الجوانب الاقتصادية لفريضة الحج

بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد

لا يخفى على المسلم مدى ارتباط الحج بغايات وحكم لها صلة بالجوانب الاجتماعية بعامة والاقتصادية بخاصة، بل إن أساس وجوب الحج يرتبط بالقدرة الاقتصادية التي تُترجم في نفقات يوجهها الحاج في منافذ متعددة، وبين يدي القارئ الكريم هذه المقالة التحليلية التي تتناول الحج من جوانبه الحضارية والاجتماعية المختلفة وعلى وجه الخصوص تلك الجوانب التي تتعلق باقتصاديات الحج وأثره في تنشيط الأسواق والتجارة وفقا لرؤية شرعية مقاصدية.

أولا: وحدة الأمة العربية بين عوامل الطبيعة وروح الدين:

منح الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية كثيرًا من عوامل وحدتها وتكاملها ابتداء من الرقعة الجغرافية التي تمدد بها جسد الإسلام، وترامت أوصاله عليها فاتصلت بعوامل طبيعية جعلته كالبقعة الواحدة والجسد الواحد.
ومن أطرف ما وصفت فيه رقعة الأمة الإسلامية ما كتبه الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز حيث يقول رحمه الله: “جاوز ببصرك منطقة الثلوج المتجمدة في شمالي القارات الثلاث وجاوز ببصرك من الناحية الأخرى منطقة الثلوج المتجمدة في جنوبيها، وتخطَّ كذلك المناطق المتاخمة لهاتين المنطقتين، أو القريبة منهما … إنك سترى رقعة فسيحة الأرجاء متلاحمة الأجزاء، تصطبغ بلون واحد، وترتسم أمامك في صورة طريفة تستوقف النظر وتستأثر بالانتباه، إنها صورة جمل ضخم، قد بَرَكَ على الأرض بمؤخرته، ولكنه أخذ يهم بالنهوض، فنصب ساقيه الأماميتين، ورفع رأسه ومد عنقه، وقد سُحب إلى الأمام من مشفرة بحبل، وتدلى من عنقه حبل ثان، واجتذب إلى الوراء من منكبه بحبل ثالث، كأنه المقود في يد الراكب … في هذه الرقعة الوسط، وفي هذا الجو الوسط، تستوطن الشعوب الإسلامية التي جعلها الله أمة وسطا … هذه الأمة كما جعل الله لها من وضعها الجغرافي وحدة طبيعية جامعة جعل لها من عقيدتها وشريعتها وحدة روحية جامعة؛ وحدتين لو أثمرت كل منهما ثمرتها في مجالها لكان من شأنهما تحقيق السعادة الكاملة للمجتمع الإسلامي، كان من شأن الوحدة الجغرافية أن تمحو من بين أقطار الإسلام تلك الحواجز الإقليمية في شئون الاقتصاد والإنتاج، وأن تيسر توزيع ثورتها المادية بينها توزيعا ينشر فيها الرغد والرخاء، ويحقق لها الاكتفاء الذاتي والاستغناء عما سواها”(1).

خريطة العالم الإسلامي

وإلى جانب هذه الوحدة الطبيعية التي نسَّقت بين الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل ووفَّقت بين جهودها ولاءمت بين حاجاتها ومواردها، بما تُرجم إلى حضارة باذخة ونهضة شاملة – فهناك الوحدة الروحية التي تغلبت على تلك الفوارق السطحية بين شعوب الإسلام في ألسنتها وألوانها، وفي مذاهبها وعاداتها، حتى باتت روح الإسلام تسري في عقل وأُفُق كل مسلم يؤمن بالله تعالى ويتبع هديه وينفِّذ شرائعه.
إن جميع تعاليم الإسلام تؤلِّف روحا واحدة تسري في نفوس جميع المسلمين، حتى يتأثر بعضهم ببعض فرحا وحزنا، فيفرح لفرحه ويجزع لمصابه أو هكذا هو المسلم الذي هو أخو المسلم والذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والأمة كلها يجب أن تكون على هذا النحو حريصة على المودة والتعاون والتناصر والتلاحم المستمر، حتى يتداعى بعضها لمصاب بعض إن قدر لها مصاب في ذلك.

