التنمية الاقتصادية .. إشكالية المفهوم 2

بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد

تعاقبت أقلام كثير من المنظِّرين والساسة على صياغة مفهوم للتنمية الاقتصادية، ومع الأسف الشديد لم يجهد هؤلاء أنفسهم في صياغة مفهوم للتنمية يلائم الواقع ويسترفد التاريخ ويطاوع الظروف الاقتصادية، بل جلُّ عملهم هو نقل المفهوم الغربي للتنمية، والذي ينطلق من زاوية الربح فيركز في حساب التنمية على حجم الناتج القومي بالنسبة لعام سابق أو أعوام سابقة، ثم يؤسس على ذلك حساب رفاهية الأفراد من خلال قسمة النواتج على معدل السكان فينتج ما يسمى متوسط الدخل، وهذا واضح جدًّا في النظم الرأسمالية التي تعظِّم الإنتاج والتراكم الرأسمالي.
ولا يختلف الحال كثيرًا في الاشتراكية وإن كانت تختلف من حيث المنطلقات، فإذا كانت منطلقات التنمية في الرأسمالية هي تعظيم الناتج الرأسمالي فإن منطلقات الاشتراكية هي القضاء على الرأسمالية، ثم التحول نحو الاشتراكية بما تعنيه من قضاء على الطبقات بما ينتهي معه الأمر بنمو الدخل الفردي في المتوسط، فزيادة الدخل الفردي هي القاسم المشترك بين الجميع.
إن دخل الفرد بالنسبة لهذه العملية الحسابية هو متوسط ما بين مجموع دخول الأفراد، وعليه فلا يلزم أن يكون ما يظهر في العملية الحسابية هو ما يصل لكل فرد من أفراد المجتمع، بل قد يكون الفرد فقيرًا جدًّا في ظل أغني الدول الاقتصادية وأعلاها من حيث هذا المعيار، أعني متوسط الدخل، ومن هنا يظهر أن هذه النموذج – من حيث هو نموذجٌ لقياس رفاهية الأفراد ومعدلات التنمية – نموذجٌ خادعٌ وكاذبٌ في الوقت نفسه.
وإن التجارب التي ثبت فشلها مع تطبيق هذه الأفكار في هذا النظام أو ذاك كانت كفيلة بالعزوف عن هذا النظام أو ذاك، لكنها لم تكن كافية مع كثير من مفكرينا للعزوف عن فكرة التقليد.
يقول الدكتور يوسف إبراهيم يوسف رحمة الله عليه في هذا الشأن: “فرأينا بلادًا لا تترك منهجًا يثبت لديها فشله إلا لتجرِّب المنهج الآخر، فإذا فشل بدوره عمدت إلى الجمع بين قسمات المنهجين معا فتدور في حلقة مفرغة لا طرف لها”(1).

الظروف التي نشأ فيها مفهوم التنمية الغربي:

