطات في الدم. والأمر نفسه بالنسبة إلى الجسم الاجتماعي، الذي تأخذ فيه الثروة مكان الدم، على أساس أن الثروة هي مادة الحياة وعصبها. طالما تم احترام هذا التشبيه وتم وضع القوانين التي تضمن دوران الثروة في المجتمع بنحو شديد وفعال، فإن الإسلام لا يعترض على دوافع الربح، ولا على التنافس الاقتصادي أو المغامرات التجارية الاستثمارية التي كلما كان الإنسان فيها أكثر براعة؛ كان أفضل.
القرآن لا يمنع ولا يثبِّط الناس عن العمل بجدية أكبر من جيرانهم، ولا يعترض على حصول مثل أولئك الناس على عائدات أكبر من الآخرين. كل ما يؤكد ويصر عليه هو أن الكسبية والتنافس يجب أن تتم موازنتهما بالإنصاف والعدل في العمل. أي: أن تبقى الشرايين مفتوحة، وبالرحمة والشفقة التي يجب أن تكون قوية بنحو كافٍ يؤمِّن ضخ الدم المنشط للحياة –أي المصادر المادية والمالية – إلى أصغر الأوعية الشعرية لجهاز الدوران. هذه الأوعية الشعرية تتم تغذيتها عن طريق الحصص المخصصة للفقراء، والتي تنص على أولئك الذين يملكون عليهم أن يدفعوا حصة سنوية من ممتلكاتهم ليوزعوها على الفقراء المعوزين وهذه هي الزكاة”(4).
إن هذه الكلمة وإن كانت مجرَّد إشارة إلى ارتباط الاقتصاد الإسلامي والمؤسسات المالية الإسلامية بالتنمية الاجتماعية، فإنها كافية لإثبات وضوح هذه الخاصية وفاعليتها وهيمنتها على الأنشطة الاستثمارية، حتى يستطيع إدراكها من يتعرض بالدراسة لهذا الاقتصاد أو يحاول التعرف عليه.

3. التنمية الاجتماعية بين البنك الإسلامي والبنك التقليدي:

لم تتبنَّ البنوك التقليدية الهدف الاجتماعي كأساسٍ فلسفيٍّ تتحدَّد وفقًا له نماذج العمل والأنشطة الاستثمارية التي تقوم بها، وإن الاطِّلاع على نماذج عمل هذه المؤسسات يؤكد بوضوح عدم الارتباط المباشر بين أنظمة التمويل في هذه المؤسسات وبين التنمية الاجتماعية، حيث ترتبط هذه النماذج بتمويل الأفراد على أساس حصول الثقة والملاءة وبناءً على العائد من وراء العملية التمويلية، دون نظر إلى الأنشطة الاستثمارية المرتبطة بعملية التمويل أو دراسة أولوية مجالها فضلًا عن التعرض لآثارها على المجتمع والبيئة والحالة الاقتصادية بعامة، وهذا بالطبع إن وجدت هذه الأنشطة، فكثيرًا ما ترتبط عمليات التمويل في هذه المؤسسات بتمويل الاستهلاك والترفُّه وغير ذلك، المهمُّ هو التأكد من ملاءة العميل وقدرته على السداد.
وفي المقابل نجد نموذج البنك الإسلامي نموذجًا قائمًا بذاته مختلفًا في الأسس والمنطلقات والعمليات التمويلية عن ذلك النموذج السابق، فالتمويل فيه قائم على أساس وجود نشاط استثماري مباح، يقع ضمن دائرة الأولويات التي تحددها معايير التمويل الإسلامية، التي تشترط في النشاط – فضلا عن أن يكون حلالا طيبا – أن لا يضر بالبيئة ولا بالمجتمع ولا بالأفراد، مع كونه قائما ضمن دائرة الأولويات التي تمثلها نظرية المقاصد.
ومن ثم يتسق هذا النموذج مع التنمية الاجتماعية بما أنها تنمية تستهدف تحقيق إنسانية الفرد بكفالة اتزانه النفسي والاجتماعي، وتصحيح مسار العلاقة بين أشواق نفسه وآفاق روحه، وبينه وبين البيئة، والكون، والمجتمع، مما يضمن إزاحة الصراع بينه وبين هاتيك العناصر، إضافة إلى تنمية طاقات الفرد، وتعميق القيم الروحية، بما يؤدي إلى إحداث تأثيرات عميقة وإيجابية في بناء الشخصية، وبالتالي في أنماط الممارسات السلوكية، مع تحقيق الأمن الاجتماعي وتطبيق العدالة وإتاحة سبيل تكافؤ الفرص، إلى جانب تعديل الاتجاهات بما يتفق مع القيم الروحية السديدة، كل ذلك في إطار أيديولوجية علوية غير وضعية تستهدف تكريم الانسان كخليفة لله على الأرض(5).
والصلة وثيقة بين البنك الإسلامي وبين هذه العملية سواء من خلال بناء الهيكل العملي أو الأنشطة الاستثمارية، تلك الأنشطة التي تأخذ التنمية إلى أبعد من مجرد تنمية اقتصادية تُتَرجم في أرباح أو مشاريع، بصرف النظر عن المردود الاجتماعي والتأثير الروحي والإعمار المتحقق.