ثانيا: الدور الاجتماعي للعبادات الإسلامية:

ويتجلى دور العبادات خصوصا في لمّ شمل الأمة وتوثيق عرى وحدتها، وتمكين أواصر المحبة والرحمة والتلاحم، فالصلوات الخمس تجمع أهل المحلة الواحدة وتَقِفهم على إمام واحد، في صفوف متشابهة لا يُقدَّم أحدٌ فيهم على أحد، اللهم إلا من يقدِّمه سبْقُه وبكورُه للطاعة والاصطفاف في محراب العبودية.
ثم تأتي الجمعة لتجمع أهل المحال المتجاورة على مسجد جامع، ثم تمضي الأيام وتروح مع مظاهر الوحدة المتكررة على مدار اليوم والأسبوع، لتقف بالمسلمين عند أعيادهم العامة التي تجمع أصحاب القرى على مشهد واحد تنطلق فيها صيحات التكبير؛ لتقرر أن الله أكبر من مظاهر الدنيا التي تشعب الأهواء وتفرق الخلطاء، يجتمع المسلمون على هذا الدعاء ليعلنوا عن شخصيتهم وهويتهم وليعيدوا إلى أذهانهم ونفوسهم التعريف بنعمة الله على المسلمين في إيجاد عوامل الوحدة ومقومات الاجتماع، كما يشير إليه قوله تعالى: {‌وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

ثالثا: الأدوار الحضارية للحج وأثرها على الأمة الإسلامية:

ثم نمضي إلى الرحلة المقدسة رحلة الحج، التي تجمع شعوب العالم أجمع على مناسك واحدة، وغاية واحدة، في هيئة واحد وزي واحد لا يختلف بين شريف ووضيع، ولا غني وفقير، ولا سوقة وأمير، إنها مناسك الحج التي تسلك العربي والعجمي والأحمر والأبيض كلهم على خطى واحدة وشعائر متفقة فيما بينهم؛ لتقف بالمسلمين عند أعلى مظاهر الوحدة وأجلاها إنها وحدة تَنْظِم المسلمين في سلك المساواة في قلادة العبودية.
غير أن هذه الوحدة الطبيعية والروحية الثقافية ما يكون لها أن تقوم وتبقى ما لم يقم إلى جوارها مقومات مادية، تضمن بقاءها واستمرارها، وتشكِّل في الوقت نفسه طاقة للأمة الإسلامية للريادة الحضارية والاستمرار على طريق النهوض والتَّحضُّر، وقد توفَّرت هذه المقومات بأسرها للمسلمين من خلال موارد وروافد كثيرة تضمن استقرار المجتمعات الإسلامية، وتُحقِّق الترابط بين العبادات والمعاملات، أو بين الجوانب الروحية والحياة الإنسانية في تجددها وتطورها وتنوعها.

  1. الحج مؤتمر إسلامي عالمي: من فضل الله تعالى أن جعل أهم مجتمع إسلامي ألا وهو الحج مؤتمرًا متنوِّع المقاصد متعدد الغايات، لا يقتصر الهدف فيه على المشاعر الروحية المتمثلة في الإخبات والإنابة والتسربل بسرابيل العبودية وشارات الذل، وإظهار الافتقار والذلة إلى العزيز الجبار، بل شمل هذا الركن الركين من أركان الإسلام غايات كثيرة يدل عليها ذكاء اللفظة القرآنية “منافع” وزكاؤها بالمعاني(2)، فقد جاءت هذه اللفظة منكَّرة لتشير إلى عدد لا حصر له من المنافع ولتشير إلى تنوع هذه المنافع على مستوى الدين والدنيا، متضافرة في ذلك مع تأملات متنوعة في النظم القرآني وتاريخ التشريع وسياقاته وأهدافه.
  2. الآثار الروحية لفريضة الحج: إن للحج منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، على كلّ من يطوف بحماه، وينزل ساحته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس، على هيئة واحدة، فى ملابس الإحرام، على صورة سواء، واتفاق فيما يأتون من أعمال الحج من: سعى، وطواف، ووقوف بعرفة، ورمى للجمرات.. ومن تلبية، وتضرع، وتعبّد لله ربّ العالمين.
  3. الآثار الثقافية للحج: وللحج منافع ثقافية إنسانية؛ حيث يلتقى المسلمون ببعض وينظر بعضهم فى أحوال بعض، ويتبادلون المعرفة بأحوال بعضهم وأوضاع البلاد التي جاؤوا منها، وما فى هذه البلاد من صور الحياة، وألوان النشاط الإنساني، وثمرات الفكر البشري، وأشكال الصناعة والتجارة، وسائر آثار الحياة وأوضاعها في هذا البلد أو ذاك وما كان لهم من جديد ومستحدث.. وبهذا يتبادلون المعرفة، كما يتبادلون السّلع بينهم، بيعا وشراء، أو يتهادونها، مودة وإخاء، وهذا عامل فاعل من عوامل التعاون على سد المفاقر وعلى التكافل والتكامل بين الأمم الإسلامية(3).