ومن جهة أخرى فإن الظروف التي تبلوَرَ هذا المفهوم في بوتقتها تدل على أنه مفهوم نفعيٌّ تم إنشاؤه لسيطرة دول الغرب على ما أسمته بالدول النامية لأغراض ومصالح قومية، ويشرح الدكتور جلال أمين في فصل من كتابه “كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية” الظروف والأهداف غير النزيهة التي نبت في تربتها هذا المفهوم، والتي تسبَّبت في حصول انقلابٍ كليٍّ في النظرة إلى إمكانية قيام تنمية أو تقدُّم في دول العالم الثالث التي كانت مستعمراتٍ بالأمس للدول المتقدمة، فلقد أصبح من الممكن بل من الضروري قيامُ تنميةٍ في هذه الدول، بعدما كان ذلك مستحيلًا فيما سبق!
ويعزو الدكتور هذا الانقلاب الحادّ في هذه الرؤية إلى ظهور الأهمية النسبية للحصول على أسواق جديدة لتصريف فوائض سلع الإنتاج لدى البلاد المتقدمة، خاصةً بعد تنوُّع المنتجات وزيادتها عن ذي قبل، فلم تعد تلك المنتجات قاصرةً على المنسوجات، بل ظهرت الآن أنواع عديدة من السلع الاستهلاكية والرأسمالية التي يُرغب أيضا في تصريفها خارج الحدود؛ من السيارة الخاصة، والمشروبات الغازية، وأدوات التجميل، إلى الأسلحة، ومختلف أنواع المعدات والآلات، فأصبح تحقيق زيادة في متوسط الدخل في هذه البلاد شرطًا متزايد الأهمية لاستمرار تحقيق معدل مرتفع للنمو في داخل الدول المتقدمة نفسها، ولتحقيق هذا الهدف طُرحت خطة تقوم على ثلاث دعائم:
الدعامة الأولى: تشجيع الفكرة القائلة بإمكانية تحقيق التنمية الاقتصادية في هذه البلاد والتدليل عليها وعرض مزاياها المختلفة.
الدعامة الثانية: إعطاء هذه البلاد جرعة من التغريب؛ فإن الزبون الجيد لا يكفي أن تتوافر فيه القدرة الشرائية، بل لابد أيضا أن يتوافر فيه الذَّوق الملائم والعادات النفسية الملائمة؛ وبناءً على ذلك كانت التنمية النموذجية هي التي تحقِّق زيادة متوسط الدخل في أمة تقترب في عاداتها وسلوكياتها من عادات وسلوكيات المواطنين في الغرب.
الدعامة الثالثة: إهمال وتجاهُل عنصر التوزيع العادل، انطلاقًا من حرص هذه النظم على توسيع الفجوة بين دخول الأفراد، فإن خفضَ حجم الفجوة القائمة بين مستويات الدخول العليا والدنيا – قد لا يُبقي شخصًا واحدًا قادرًا على شراء سيارة خاصة، وإن كان الطلب سوف يزيد على وسائل المواصلات العامة!
هكذا يؤدّي تحليل الظروف والأهداف التي نشأ في حضنها هذا المفهوم إلى كشف عُواره وما يحمله من تناقضٍ وزيفٍ، ويدلُّ على غياب الموضوعية في صياغته، فضلًا عما يكشفه من ارتباط وثيق بعدة مشكلات يمكن عرضها فيما يلي:

  • أفضلية الربح وتعظيم الناتج ورفع معدلات الدخل العامة.
  • إهمال جانب التوزيع اعتمادًا على فكرة التساقُط التي لم تتحقق يوما ما.
  • الانبعاث من المصلحة المادية والمنفعة الذاتية وطموح السيطرة الثقافية والهيمنة الاقتصادية.

المذهبية الإسلامية ترفض المفهوم الغربي للتنمية:

وإن التفضيلات المذهبية للاقتصاد الإسلامي بصفة عامة ترفض مثل هذا الاتجاه الذي يعظِّم من شأن الربح، ويقيس تقدُّم المجتمع بهذه الأرقام التي لا تعكِس رفاهية كل فرد على حدة، هذا بالإضافة إلى أن للإسلام – في نصوصه المؤسسة لمذهبيته ومناهجه وفي تطبيقاته في العصور المختلفة – مفهومًا أصيلًا للتنمية يختلف كثيرًا في أبعاده عما هو شائع في أدبيات الفكر الغربي.
أما على الجانب الأول الذي يتعلق بالمذهبية: فإن مذهبية الإسلام التي تتشكَّل منها نظرته للكون والحياة وأهدافه ومعاييره في الخلق أفرادًا وجماعاتٍ لهي مذهبيةٌ شاملةٌ للكون والحياة والإنسان، تنتظم هذه الجوانب وما يتعلق بها على نحو يؤلِّف بينها ويحقق التناسُق والتكامُل، وإن حصول الخلل في جانب من جوانبها يؤثِّر على سائر المنظومة.
إن الواقع أثبت أن هذه المرجعيات الوضعية لم تحافظ يومًا على قيمة الإنسان ولم تضمن له حياةً توازن بين أشواقه ورغباته، بل كانت ميلًا جائرًا إلى مداعبة الرغبات وتحفيز التطلُّعات، والدوران حول الإنسان وجعله محور الكونَ وسبب الإنتاج وهدفه، فتمحورت التصورات حول الإنسان وملاذه، وأصبحت هي ما يوجه الناموس ويصنع التصورات.. ولا يبالغ الباحث حينما يقول: إن هذه الفلسفات أحلَّت الإنسان محل الإله، ثم عادت إليه فخلعت عنه روحه وتركته فراغًا ملأته قسوة وسعيًا وراء المادة في كل تجلياتها، فكانت في سعيها لإرضاء الإنسان أول سبب لإشقاء الإنسان بإفقاده رُوحَه وهُوِيَّته وما به سعادتُه.
هذا التوازُن التي افتقدته النظم الوضعية قد شكَّل إحدى أهم الخصائص المميزة للاقتصاد الإسلامي، ففي هذا الاقتصاد لا تنفصل المادة عن الروح، ولا يُسمح لأحد الجانبين أن يطغى على الآخر طغيانًا يخلُّ بتوازن الحياة، ويهدم تناسُق المذهبية، ومن ثم يحدِّد للأنشطة الإنسانية بعامةٍ دوائر تعمل فيها، ويخط لها حُدودًا تمنعها عن الانحراف والمروق، فما من نشاط من أنشطة الحياة الإنسانية إلا وهو محدود بهذه الأُطُر، مؤطَّر بهذه الحدود.
وتنطلق مذهبية الإسلام من عدة أُطُر وأنساق، تشكِّل المفاهيم، والاتجاهات، والتفضيلات، والأولوليات، والتصوُّرات العامة لأنشطة ومجالات الحياة، وهي أنساق عقدية، وفلسفية، وخُلقية، وإدارية، وينسجم مفهوم التنمية مع هذه الأنساق، ليشكِّل مفهوما فريدًا يلائم الصيغة الإسلامية في تصوُّر الكون والحياة ووظيفة البشر فيها.
إن ارتباط مفهوم التنمية بالعقيدة يُشكِّل ضمانة التنفيذ، والإيمان بأهمية ما يقوم به المسلم من نشاطٍ أو غيره، كما يوفر تمام الاقتناع وكامل الرضا بالعوائد، ويضفي على هذا المفهوم الطابع الروحي والمظهر الديني العقدي.