4. السياق التاريخي الداعم للدور الاجتماعي للمصرف الإسلامي:

ارتبطت الدعوة لإنشاء البنوك الإسلامية برغبة كبيرة في تقديم علاج إسلامي للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي يواجهها عالم اليوم، وانفعلت وتفاعلت مع استعداد هذه الأمة الوسط لكي تقوم بدورٍ رائدٍ في بناء مستقبلٍ أفضل للحضارة الإنسانية، بعدما فرضت عليها هذه المؤسسات الغربية التي استقطبت أموال المسلمين وباتت توظِّفها في الأعمال الربوية، فالبنوك الإسلامية تمثِّل مظهرًا من مظاهر التحرر الحقيقي من بقايا التبعية والخضوع للاقتصاد الاستعماري الرأسمالي الغربي، الذي فرض على بلاد المسلمين نظام البنوك الربوية وتركها من بعده تحمل فكرته وتنفذ خطته، كما أنها تمثل في الوقت عينه تجسيدا واقعيا للاقتصاد الإسلامية بمبادئه وأهدافه وفلسفته الكبرى ومنظومته الاستخلافية(6).
ولذلك يختلف طابع هذه المصرفية عن المصرفية التقليدية حيث تنطلق أعمال هذه البنوك من قيم الشريعة وأحكامها، بما يخدم بناء مجتمع التكافل الإسلامي ويحقق عدالة التوزيع، ولهذا لا تقف مهام هذه البنوك عند حد المهام التقليدية التي تعرفها البنوك التقليدية، بل إن هذه البنوك باعتبارها إحدى أوجه النظام الاقتصادي الإسلامي تتحمل مسؤوليات أخلاقية واجتماعية وروحية وفكرية لا توجد لدى البنوك التقليدية، ولهذا توصف هذه البنوك بأنها مالية تنموية اجتماعية.
إن البنوك الإسلامية أجهزة مالية من حيث إنها تقوم بما تقوم به البنوك من وظائف في تيسير المعاملات. وهي أجهزة تنموية من حيث إنها تضع نفسها في خدمة المجتمع وتستهدف تحقيق التنمية فيه، وتقوم بتوظيف أموالها بأرشد السبل بما يحقق النفع للمجتمع أولاً وقبل كل شيء.
وهي مؤسسات اجتماعية من حيث إنها تقصد في عملها وممارستها إلى تدريب الأفراد على ترشيد الإنفاق، وتدريبهم على الادخار ومعاونتهم في تنمية أموالهم، بما يعود عليهم وعلى المجتمع بالنفع والمصلحة، هذا فضلاً عن الإسهام في تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع بالدعوة إلى أداء الزكاة وجمعها وإنفاقها في مصارفها الشرعية.
ولهذه السمات فإن البنوك الإسلامية لا تنظر إلى نفسها على أنها مجرد وسيط مالي، أو أنها بنوك وظيفتها اقتصادية بالمعنى الضيق، وإنما أدوات ووسائل لتحقيق وتعميق القيم الروحية المرتبطة بالإنسان، وهي مركز للإشعاع ومدرسة للتربية، وسبيل عملي إلى حياة كريمة لأفراد الأمة(7).
ويشكِّل الاتصال بالعقيدة الإسلامية في شقها الاقتصادي أو في تصوراتها الشاملة، بالإضافة إلى الاحتكام إلى أحكام الشرعية إطار عمل للمصار الإسلامية يَسمُها بجملة من السمات تمثِّل مقومات هذه المؤسسات وهي:

