تأصيل المفهوم الحضاري للتنمية هو العلاج للأزمة الفكرية التنموية في العالم الإسلامي

بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم

دخل مصطلح التنمية الاقتصادية إلى الفكر الاقتصادي في البلاد النامية ومنها البلاد الإسلامية وافدًا من الفكر الاقتصادي الغربي، وذلك في عقد الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بعدما انحسرت ظاهرة الاستعمار الأوروبي للعالم الثالث. وفي ذلك الوقت وبعدما حصلت تلك البلاد على استقلالها، برز التفاوت الكبير في الأوضاع الاقتصادية فيما بين البلاد الغربية المتقدمة صناعيًّا واقتصاديًّا، وبين بلاد العالم الثالث -ومنها البلاد الإسلامية- التي عانت من تخلف اقتصادي وصناعي. في تلك الفترة برز مفهوم التنمية الاقتصادية التي ينبغي على بلاد العالم النامي أن تحققها حتى تلحق بركب البلاد الغربية المتقدمة.
لقد اعتقد قادة ومفكرو بلاد العالم الثالث أن عليهم أن يخوضوا عملية تحقيق التنمية الاقتصادية بنفس المسار الذي سلكته البلاد المتقدمة في نهضتها، بفعل هيمنة فكرة التقليد والتبعية، وساد الاعتقاد بأن على البلاد النامية إذا أرادت أن تنجز هدف التنمية أن تستوحي الدروس من التجربة التنموية الغربية. وأن هذا هو المسار الصحيح لبلوغ ذلك ولا يوجد طريق آخر سواه.
ولكي يكون لدينا فهم صحيح للمسألة التنموية للبلاد النامية علينا أن نحدد ما هو معنى التنمية الذي استوردته البلاد النامية من الغرب. فنجد أن الفكر الاقتصادي الغربي قد صاغ معنى محددًا للتنمية الاقتصادية، وهو أن التنمية الاقتصادية هي الزيادة التي تتحقق في الناتج القومي من سلع وخدمات بما يترتب عليها ارتفاع مستوى إشباع أفراد المجتمع من تلك السلع والخدمات، أو تحقيق زيادة مستمرة في الدخل القومي تفوق الزيادة في النمو السكاني؛ حتى تتحقق زيادة في متوسط الدخل الفردي، أو ارتفاع مستوى الرفاهية المادية لأفراد المجتمع. وأنه ينبغي اتباع السياسات التنموية من رفع معدل الاستثمار في رأس المال لتحقيق الزيادة المستهدفة في الناتج القومي.
ويلاحظ من هذا التعريف الذي راج قبوله واعتماده من جانب المفكرين الاقتصاديين في البلاد النامية أنه مفهوم يرسخ المفهوم المادي لعملية التنمية ممثلة في إنتاج المزيد من السلع الاقتصادية. وأنه كذلك مفهوم جزئي؛ لأنه يقتصر فقط على الجانب الاقتصادي في التنمية، دون النظر إلى الجوانب الأخرى الاجتماعية والثقافية. ولقد ثبت فيما بعد ما يعاني منه هذا التعريف للتنمية الاقتصادية من جوانب قصور واضحة، ونتائج التجارب التنموية للعديد من البلاد النامية تؤكد تلك الحقيقة.
وإذا تتبعنا تطور تعريف مفهوم التنمية الاقتصادية فيما بعد ذلك في عقد السبعينات من القرن العشرين وما تلاه، سنجد تطورًا في مفهوم التنمية نحو ما يسمى الإصلاحات الاقتصادية التي تعمل برامجها على علاج الاختلالات في الموازين الاقتصادية للبلاد النامية ممثلة في عجز الموازنة العامة وما ترتب على ذلك من تفاقم المديونية العامة وعجز الميزان التجاري، وذلك في ظل رعاية لتنفيذ تلك البرامج الإصلاحية من قبل المؤسسات الاقتصادية الدولية، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما يعرف ببرامج التثبيت الهيكلي واعتماد سياسة التحرر الاقتصادي، والتي ترتب عليها آثار فادحة في زيادة معدل نسبة الفقراء ومعاناة شرائح واسعة من السكان محدودي الدخل من تنفيذ تلك البرامج.
وقد تطور مفهوم تلك البرامج الإصلاحية إلى مفهوم الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، والذي يسعى إلى تغيير الهيكل الاقتصادي القومي لتلك البلاد، والدعوة لتوفير القدرة التنافسية لقطاعاتها الاقتصادية وربطها بالأسواق الخارجية، والتي نجم عنها مزيد من تعميق تبعية الاقتصاد الوطني للعوامل الخارجية. وكان الهدف المعلن لبرامج الإصلاح الهيكلي المدعومة من المنظمات الدولية توفير قدرة في الاقتصاد الوطني؛ لتحقيق زيادة سريعة ومستمرة في الناتج القومي وفي متوسط الدخل الفردي.
وقد تطور مفهوم الإصلاح الهيكلي على يد بعض المفكرين الاقتصاديين إلى مفهوم التنمية الاقتصادية الشاملة، أي إجراء عملية تغيير اقتصادي شامل لحيازة آلية اقتصادية تنجز زيادة حقيقية في الناتج القومي، ومن ثم تحسين في مستوي معيشة الأفراد من خلال سياسات إعادة توزيع تعمل على ذلك الهدف.
لكننا نلاحظ أن طرح هذا المفهوم للتنمية الاقتصادية الشاملة مع كونه أفضل مما سبقه من أطروحات في مفهوم التنمية، إلا أنه لايزال يعاني من نقص جوهري وأساسي، وهو أن هذه النظرة تظل أدواتها وأهدافها اقتصادية بحتة في المقام الأول. ولقد أثبتت التجارب التنموية للعديد من البلاد النامية أنها بعد أن تحقق في البداية معدلات عالية من النمو الاقتصادي الذي يستمر لفترات زمنية، إلا أن عملية التنمية ما تلبث أن تتعثر ولا تحقق الانتقال المأمول إلى مرتبة الدول الاقتصادية المتقدمة.
وهنا يبرز السؤال الهام وهو: لماذا لا تستمر مسيرة الإنجاز الاقتصادي وتترسخ في فترات زمنية طويلة بدون التعرض لانتكاسات تحول دون الانتقال المطلوب إلى مصاف البلاد المتقدمة؟
والإجابة تكمن في قصور مفهوم التنمية التي تتبناه هذه الدول. وهذا القصور يتمثل بشكل جوهري محدد في غياب المفهوم الحضاري للتنمية، وفيه تكون عملية التنمية هي عملية حضارية تنطلق من الرصيد القيمي والعقائدي والروحي والثقافي للمجتمع الذي يعبر عن قيم وإيمان الغالبية الكبرى من المجتمع فتشارك في عملية النهوض الحضاري الشامل، وينشأ في ظل ذلك المنظور كيان جديد بتركيبته وعلاقاته الاجتماعية والثقافية والعلمية تجعل أفراد المجتمع يتمتعون بديناميكية حضارية تتواصل فيها بلا انقطاع عمليات الإنتاج والتجديد والابتكار والإبداع الذاتي بدافع منظومة القيم الإيجابية التي تغطي سائر جوانب حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية. وبذلك تتضافر جهود كل شرائح المجتمع لتحقيق أهداف محددة ويحصلون في مقابل جهودهم على مكافأة عادلة وبالتالي يضمن الحياة الكريمة، وبذلك تحصل عملية التجديد الحضاري الدائم والمضطرد بتوظيف جميع الطاقات المجتمعية نتيجة إعمال منهج المجتمع المتميز أخلاقيًّا وعقائديًّا في الواقع المعاصر. ويتخلص من التبعية والتقليد وينتج في الاقتصاد وفي العلم وفي الثقافة إنتاجًا متميزًا مبتكرًا. إنه باختصار مفهوم حضاري شامل للتنمية يحقق عملية تغيير شاملة في إطار النموذج الحضاري القيمي للمجتمع.
ونلخص ذلك في الآتي:

  1. التجارب التنموية الناجحة والمستمرة بدون تعثر أو تجمد أو ارتداد هي التي تتأسس على المرتكز الحضاري للأمة وتحيي موروثها الحضاري في عالمها المعاصر، وتستوعب التجديد في وسائله لضمان المحافظة على الشخصية الحضارية المتميزة بلا ذوبان في مفاهيم وقوالب مستوردة، فتضمن تماسك المجتمع وتكاتف جهوده وتركيزه على أهداف واحدة. وهذا ما فعلته اليابان في نموذجها التنموي، فقد حافظت على قيمها وتميز أخلاقها وثقافتها وعقيدتها. وبذلك ضمنت استمرارية تفوقها الاقتصادي والعلمي.
    كما أن الإخفاق في التجارب التنموية في العديد من بلاد العالم الثالث، إنما يرجع إلى افتقادها للمرتكز الحضاري الخاص لها.
  2. إن مردود حسن توظيف القيم المعنوية الروحية والعقائدية والأخلاقية لا يقل في تأثيره على النجاح في المسيرة التنموية عن الموارد الاقتصادية المادية. بل إنه هو الذي يحافظ على الاستغلال الذاتي الأكفأ لتلك الموارد، والحفاظ عليها في تحقيق الاستقلال الاقتصادي.
  3. إن الصدق في تجسيد أهداف وطموحات الغالبية من المجتمع شرط ضروري لضمان تعمق عطاء المسيرة التنموية وتراكم إنجازاتها عبر الأجيال المتعاقبة.

Comments are disabled.