ويعرض الإطار الفلسفي لجملة من مفاهيم الإسلام حول الكون والحياة بصفة عامة، وحول القضايا ذات الطابع الاقتصادي بصفة خاصة: كمفهوم الإسلام للملكية، ودورها الاجتماعي وقيودها التي وضعت لصالح الأمة، ومفهوم الربح وحدوده، وأولويات موضوع التجارة، ومفهوم العمل وانعكاساته الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، وغيرها من المفاهيم التي صَبَغَها الإسلام بصبغةٍ خاصة وهي مفاهيم تؤثِّر على مجرى التنمية الاقتصادية.
ثم يأتي الإطار الأخلاقي ليؤطِّر هذا المفهومَ بإطار الفضيلة وينفي عنه الوقوع في الرذيلة؛ فمفهوم التنمية في الإسلام مرتبطٌ بقيمة الإحسان، والإتقان، والإحكام، والنصيحة، والأمانة، ويرفض تمامًا أضدادها من رذائل السلوك الاقتصادي: كالغش، والخداع، والتدليس، والاستغلال، والاحتكار.
أما الإطار التشريعي فيضمن صيرورةَ عملية التنمية في مسارات الحلال بعيدا عن الحرام، ويشمل فيما يشمل الإطار الجنائيَ الذي يحيط هذه العملية بسياجٍ منيعٍ يحول دون الانتقاص من مواردها أو عوائدها.
ثم يأتي الإطارُ الإداريُّ ليوجِّه المدخلات وجهتها المناسبة ويوزع المخرجات بطرقه العادلة، وهو إطارٌ مرنٌ يتغيَّر حسب المقتضيات والظروف المختلفة بين الحين والآخر.
نعم؛ كلُّ الأنظمة تتأثَّر بشكلٍ ما بالقيم التي تعمل في بيئتها، ولكن القيم في الفكر الاقتصادي الرأسمالي والاشتراكي قيمٌ خارجية ليست من صميم النظام، بينما في الاقتصاد الإسلامي هي جزء من بنية النظام -على حد تعبير الدكتور عبد الحميد الغزالي – فهي المحرِّك الأساسي لفعالياته، وهي الموجِّه لأنماط الإنتاج والاستهلاك وسائر دروب النشاط الاقتصادي.
والتنمية وفقًا للتصوُّر السابق والاقتصاد في الإسلام بصفة عامة جزءٌ من كلٍّ يترابط ويتفاعل ويتكامل في تناسق وتوازن مع بقية الأجزاء المكوِّنة للإسلام، كدينٍ ونظام حياة كاملٍ يَحكم بضوابط الإسلام ويسير وفقا لأحكامه(2).
وإن التنمية وفقًا لهذه المسارات ليست عملية اقتصاديَّةً بحتةً، بل هي: عملية اقتصادية، اجتماعية، إنسانية، دينية تهدف إلى تنمية الإنسان وتقدُّمه في المجالين المادي والروحي، ومن أجل ذلك لم تقتصر على عنصر كفاية الإنتاج، بل شملت إلى جانب ذلك عدالة التوزيع.
إن الإنتاج الذي ينعكس في الربح عنصر مهمٌّ من عناصر التنمية في الإسلام، لكنه عنصر ليس مرادا بذاته، بل من حيث هو وسيلة لتحقيق هدف أسمى هو إشباع الحاجات وتحقيق الكفاية للأفراد تمهيدًا لتحقيق الخلافة وعمارة الأرض، ولهذا أحيانا ما يتجاهل الاقتصاد الإسلامي أنشطة ومجالات قد تُدِر عوائدَ اقتصاديةً مرتفعةً ويشجِّع غيرها؛ لأن في هذه الأنشطة ما يحمي ضروريًّا من الضروريات أو يحقِّق مقصدًا من مقاصده.
وإذا جئنا لاستكشاف مدى حضور مفهوم التنمية الإسلامية في النصوص المؤسسة تبيَّن لنا حضور هذا المفهوم ووضوحه كل الوضوح.