  • التوفيق والموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وأساس ذلك أن كلا المصلحتين العامة والخاصة يكمل كلاهما الآخر في الإسلام.
  • اصطباغ النشاط الاستثماري بالطابع الروحي، وأساس ذلك أنه بحسب الإسلام لا يتعامل الناس مع بعض فحسب، وإنما يتعاملون أساساً مع الله، وأن خشيته تعالى وابتغاء مرضاته والتزام تعاليمه هي التي تصوغ علاقات الأفراد بعضهم ببعض.
  • سموُّ أهداف النشاط الاقتصادي، فإن المصالح المادية وإن كانت مستهدفة ومقصودة؛ فإنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما كوسيلة لتحقيق الفلاح، والارتفاع إلى مستوى الخلافة بتعمير الدنيا وتسخير طاقاتها لخدمة الإنسان.
  • التوافق والتكامل والاتصال بين الجانب المادي والروحي في الاقتصاد الإسلامي، فالمادة في نظر الإسلام ليست نقيضًا للروح بل مكمِّل لها، والنمو في ذات الفرد وفي بيئته الاجتماعية، إنما يعتمد أصلاً على استغلالٍ أمثل لكل ما أودع الله النفس والجسم والعقل والروح والمحيط الطبيعي استغلالًا يكمل بعضه بعضا.
  • توجُّه الموارد بالمصالح الإنسانية، حيث يجب أن تتوجه هذه الموارد وتتركز في إنتاج السلع والخدمات التي تشبع الحاجات السوية للإنسان.
  • خضوع الإنتاج للمعيار الاجتماعي، حيث يمثل العائد الاجتماعي معيارًا رئيسًا في تحديد مجالات الإنتاج وأحجامه، ولا يقتصر الأمر على العائد المادي؛ لأن الربح والاستثمار ليسا مقصودين لذاتهما، بل هي وسائل لتحقيق الأمن الاجتماعي في جهة من الجهات.
  • ضرورة التوازن في الاستثمارات، بمعنى ألا يطغى توظيف الأموال في ناحية على توظيف الأموال في بقية النواحي، بل يجب توجيه الاستثمار إلى جميع المسالك التي تمليها ضرورات المجتمع.
  • معيارية الحلال، فالاستثمار والإنتاج محكومان بحلية النشاط الإنتاجي أو المستثمر فيه، بجانب اشتراط كون العمليات الوسيطة من تمويل أو تسويق أو توزيع داخلة جميعًا في دائرة الحلال، وأن تكون كذلك كل الخطوات الإجرائية من أجور إلى ساعات عمل… الخ داخل دائرة الحلال(8).

