الحج وتدعيم المبادئ الأخلاقية للاقتصاد الإسلامي
بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين
“الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي يستمد قوته من وحي القرآن، وهذه الأخلاق تقدر أن تعطي معنى جديدا لمفهوم القيمة وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة آلية التصنيع”.
جاك أستروي مفكر فرنسي
من الحقائق الثابتة أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي، وأن الأخلاق محدِّد لغايات النشاط الاقتصادي في الإسلام، وضابطٌ لسلوك وحداته الاقتصادية، ومعيارٌ من معايير قياس مدى التزام مؤسساته بمبادئ الاقتصاد الإسلامي، وهذا ما يميِّز الاقتصاد الإسلامي على مستوى مبادئه وقواعد نظامه عن سائر النظم الاقتصادية الوضعية التي عرفتها البشرية، وبصفةٍ خاصة النظامِ الرأسماليِّ السائدِ حاليًا في العالم المعاصر.
وتتميز الأخلاق في الإسلام –بصفة عامة-بأن مصدرها الإيمانُ بالله تعالى، فهي ثمرة العقيدة الراسخة في القلب؛ ولذلك فهي ثابتة لا تتغير بتغير مصلحة الإنسان، وهي أخلاقٌ شاملةٌ تغطِّي كافة نواحي الحياة، ولا يقتصر الالتزام بها على ناحية دون أخرى، كما أن الإسلام يُفاضِل بين أتباعه على أساس درجة الالتزام الحقيقي بالأخلاق الفاضلة يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا»(1). وهذه هي بعض خصائص الأخلاق في الإسلام.
وإذا كانت الأخلاق في هذه المرتبة العالية في نظر الشريعة الإسلامية فإنه كان من المنطقي أن يعمل الإسلام على توطيد دعائم هذه الأخلاق بمختلف الوسائل والأسباب، فنجد العبادات الشعائرية تعمل على تحقيق الغايات السامية والمرامي النبيلة، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، ويقول في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وأما الحج فهو مجمع المنافع كما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28]، والاستقراء يدل على أنه من عبادة إلا ولها جوانب إنسانية واجتماعية وأخلاقية متعددة يعرفها الباحثون في مقاصد الشريعة وأسرارها وحكمها.
فالحج فريضة دينية وركن من أركان الإسلام يرتبط بكثير من المقاصد وعديد من الغايات، من أهمها: ترسيخ دعائم الأخلاق الدينية للمسلم، فهو وسيلة قويَّة في هذا المضمار، وتفسير ذلك يرجع إلى ما يتصف به الحج من تجربة عملية فريدة، فيها يتحقق عمل كل جوارح الإنسان وطاقاته لإتمام أداء هذه الفريضة، حيث مفارقة الأوطان والأهل، ومكابدة مشاقّ السفر، والتحلُّل مما يتمتَّع به الإنسان في حياته العادية.
إلى جانب تعزيز قيمة الزهد والتخلِّي عن الدنيا مهما بلغت من قيمة أو مقدار، ويظهر ذلك في التحلُّل من التمتُّع بزينة الملبس وهو أبرز ما تظهر به نعمة المال على الإنسان أمام المجتمع. بل يتوجَّه المسلم بماله لإنفاقه لتوفير تكلفة السفر والانتقال والوفاء بالحاجات الإنسانية أثناء فترة أداء فريضة الحج، متوقفًا عن الاشتغال بالكسب وتنمية الثروات، وهذا تدريبٌ عمليٌّ متواصلٌ على تعظيم القيم الأخلاقية والدينية على المكاسب المادية دون إهمال لهذه المكاسب بالكلية بل بتوجه العمل نحو غايات أخلاقية وإنسانية، رغبة في إحداث التوازن بين الجوانب الروحية والمادية.
وكلُّ هذه الأمور المحبَّبة للنفس يتركها الحاج رغبة في صدق التوجُّه إلى طاعة الله طلبًا لرضوانه وغفرانه، وفي كل ذلك تترسَّخ قيمة المبادئ الأخلاقية الدينية في شريعة الإسلام، فتصبح الغاية طلب رضوان الله، ويصير المال وسيلةً إلى بلوغ هذه الغاية، فتترسَّخ القيم الأخلاقية في اقتصاد المسلم، ويتقرَّر في عقله ويسكن جوارحه أن هدفَ تعظيمِ الثروة المالية ليس هو الهدف النهائي لحياة المسلم، وإنما المال والثروة وسائل يكتسبها الإنسان بطريق حلال من أجل غايات أوسع وأعمق وأعلى درجةً وسموًّا ورفعةً.
الحج يوجه الملكية الخاصة لغايات أخلاقية تنموية: تعزِّز فريضةُ الحج الأبعادَ الاجتماعيةَ للملكية في نفس المسلم، ليتأكد أنه إذا كانت قواعد الاقتصاد الإسلامي تقوم على تقرير الملكية الخاصة للمال المكتسب من طريق حلال، فإن هذا لا يعني غياب المبادئ الأخلاقية في ضبط وترشيد سلوك المسلم في هذا المال، ولهذا تنحصر الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي في دائرة الوسيلة النظيفة لحياة نظيفة في التزاماتها وغاياتها ووسائلها، فبها يتحقق الفلاح الدنيوي والأُخروي في بوتقةٍ واحدةٍ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وقوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص: 60]، إلى غير هذا من الآيات التي تقرر هذه الحقيقة.
إن الحج تربيةٌ عمليةٌ وتجربةٌ تطبيقيةٌ على أن المال وسيلة، وأن المقاصد الأخلاقية من ضمن غاياته ومراميه، وأن الحج كتضحية بالمال والجهد والطاقة ترسيخ لتلك المبادئ الأخلاقية؛ لهذا لا نجد في المجتمع المسلم الذي تسود فيه الأخلاق الصحيحة نوعًا من أنواع التضحيةِ بالأخلاقِ من أجل كسبٍ ماليٍّ أو منفعةٍ خاصةٍ، لن تجد في ذلك مجتمع الحروب الاقتصادية القذرة التي نراها في النظام الرأسمالي المعاصر، سواء على مستوى سوق الشركات المتنافسة، أو على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية، أو استخدام الأساليب غير المشروعة لتدمير الخصوم، أو اقتناص ما لا يحق للإنسان أن يحصل عليه بطريق مشروع ونظيف.
إن عبادة الحج تركِّز دعائم المبادئ الأخلاقية في المجال الاقتصادي بشكل حقيقي، وليس بشكلٍ دعائيٍّ زائفٍ غايتُه: تجميلُ أداء الشركات الاحتكارية الكبرى، وليست هناك ممارسة شعائر عبادية نجد فيها تجربةً عمليةً تُقدِّم له صورةً تقريبيةً لمقدمة الحياة البرزخية والحياة الآخرة التي هي الغاية النهائية، وتجعل قيمةَ المال تَعظُم في نفس المسلم حينما يوظِّفها لتعمير ما يستقبله من حياةٍ برزخيَّةٍ مؤقتةٍ أخرى، وحياةٍ آخرةٍ دائمةٍ، وإلى جانب ذلك فإن شعيرة الحج تفيض بالدروس التي لا يمكن الإحاطة بها، والتي نرجو أن نتناولها في مقالات أخرى بإذن الله.
(1) أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق (4/ 370) حديث آدم (2018). وأخرجه أحمد (المسند/ مسند عبد الله بن عمرو بن العاس) (11/ 347) حديث رقم (6735) وسند أحمد جيد كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 21).