مفهوم التنمية في مصادر الاقتصاد الإسلامي:

إن القرآن الكريم ليعبر عن التنمية بلفظ العمارة فيقول تعالى على لسان النبي صالح مخاطبًا قومه ثمود{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ} [هود: 61].
فالهدي القرآني في الآية السابقة يعتبر التنمية واجبا من واجبات الإنسان، وهدفا وراء إنزاله إلى هذه الأرض وتسليطه على مقدراتها وتسخير إمكانياتها ليديه، وقد جاء الأمر بالعمارة بين العبادة والتوبة للدلالة على قيمتها الدينية، ثمَّ تمَّ الربط بين جميع هذه الجوانب؛ ليُفهَم من مجموع النظم الكريم أن عمارة الأرض تكليفٌ من الله سبحانه وتعالى يرتبط بالعبادة وتلزم التوبة من التقصير فيه.
ثم يقول سبحانه وتعالى:{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ} [الأنعام: 11] في أكثر من موضع من آيات القرآن الكريم؛ ليلفت إلى وجوه الكسب التي قد لا تحصل إلا بالسفر والانتقال، تحصيلًا للمعايش أو سعيًا للتجارة، وغير ذلك من مقوِّمات التنمية، بل إنه سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يخفِّف عن عباده فلم يفرض عليهم قيام الليل أو دوام التعبد بالقرآن ليلًا ونهارًا رعاية لاشتغال البشر بمعايشهم الأساسية: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ} [المزمل: 20]
فوضع الله سبحانه وتعالى هذه التكاليف عن عباده الذين يبحثون عن معايشهم من السعي والتجارة وجعل ذلك من فضله عليهم.
ويرتبط مفهوم التنمية بالخلافة التي كانت أظهرَ نعم الله تعالى على بني آدم حتى غَبَطَتْهم الملائكة عليها حين قال المولى تبارك وتعالى: {إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ} [البقرة: 30] فقال الملائكة {أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 30] الخ القصة التي يبيِّن الله سبحانه وتعالى فيها أنه امتنّ على آدم بالعلم الـمُوصل إلى القيام بالخلافة أعظم قيام.
وتقيم السنة النبوية للعمل الذي هو قِوام التنمية أعظم تقدير فتقرِّر في كثير من مواردها قيمة العمل، وأثره، وفضله، وعلاقته بالعبادة، فتَقرِن بينه وبين الثواب والمغفرة والعبادة، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ”(3)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: “خَيْرُ الْكَسْبِ، كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ”(4).
والقرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالتوجيهات والإرشادات والقواعد المنظِّمة لعملية التنمية من كل جوانبها، ابتداءً من المفهوم وانتهاءً إلى القيود والضوابط الناظمة.
أما تطبيقات أئمة المسلمين وأطروحات علماء المسلمين فهي غنيَّة عن التعريف، مستعصية على الحصر، وهي في مُجمَلها تدلُّ على أصالة هذا المفهوم وعلى وضوح جوانبه المختلفة ونظريته العامة في الاقتصاد الإسلامي، وإن هذه الجهود لو وفِّقت الدراسات لحصرها ودراستها لأمكن أن تُكوِّن نظرية تامّة الأركان كاملة الجوانب في التنمية في الاقتصاد الإسلامي.