وبلا شك تجسِّد هذه المبادئ إطارًا لنشاط اقتصادي يتوخَّى تنمية اجتماعية حقيقية تشمل الجوانب النفسية للأفراد بترتبيتهم على المبادئ الإسلامية، إلى جانب ترسيخ قيمة الحلال في الإنتاج والاستثمار فضلًا عن قيام النشاط بأكمله على معايير مفاضلة، تشكِّل أولويات للنشاط الاقتصادي تشدُّه شدًّا إلى إشباع الحاجات الاجتماعية والإسهام بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر في تنمية القدرات وتحسين جودة الحياة التي تعمل فيها المؤسسة الإسلامية.
فإذا مضينا مع معايير تكوين الهياكل المؤسسية ونظرنا في العمليات الاستثمارية والمبادئ الاستثمارية التي تقوم عليها، إلى جانب اتصالها بقاعدة من أهم قواعد إعادة التوزيع ألا وهي الزكاة، وجدنا اتصال هذه المؤسسات بالتنمية الاجتماعية من شتى النواحي، كما أعرض له فيما يلي.

5. أثر الهياكل المؤسسية في تحقيق التنمية الاجتماعية:

إن اختيار العناصر العاملة في البنك على أساس الخبرة، والكفاءة، والجدارة، والثقافة، والأمانة، والصدق، والاستعانة بالموهوبين بلا واسطة ولا تمييز، من أكثر السبل تحقيقًا للأمان النفسي والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، حيث تجعل الفرصة منوطةً بالكفاءة والمهارة، وفي ظل ذلك يسود العدل في مجتمع العمل، ويستثمر كل صاحب خبرة خبرتَه بأقصى ما يستطيع، وينعكس ذلك أيضا على عمليات المؤسسة التي تعظم عائداتها وتكثر ثمراتها.
كما أنه يعزِّز من جانب الانتماء ويصنع وشائج بين ولاء العاملين وبين المؤسسة ما يضمن أقصى عطاء ممكن من هولاء إلى هذه المؤسسة، التي تزيد عائداتها ويتسع نجاحها وتعظم أرباحها فتترجم مرة أخرة في عملية تنموية شبيهة بالسابقة، وتتكرر مرات ومرات في هذه المؤسسة وتلك، ومثل هذه الحالة المستمرة من التنمية كفيلة بإيجاد مجتمع متقدِّم على المستوى الاقتصادي آمن على المستوى الاجتماعي والإنساني.
كما أن الأدوار الاجتماعية التي تقدمها البنوك الإسلامية للعاملين بها وأفراد المجتمع، ذات أثرٍ كبيرٍ في تحقيق الكفاية النفسية وتوفير المهارات اللازمة لمواكبة أسواق العمل وإيجاد عمالة تتسم بالكفاءة والصحة السلوكية، سواء كان ذلك بشكل مباشر من خلال التدريب المستمر لعناصر هذه المؤسسات وتطوير ملكاتهم وتعزيز مهاراتهم، أو كان بشكل غير مباشر من خلال توفير دور العلم لعامة المسلمين لإكسابهم المعرفة أو للتدريب العملي والمهني، وتشجيع البحث العلمي والإنفاق على البعثات العلمية المختلفة لتطوير المجتمع وتنمية البنية المعرفية في بلاد المسلمين، ولا يُنكر كذلك دور هذه المؤسسات في دعم البحث العلمي في مجال الاقتصاد الإسلامي توخِّيًا لنشر الثقافة المصرفية الإسلامية، وإحياء وبعث التراث في المعاملات المالية والتجارية بإصدار المجلات وعمل الندوات والمؤتمرات وتوزيع المطبوعات والمجلات إلى جانب الأنشطة الإعلامية ذات الصلة بنشر المعرفة والثقافة(9).

