الحيل الفقهية في المعاملات المالية “تطبيقات على الحيل المحرمة”[4]

بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل

مدار العقود التي يظهر فيها الحيل المحرمة في المصارف الإسلامية هي تلك العقود التي تتضمن التعامل بالربا في أنشطة المصارف وبصفة خاصة عند منح التمويل بأشكاله المختلفة، وهو واضح لأنه مدار عمل البنوك الأصلي، كما تظهر الحيل المحرمة في أنشطة البنوك في العقود المشتملة على ممنوع شرعي يبطل العقد، كبيع ما لا يملك. فليس كل التحيل يدور على الربا، إذ ليس كل الحرام هو الربا، لكن لكون أعمال البنوك الربوية تدور على الربا بطبيعة الحال كان التحيل فيه أكثر.
وحتى يستقيم عمل المتحيل على الربا فلا بد من أن يتحيل على المانع الشرعي لبعض العقود والبيوع لئلا يبطل العقد لوجود الفساد أو البطلان في جزء منه، لذا كان التحيل عليها مكملاً ومتممًا للتحيل على الربا، ومن ذلك التحيل على بطلان بيع ما لا يملك بشتى الطرق التي يريد المصرف أن يظهر تملكه للسلعة قبل إعادة بيعها، مع عدم التزامه بأحد أركان ثبوت التملك؛ وهو الضمان للسلعة، ويقاس عليه: عدم الحيازة للمبيع وغيره، وتبرير ذلك بمبررات عديدة منها تغير الزمان وأثره على بعض الأحكام (1). ومن هذه الصور: –
التحيل في بيع العينة: وذلك لاستحلال الربا، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:” إذا تبايعتُم بالعِينَةِ، سَلَّط اللهُ عليكم ذُلاًّ لا ينزِعُه حتى تَرجِعُوا إلى دينكم(2). هذا البيع اخترعه أكلة الربا (3). وفيه دليل على أن ‌مَنْ ‌نَوَى ‌بالبيع ‌عقد ‌الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع (4).
وروي عن أنس بن مالك وعبد الله بن عباس أنهما سئلا عن العينة، فقالا: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله، فسميا ذلك خداعًا، وفي قول رسول الله:” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ(5)، دلالة واضحة على أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه، لا ما أعلنه وأظهره، وحينئذ من نوى الربا بعقد البيع في الربويات وأدى إلى الربا كان مرابيًا، وكل عمل قصد به التوصل إلى تفويت حق كان محرماً.
ومن صورها المعاصرة: حاجة شخص إلى السيولة ولا يجد من يقرضه؛ فيذهب لأحد التجار فيشتري منه سلعة قيمتها عشرة بثلاثة عشر مؤجل على أقساط، ثم يبيعها منه بعشرة معجلة لنفس البائع.
التحيل في الإجارة المنتهية بالتمليك: والتحايل في هذا العقد في المصارف يتمثل في إلحاق عقد بعقد مع تغيير المسمى، فهو عقد تمليك لكن أخرج بصورة عقد إجارة، ويظهر هذا جليًا عند التأمل فيه، ومراد المتحيل بهذا العقد المركب أن يأخذ أفضل مزايا العقدين لنفسه، أي يأخذ مزايا عقد الإجارة، فتبقى السلعة مملوكة له، ويأخذ مزايا عقد البيع بأن يحمل المستأجر مسؤوليات المالك كالضمان للسلعة أو التأمين عليها؛ فهذه الصيغة تشبه بيع التقسيط، والحقيقة أن المتعاقدين يخفيان البيع ويظهران الإجارة، وتختلف عن بيع التقسيط في كونها مركبة من عقدين؛ عقد إجارة وعقد بيع، لذا تم اللجوء لهذه الحيلة للتحوط لحفظ الحقوق(6).
التحيل بالتعامل بالتورق العكسي: وصورتها ألا يشتري المصرف السلعة، وإنما يدفع ثمنها عن العميل، مقابل أخذ ثمن أعلى مقسط، ثم يتولى العميل بيع السلعة أو يوكل البنك في بيعها. وهذه المعاملة محرمة؛ لأنها حيلة على ارتكاب الربا، لأن حقيقة المعاملة أن البنك أقرض العميل ثمن السلعة، وأخذه مع زيادة.
التحيل بالتعامل بالتورق المصرفي المنظم: وصورته أن يشتري البنك السلعة، ثم يبيعها للعميل بالأقساط، دون أن يقبض البنك السلعة قبل بيعها، ويقوم العميل بتوكيل البنك في بيعها بثمن أقل، والعميل لم يقبض السلعة أيضًا، ولم يرها، وهو غير مهتم بها غالبًا، وإنما غرضه النقود، وهذه الصورة محرمة كالتي قبلها، وقد شاع وجودها في هذه الأيام، وتعاملت بها بعض البنوك على أنها صورة مشروعة من التورق، وقد أفتى عدد من أهل العلم بتحريمها، كما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بالتحريم (7).
التحيل بالتعامل باتفاقيات إعادة الشراء (Reverse Repo) – المصطلح عليها اختصارا بـ “الريبو” هي: بيع أوراق مالية أو أصول قابلة للتسييل بسعر محدد، مع التعهد بشرائها من المشتري في تاريخ محدد وسعر محدد يذكر في الاتفاقية ” وهذه الاتفاقية تسمى إعادة الشراء بالنظر إلى بائع الورقة المالية، بينما إذا نظرنا إلى مشتري الورقة المالية فتسمى الاتفاقية: معكوس الاتفاقية إعادة الشراء، أو الريبو العكسي فالبائع يجري عملية ريبو والمشتري يجري عملية ريبو عكسي. وعلة المنع لأنه تضمن بيعًا وسلفًا، أو سلفًا جر نفعًا.
الاحتيال في البيوع: نهى النبي – صلى الله عليه وسلم-:” عَنِ النَّجْشِ”(8) وهو أن يعطي الرجل الثمن في السلعة وليس في نفسه شراؤها، ليقتدي به غيره ممن يحب شراءها فيزيد فيها أكثر من ثمنها، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ لأنه ضرب من التحيل في ‌تكثير ‌الثمن (9).
ومن صوره المعاصرة: ما يجري في جراج السيارات عند البيع بالمزايدة؛ حيث يتفق صاحب السيارة مع أصدقاء له ليزيدوا في سعر السيارة وهم لا يريدون شراءها، بحيث إذا وقفت على غيرهم بالمبلغ الذي يريده صاحب السيارة انسحبوا وحصل البيع، ولو وقفت على واحد منهم لا يحصل بيع، وإن سموه تعاوناً، فهو النجش الذي ورد النهي عنه.
ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً استعمله على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له:” أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا، فَقَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ(10).
فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يشتري التمر بالدراهم، ونهاه أن يكون التمر وأحدهما أكثر من صاحبه، ليخرج بذلك فيما لا يحل إلى ما يحل، فأراد بذلك الخروج من الإثم إلى الحق (11).
ونقل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ ‌تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر:6] أن معنى الآية: لا تعطي الهدية تلتمس بها أكثر منها (12). فالآية تدل على تحريم الهدية إذا قصد بها مهديها أخذ أكثر منها. وهي هدية الثواب فاعتبر ذلك القصد حيلة للربا أو لأخذ أموال الناس بالباطل أي: بالتحيل، إلا أن يكون على سبيل التبرع. ومن صورها المعاصرة الرشوة باسم الهدية.