على قمَّة الجهود والأطروحات الإسلامية في هذا الشأن تأتي تجربة الإمام علي رضي الله عنه (ت40هـ) وهو في منحاه واتجاهه يعبر عن الاتجاه الراشدي، في النظر لقضايا الأمة وفهم حقائق الإسلام وفي القلب منه جانب الاقتصاد.
وقد نقل التاريخ للإمام علي بن أبي طالب رسالة جامعة في الإدارة والحكم والتنمية، أرسل بها إلى عامله على مصر الأشتر النخعي (ت37هـ) ، وتأتي أهمية هذه الرسالة -فضلا عن إطارها النظري- في أنها رسالة وجِّهت لإدارة مصر وهي البلد العريق في الحضارة الغني بوفرة الموارد والأراضي الخضراء المتَّسعة، التي يتهادى على ظهرها نهر النيل، فيقوم على إرفادها بالماء الغزير، فيتكرر عطاؤها ونتاجها بتكرُّر المواسم وتعاقُب السنين، وهذا البعد يمنح هذه الرسالة شهادةً على أنها تحمل رؤية ذات سمات حضارية تدفع عنها شبهة البداوة والبساطة.
ومما جاء في هذه الرسالة: “وليكن نظرُك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يُدرَك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً(5)“.
وهذا الفقرة على وجازتها تعبِّر بصدق ووضوح عن منهج الاقتصاد الإسلامي في التنمية، وعن وتفضيلاته ونظره للعواقب والمآلات؛ مما يحقق مقاصد الشريعة في التنمية، ففي هذه الفقرة “يقرر الإمام أن تخفيف الأعباء على القطاع الزراعي إنما هو استثمار في هذا القطاع، يُعقِب الادخارَ الذي يقومون به عندما تزداد دخولهم بسبب تخفيف الأعباء عليهم، ويقومون باستخدامه في تحسين أراضيهم وتمويل الموارد التي يملكها المجتمع أجمع(6).
ونأتي إلى مفخرة فلاسفة الاقتصاد الإسلامي أبي يوسف رحمه الله (ت182هـ) حينما يتعرض بالتوجيه لخليفة المسلمين منوِّهًا بشأن العدل والإنصاف، ليجعل عدالة التوزيع أهم دعامات وركائز التنمية الحقيقية، فيقول للخليفة هارون الرشيد “إن العدل والإنصاف للمظلوم، مع ما في ذلك من الأجر الأخروي، مما يزيد به الخراج وتَكثُر به عمارة البلاد، والبركة مع العدل تكون، وهي تفقد مع الجَوْر، والخراج المأخوذ من الجَوْر تنقُص به البلاد وتخرب(7).
ويصعب حصر فلاسفة الإسلام الذي تعرَّضوا لقضية التنمية، أو إلى جانب من جوانبها، وهم كثيرون منهم: الماوردي، وابن خلدون، وأحمد بن علي الدلجي من العلماء المتقدِّمين، والدكتور يوسف إبراهيم من المتأخرين.
وجميع موارد الشرع الشرع الشريف، وجميع ما دارت حوله بحوث المفكرين الاقتصاديين المسلمين – يمثِّل جهودًا رائدة في الربط بين مفهوم التنمية وإشكالية الكفاية. أي: توفير حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع، وفي ضوء هذه الإشكالية قرَّر الاقتصاد الإسلامي -فيما قرر- مفهومًا مختلفًا للمشكلة الاقتصادية.
المشكلة الاقتصادية بين الإسلام والنظم الاقتصادية المختلفة:
إن المشكلة الاقتصادية في الرأسمالية تتركَّز في الندرة النسبية للموارد الطبيعية وقصورها عن الوفاء بحاجات الناس في ظل الزيادة السكانية، وهي في الاشتراكية التناقض بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع، أما في الإسلام فهي تنشأ من أمرين:

  • القصور أو الإهمال في استخدام الموارد الممنوحة.
  • الظلم في التوزيع.

فإن الله سبحانه وتعالى خلق للبشر ما يكفل بقاءهم ويحفظ وجودهم: هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا} [البقرة: 29] {ومُحال أن يمتنّ عليهم جميعًا بما ليس فيه كفايتهم جميعًا أو كفاية بعضهم، وإنما ينشؤ الخلل من سوء استغلال الموارد ومن ظلم العباد حقوقهم.
ومن أجل ذلك عَمِل الإسلام على الحيلولة دون أن يوجد أحد هذين السببين، فيعظِّم الإسلام من شأن العمل ويجعله من الإيمان، ويدعو إليه بشتى الأساليب، وينهي عن الإخلال بالموارد بالإسراف، والتبذير، والإهدار، كما ينهى عن الظُّلم، والبَخس، والتطفيف، وغير ذلك مما يُخل بعدالة التوزيع، ثم ينتقل إلى قضية التوزيع فيربط بينها وبين الإنتاج ربطًا مُحكَمًا على خلاف المفاهيم الغربية، فهو لا يُعالج أيًّا منهما بمعزل عن الآخر.
يقول الدكتور يوسف إبراهيم يوسف: “إن المفهوم الإسلامي للتنمية يعني إعطاء الفرد نصيبه من الدخل القومي عن طريق توفير العمل حيث لا يُقدِّم الزكاة إعانةً استهلاكيةً، وإنما يقدِّم وسائل إنتاجية تجعل من آخذ الزكاة وحدةً إنتاجيّةً قبل أن تجعل منه وحدةً استهلاكيّةً، فتَدمِج الإنتاجَ في التوزيع بصورةٍ لا تسمح بظهور سوء التوزيع …(8).
ووفقًا لهذا التصوُّر فإن المجتمع الذي يستخدم الموارد المتاحة له أفضل استخدام، ويوزِّع إنتاجه توزيعًا عادلًا هو مجتمعٌ قد حقَّق التنمية الاقتصادية، حتى لو كان دخل الفرد دون مستوى الفقر طبقًا للمقاييس السائدة في العالم الغربي أو الفكر الحديث، الذي يُعظِّم من شأن الإنتاج والناتج دون كبير اعتبار لجانب التوزيع.
فقضية العدالة قضيّةٌ محوريّةٌ في مفهوم التنمية في الاقتصاد الإسلامي، فإذا غابت هذه الركيزة فإنه لا يوجد تنميّةٌ حقيقيّةٌ، مهما كانت العوائد، ومهما كانت طبيعة الموارد المادية من حيث الوفرة والتنوع والجودة، و”لا يمكن لأي شيء ذي قيمة أن يتحقَّق، ولا يمكن لأية قوةٍ دافعةٍ أو استيراتيجية أي منهج أن تعمل بكفاءة مناسبةٍ، سواء كانت هذه القوة هي “اليد الخفية” للحافز المادي أو اليد المرئية “الباطشة للدولة”، وسواء كانت الاستيراتيجية هي القوة القوية من الاستثمار أو الجهد الأدنى الحسّاس المطلوبُ من التكوين الرأسمالي أو غيرها”(9).
وفي ضوء هذه الركائز الكُبرى فإن مفهوم التنميَّة في الاقتصاد الإسلامي يرتبط بـ أو يطابق “قيام المجتمع باستخدام الموارد التي وضعها الله تحت تصرُّفه أفضل استخدامٍ ممكنٍ، في ظل المعرفة الفنية السائدة وتوزيع الناتج بما يحقق حد الكفاية المتناسب مع حجم هذا الناتج لجميع الأفراد”(10).
وبناءً على ما سبق يتقرَّر بوضوح أن مفهوم التنمية مفهومٌ أصيلٌ في الفكر الاقتصادي الإسلامي في نصوصه وجهود علمائه، وليس مفهومًا مستعارًا من هذا الفكر أو ذاك، مما يعزِّز عدم الحاجة إلى استيراده من أي تجربة أخرى أو مجتمع مغاير، وأنه مفهومٌ يرتبط بتحقيق الكفاية، ولا يقف عند تحقيق الربح أو إحداث طفرة في متوسِّط الدخل الفردي وفقًا لعملية حسابية، تضع الفرد في مصافِّ الأغنياء وربما كان من أشد الناس فقرًا.
وهو مفهومٌ لا يُهمل الربح مطلقًا، ولكنه يجعل الربح وسيلةً لا غايةً، وسببًا لا مقصدًا.
ويستهدف هذا المفهوم الحضاريُّ القضاء على الفقر من خلال عمليّة مزدوجةٍ، تتمثَّل في الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، والتوزيع العادل للوصول إلى حدٍّ أدنى للمعيشة هو حد الكفاية، وهذا هو معياره للحكم على التنمية ليس بمقدار الثروة ولا بمقدار الغنى، ولكن بمقدار ما يتوفر لكل فردٍ من نمط الحياة الكريمة.

(1) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، يوسف إبراهيم يوسف، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، ط3، 2107م (ص: 87).
(2) انظر: حول المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، عبد الحميد الغزالي، دار الوفاء، المنصورة، ط1، 1989م (ص: 9).
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد – أبو الفضل عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر: دار الحرمين – القاهرة، عام النشر: ١٤١٥ هـ – ١٩٩٥ م (2/ 332) حديث رقم «2140» وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، عام النشر: ١٤١٤ هـ، ١٩٩٤ م (4/ 61): “رجاله ثقات”.
(4) أخرجه أحمد، [تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، ١٤٢١ هـ – ٢٠٠١ م] مسند أبي هريرة (14/ 136) حديث رقم «8412» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (4/ 98): «رواه أحمد، ورجاله ثقات».
(5) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المدائني، دار النشر : دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان – 1418هـ – 1998م ، الطبعة : الأولى ، تحقيق : محمد عبد الكريم النمري (17 / 41).
(6) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية (ص: 166).
(7) الخراج لأبي يوسف، المكتبة الأزهرية للتراث، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد ، سعد حسن محمد (ص125).
(8) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية (ص: 209).
(9) حول المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية (ص: 61).
(10) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية (ص: 209).

Comments are disabled.