6. أثر الأنشطة الاستثمارية الإسلامية في تحقيق التنمية الاجتماعية

إن الناظر في أعمال المؤسسات المالية الإسلامية بعامة والمصرفية الإسلامية بخاصة يدرك بوضوح مدى ارتباط الأهداف الاجتماعية التي تمثلها التنمية الاجتماعية بجميع الأنشطة التي يقوم بها البنك وذلك للأسباب الآتية:

  1. إن البنك الإسلامي بحكم منطلقه العقيدي لا ينظر إلى حجم الوديعة بقدر ما يعمد إلى السلوك نفسه، أعني السلوك الاستثماري الإيجابي، من حيث سيادته وقوته وسعة رقعة الفاعلين فيه، ومن هنا يهتم البنك الإسلامي بعدد المشاركين؛ لأن زيادة عددهم هو زيادة في عدد القوى الموجبة (لا السالبة) في المجتمع، فزيادة عددهم تعني نجاح البنك في تحقيق تربية مقصودة غير مباشرة تستهدف تنمية العديد من السمات الإيجابية المطلوبة في أفراد المجتمع، كما تعني إكسابًا وتعميقًا للقيم التي ينشدها الإسلام في المجتمع الصالح، وتعني -كذلك – زيادة عدد القادرين على التخطيط والتفكير الموضوعي المبرئين من التواكل والقعود(10).
  2. إن الالتزام العقائدي يحظر على البنك الإسلامي عقد القرض بفائدة وبذلك يقاوم البنك الإسلامي موجة التناقضات والصراعات بين الأغنياء والفقراء، ويقاوم توليد الكراهية التي تؤدي إلى الشقاق بين طائفة المقرضين والمقترضين، كما أنه يقضي على فكرة السلبية في التربح والتي ترتبط بنظام الفائدة الذي يقوم على أساس منح أموال بلا عمل، وفي المقابل حينما تتجه الأموال إلى استثمارات حقيقية تحدث تنمية حقيقية على مستوى النشاط الاستثماري، وعلى مستوى نفوس الأفراد حيث تتعزَّز بداخلهم حوافز الاستثمار الحقيقي، وهذا نفسه يفتح السبيل أمام دخول أفراد يمتلكون مهارات العمل والاستثمار ولا تتوفر لديهم المقدرة المالية، فيساعد ذلك على توسيع دائرة الاستثمار بتزايد المشاركين فيه واختلاف تطلعاتهم، وينعكس ذلك على الناتج القومي وعلى عرض العمل، وعلى حجم المعروض من السلع والخدمات، فتتسع قاعدة الملكية في المجتمع وفي ذلك ما فيه من ضمان الاستقرار وتعظيم الثروة، فضلا عما يصحب ذلك من عمليات تدريب وتثقيف ووعي وتأهيل تساعد الأفراد على الدخول في مجالات العمل وموافقة اشتراطاته والتجاوب مع بيئة العمل بيسر وسهولة(11).
  3. إن قيام العملية الائتمانية على أساس الاستثمار القائم المرتبط بالعقيدة الإسلامية، يربط بين الأهداف الربحية والاعتبارات الاجتماعية، ويعني ذلك إدخال المكاسب الاجتماعية والمكاسب النفسية بين حسابات المؤسسات الاستثمارية عند دراسة جدوى المشروعات، وإعطاء الأولوية للمشروعات التي تستجيب للحاجات السوية للإنسان، ومنها التنمية المتوازنة في كل القطاعات(12).
  4. إن المصرف الإسلامي دوره في العملية التمويلية يساوي دور الشريك لا الوسيط، والفرق بين الدورين بيّن واضح، حيث إن الشريك يتحمل مسئولية كاملة في دراسة المشروعات وإدارتها والسهر عليها ورعايتها والعمل على إنجاحها؛ لأن نجاحه هو يتوقف على نجاح تلك المشروعات، كما أن التضامن الذي يقوم عليه عقد المشاركة يجعل البنك الإسلامي يهتم بالناحية الأخلاقية والكفاءة المهنية لدى شريكه أكثر مما يبحث في مقدرته المالية، فهو يستطيع أن يقدم ماله لمن يثق في كفاءته ولو كان فقيرًا، وبذلك يكون الاعتبار الأخلاقي عنصرًا أساسيًّا في العملية الاستثمارية، مما يجعل عقد المشاركة تجسيدا عمليًّا لعنصر العدالة والمسوؤلية في الاقتصاد(13).
  5. ترتبط العمليات الاستثمارية في المصارف الإسلامية بتفعيل دور الزكاة، سواء من خلال إخراجها من أرباح المشروعات التي تقوم بها المصارف الإسلامية، أو من خلال التنويه بقيمة الزكاة وأثرها في تنمية المجتمعات، كما لا يخفى دورها في تحديث آليات إيصال الزكاة إلى مستحقيها وتعظيم الاستفادة من حصائلها للقضاء على الفقر وتنمية المجتمعات، كما أن استهداف تحقيق الغنى يمثِّل تنمية حقيقية لا تقف عند حد سد جَوْعة، أو إزاحة ظرف عارضٍ، فحقًّا تعتبر الزكاة قنواتٍ فرعيةً تُشقُّ من مصبٍّ رئيسٍ ليدوم الارتواء بالغنى والكفاية ما بقي النهر الأصلي جاريًا، ولا خطر في ذلك مادامت الزكاة مرتبطة بالاستثمار في وجه من وجوهها.