رابعا: دور الحج في تنشيط الأسواق وتحريك التجارة وتحقيق التكامل الاقتصادي:

وهناك منافع اقتصادية تفيض ثمرتها على مستوى الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي، وهي منافع لفت إليها القرآن الكريم وجعلها في مصاف الحِكَم والمقاصد التي من أجلها شرع الحج، فيقول سبحانه في سياق الترغيب على الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28]
فجعل سبحانه من علة الحج شهود المنافع وقد جاء تنكير هذه المنافع، ليدل على انتظامها جميعَ المنافع، فيدخل فيها المنافع الدينية والدنيوية، والتي تتجلى في مظاهر الأنشطة الاقتصادية التي تجري في رحلة الحج، وعلى رأسها عمليات البيع والشراء والتبادل التجاري الذي أنعم الله سبحانه وتعالى به على مكة، والذي فاضت ثماره فيما بعد حتى شملت المدينة التي ارتبطت ببعض مناسك الحج الشريف حيث يقول النبي الأكرم: «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي»(4).
ونعلم من تاريخ مكة أن منطقة مكة في الأصل منطقة جدباء شديدة الحرارة شحيحة المياه، محاطة بالجبال فهي قائمة في وادٍ غير ذي زرع، فكرمها الله سبحانه وتعالى بالحرم الذي هو محط أنظار العرب ومهوى أفئدتهم(5)، وباتت تأتيه الوفود من كل مكان بألوان السلع وأنماط العُروض وتقوم منه وإليه عمليات التجارة المختلفة، فحازت مكة بهذا الجلب المتواصل منها وإليها مكانة كبرى ونشطت التجارة فيها حتى باتت مركزا تجاريا مرموقا ونشطت فيه أسواق كبرى: كعكاظ، ومنى ومجنة، وذي المجاز، وعرف التاريخ لها رحلتين فارهتين إلى الشام واليمن صيفًا وشتاءً، وقد كان هذا الرخاء نفسه هو سبب تقاعُس العرب عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته خوفا من فقدان هذه المزايا {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]».
ولهذا توجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء الرجالات معرِّفًا إياهم بأن ما هم فيه من نعمة ومقومات رخاء إنما هو بفضل الله سبحانه ونعمته عليهم، وهو مما يدعوهم إلى شكر نعمته والإيمان بنبيه لا بالتنكُّر له وجحوده، فقال سبحانه {ِلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1-4] .
لقد رفلت مكة المشرفة في نعمة الله استجابة لدعوة إبراهيم الخليل {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] التي استوجبت تحريم هذا البلد الحرام، ليتحقق له أهم مقومات النهضة التي هي تحقق الأمن على النفوس والأموال، ثم جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ليضع المدينة في مصاف مكة في الحرمة ويدعو لها بالمباركة في الرزق فيما يرويه عنه عبد الله بن زيد رضي الله عنه: «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِمَكَّةَ»(6).
فكانت سعة الرزق في هذين البلدين وشيوع الرخاء في جنباتهما مما هو مشاهد ملموس.
متاجر مكة في موسم الحج: وتختص مكة في موسم الحج بألوان معينة من التجارات على رأسها: تجارات الهدي، أو الفدية في ارتكاب محظور أو في الترفُّه، وكذلك ألوان الأطعمة التي نُدِب إلى التصدق بها في كفارات الحج، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ويكون التصدق والذبح بمختلف أحواله بمكة المكرمة، كما يفيد قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] مما يعني زيادة في بسطة العيش وبحبوحة الحياة لأهل مكة.
الحج مؤتمر اقتصادي كبير: إن موسم الحج بما يجلب إليه من سائر البلدان مما يعرض في مكة لهو معرض إسلامي كبير لا نسبة بينه وبين غيره من المعارض الاقتصادية مهما بذل في سبيل إنجاح وترويج هذه المعارض، وقد شعر بعض المسلمين في زمن الوحي بحرج في ممارسة التجارة في موسم الحج، فنزلت آيات بينات ترفع هذا الحرج وتُقرِّر بلا مواربة أن ابتغاء فضل الله في الحج ليس محرما كما في قوله تعالى: {َلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].
قال ابن عباس: «كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج، قرأها ابن عباس» (7).