(1) انظر: الحيل الفقهية وعلاقتها بأعمال المصرفية الإسلامية: لعيسى بن محمد الخلوفي: 304،303.
(2) سنن أبي داود: 5/332 (3462) كتاب الإجارة، باب في النهي عن العينة، مسند أحمد: 8/440 (4825).
(3) رد المحتار على الدر المختار: لابن عابدين: 5/273.
(4) إعلام الموقعين: لابن القيم: 4/522.
(5) صحيح البخاري: 1/6 (1) كتاب بدء الوحي، باب كيف كان‌‌ بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) الحيل الفقهية وعلاقتها بأعمال المصرفية الإسلامية: لعيسى بن محمد الخلوفي: 361.
(7) قرار رقم 179 (5/19) بشأن التورق: مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي المنعقد في دورته التاسعة عشرة في دولة الإمارات العربية المتحدة، من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430هـ، الموافق 26 – 30 إبريل 2009م.
(8) صحيح البخاري: 3/69 (2142) كتاب البيوع، باب النجش.
(9) شرح صحيح البخاري: لابن بطال: 8/ 318.
(10) صحيح البخاري: 3/98 (2302/2303) كتاب الوكالة، باب الوكالة في الصرف والميزان وقد وكل عمر وابن عمر في الصرف، صحيح مسلم: 3/1215 (1593) كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل.
(11) الحيل: للخصاف: 4.
(12) تفسير القرطبي: 19/67.

Comments are disabled.