إن الاهتمام القائم من هذه المؤسسات بقضية الزكاة، وربط ذلك بالاستثمارات ليؤكد على معنى جدير بالاهتمام، وهو أن الزكاة ليست مجرَّدَ حقوق تُفرض على الأموال، بصرف النظر عن تنميتها واستثمارها، بل يعزِّز الجوانب الأخرى من فرضية الزكاة، وهي ضرورة تنمية الأموال وأن الأصل في وعاء الزكوات هو الأموال المستثمرة، فيؤكِّد على الموقف الإيجابي لفرضية الزكاة؛ ليظهر أن التصور الإسلامي يتطلَّب أن يسعى المسلم للعمل والإنتاج والاسثتمار ليسد حاجاته أولًا، ويحقِّق فائضًا يُخرج منه الزكاة للمستحقين، فينال خيري الدنيا والآخرة(14).
وهكذا يظهر أن هذه الأعمال تسهم بمجملها في تنمية طاقات الأفراد وتطوير مهاراتهم وإمكاناتهم النفسية والمادية، وتساعد على تعميق القيم النفسية والروحية لدى الأفراد وتجعلها معيارا للعمل والنشاط بعامة، كما أنها من خلال تعزيز الاستثمار وتعزيز فكرة التشاركية سواء من ناحية الآثار أو من ناحية العمل تساعد على تعريض قاعدة من يملكون في المجتمع، وتساعد كذلك على تعزيز فكرة الإيجابية في العمل والاستثمار وصياغة شخصية تتفق مع المعايير الإسلامية وتترفع عن الاتكالية والعفوية، في إطار من العدالة وتكافؤ الفرص، وهذه هي أهداف التنمية الاجتماعية.
وتلك النظرة المتوازنة بين الفرد والمجتمع/ الربح والقيمة/ النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، تلك النظرة ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي، دون غيره من النظم والفلسفات خاصة النظام الرأسمالي المهيمن حاليا، والذي يكتفي بالوازع الشخصي لدى الأفراد لتحصيل مصالحهم بصرف النظر عن الغايات الإنسانية أو الأهداف الاجتماعية، ولئن حصل تحفيز نحو الدخول في النشاط الاقتصادي إنتاجًا أو استهلاكًا، فإنه يحصل بطريقة تُخاطِب الغرائز وتحفِّز الميول الشخصية، بصرف النظر عن الـمُثل والقِيمِ وأشواق الروح المنسيَّة وحاجات الأمة لهذا النشاط أو ذلك.