وعنه “أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة، وسوق ذي المجاز ومواسم الحج، فخافوا البيع وهم حرم، فأنزل الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] في مواسم الحج(8).
التجارة في الحج لا تنافي التوكل: إن الإسلام لا يرفع الحرج عن التجارة في الحج واستغلال هذا الموسم في الاكتساب والاتجار فحسب، بل يُرغِّب في ذلك ويندب إليه، كما في قوله تعالى: {ِّلِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] والذي يجعل شهادة المنافع كالسبب لتشريع الحج، مما يدل على أن الحج نفسه منه غايات ومقاصد لإصلاح العالم.
ثم يأتي الأمر بأخذ الزاد دفعا لما توهمه بعض العرب من كون التزود ينافي التوكل، فيأمر الله سبحانه وتعالى بالتزود فيقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، حتى يصحح القرآن العقيدة الفاسدة التي انتشرت في العرب قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي كانت تقضي باستحباب الحج بلا زاد، زعما بأنهم متوكلون في الوقت الذي يضيِّقون فيه على الناس بسؤالهم إياهم، فنزل القرآن ليرفع هذا الضيق ويندب إلى التزوُّد الذي ينشط التجارة وينشر الرخاء في المجتمع(9).
ويتصل بهذا المقام التعجيل برمي جمرة العقبة في اليوم الأول وجعلها غدوة. أي: في أول اليوم مع أن باقي الرميات تكون عشية يعني في آخر اليوم وذلك لحكمة هي: “أن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة، وهي كلها بعد الرمي، ففي كونه غدوة توسعة، وأما سائر الأيام فأيام تجارة وقيام أسواق، فالأسهل أن يجعل ذلك بعد ما يفرغ من حوائجه، وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار”(10).
وهكذا يُزاوج الإسلام بين الجوانب الروحية للعبادات والجوانب الاجتماعية بما يعود بالخير والنفع على المجتمعات الإسلامية، فلا ريب أن هذه النفقات التي ترتبط بالحج ابتداء من خروج الحاج من بيته إلى أن يعود له تُنشِّط الأسواق وتُوجد كثيرًا من فرص العمل، وتزيد من الناتج المحلي بما يُترجَم إلى حالة رخاء تعم المجتمع الإسلامي.
كما أن فرص الالتقاء في الحج لتدارس الأوضاع وتبادل الثقافات، تفتح الآفاق أمام التواصل الحضاري وتعزز من فرص التكامل الاقتصادي والأدبي وتفتح سوقا للعرب في بلدانهم أنفسهم عندما يقتدرون من خلال هذه اللقاءات على عقد الصفقات وتأسيس الشراكات، وتبادل الخبرات في الميادين المختلفة، وكل هذه الفوائد والمنافع تدل على أن وراء هذه الشعيرة حكمة علام الغيوب الذي لا يشرع أمرا إلا وفق حكمة ومصلحة علمها من علمها ممن فتح الله له آفاق العلم والفهم.

(1) نخبة الأفكار، (ص: 192- 194).
(2) ينظر: تفسير الطبري جامع البيان – ط هجر» (16/ 522) و«تفسير ابن كثير – ت السلامة» (5/ 414).
(3) ينظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب (9/ 1017).
(4) الأحاديث في فضل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في بعض وهن لكن مجموعها ينجبر ببعض قال الصنعاني في فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار» (2/ 784) :” وأخرج ابن عدي والدارقطني وابن حبان عن ابن عمر مرفوعًا: «‌من حج ولم يزرني فقد جفاني» وفي إسناده النعمان بن شبل وثقه عمران بن موسى وضعفه غيره وله شواهد ضعيفة والجميع بعضها يقوي بعضًا، وعليه عمل المسلمين في جميع الأمصار ويعدون ذلك من أفضل الأعمال”.
(5) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أحمد الشريف (ص26).
(6) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومدهم فيه عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 67) حديث رقم (2129).
(7) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» (3/ 53) حديث رقم «2050».
(8) أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الكري (3/ 156) حديث رقم «1734».
(9) ينظر: حجة الله البالغة (2/ 88).
(10) حجة الله البالغة (2/ 100).

Comments are disabled.