(1) ينظر: التنمية الاجتماعية، عبدالباسط محمد حسن، القاهرة، مكتبة وهبة 1977، ص 9، والتخلف الاجتماعي، مصطفى حجازي، لبنان: معهد الإنماء العربي، 1976 ودور البنوك الإسلامية في التنمية الاجتماعية، محمود الأنصاري، مجلة المسلم المعاصر، محرم – ربيع الأول، مج: 10، ع: 37، 1983م (ص: 112).
(2) ينظر: المنثور في القواعد الفقهية، بدر الدين الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة: الثانية، 1405هـ – 1985م (2/ 24).
(3) الفرض في الإسلام أو الواجب على نوعين؛ الأول: هو فرض العين وهو ما يجب على كل شخص بعينه مثل الصلوات المكتوبات، والحقوق المالية، والحج، وأداء الأمانة لمن هي معه وأشباه ذلك، وفرض الكفاية، وهو ما يجب على مجموع المسلمين دون آحادهم فإن قام به بعض المكلفين فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على الموتى، وبناء المستشفيات، وإنقاذ الغريق، والصناعات التي يحتاج إليها الناس، والقضاء والإفتاء، وإقامة المؤسسات التي تضمن نهضة الأمة واستقامة أحوالها.
والواجب الكفائي عيني من وجه ما وتضامني في كل حال، فهو عيني من وجه ما كما لو تعين له بعض الأفراد من يقدر منهم بنفسه أو بماله، كما لو مسَّت حاجة الأمة إلى مرفق معين ولا قدرة على إقامته إلا بتطوع بعض أفراده القادرين فيجب عليه ذلك، وهو تضامني إذ يجب على غير القادر أن ينبِّه القادر على ضرورة أدائه بمختلف الوسائل وعظًا وإرشادًا وبحثًا في جدوى هذا المشروع أو ذلك، وبيانًا للآثار السلبية التي تترتب على غيابه إلى غير ذلك، وهذا يجعل سياج الواجب شاملًا لجميع أفراد المجتمع المسلم، ويعني ذلك أن المجتمع المسلم مجتمع متحرك متطور يسعى دائما لتوظيف كافة موارده الفكرية والمادية للنهوض بالمجتمع والرقي به. ينظر: أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، دار القلم، ط8 (ص: 108).
(4)The World’s Religions: Our Great Wisdom Traditions, Huston Smith, Publisher: Harper San Francisco, 1991 ,(249).
(5) دور البنوك الإسلامية في التنمية الاجتماعية، محمود الأنصاري (ص: 115).
(6) المرجع السابق (ص: 116).
(7) عن البنوك الإسلامية: ماذا قالوا، أحمد النجار، القاهرة: الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، 1982، ص 9، 10.
(8) الوجيز في الاقتصاد الإسلامي، محمد شوقي الفنجري، منشورات دار ثقيف للنشر والتأليف، ص 32 وص 40، والاقتصاد الإسلامي: مفاهيم ومرتكزات، محمد أحمد صقر، القاهرة: دار النهضة العربية، 1978، ص 21. والنظم الإسلامية، محمد عبدالله العربي، القاهرة: معهد الدراسات الإسلامية، 1967، ص 178، ومنهج الصحوة الإسلامية، أحمد النجار، القاهرة: دار وهدان، 1977، ص 55، 56، ودور البنوك الإسلامية في التنمية الاجتماعية، محمود الأنصاري (ص: 115).
(9) البنوك الإسلامية، محسن الخضيري، دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1990م (ص: 20) و(ص: 37).
(10) الوظيفة الاجتماعية للادخار، محمود الأنصاري، الكتاب السنوي للتربية الاجتماعية، وزارة التربية والتعليم، 1965، ص 65 – 107.
(11) توفيق الشاوي، قصة البنوك الإسلامية، القاهرة: المختار الإسلامي، 1979، ص 14.
(12) المصارف وبيوت التمويل الإسلامية، غريب الجمال، جدة: دار الشروق للنشر والتوزيع، 1938 هـ ، ص 48.
(13) قصة البنوك الإسلامية، ص 15.
(14)الاقتصاد الإسلامي مفاهيم ومرتكزات، محمد أحمد صقر، القاهرة: دار النهضة العربية، 1978 (ص: 25).

Comments are disabled.