الحيل الفقهية في المعاملات المالية “المفهوم والنشأة” [1]

بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل

إن الحيلة الفقهية أو منهج التحيل الفقهي يمكن تفسيره بأنه: استخدام الفقه الإسلامي وأدواته في نقل المكلف من حكم شرعي إلى آخر. وهذا المنهج ليس مقصورًا على باب من أبواب الفقه، بل يشمل معظم الأبواب الفقهية، فمن خلال الأمثلة التي ذكرها الفقهاء منذ بدء ظهور هذا المنهج نجد أن الحيل الفقهية أداة استخدمت غالبًا لانحراف المسلمين عن واجباتهم الشرعية والتزاماتهم مع الآخرين في جميع الجوانب، مثل جانب المعاملات المالية أو الأحوال الشخصية.
والحيلة: هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي”(1). وقيل:” أن يظهر قولًا أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح، وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به، إذا كانت به مصلحة دينية، مثل دفع الظلم عن نفسه، أو غيره، أو إبطال حيلة محرمة”(2).
ثم غلبت أي- الحيلة – بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة”(3).
ويقصد بها في الاصطلاح الخاص بالمعاملات المالية: “أن يظهر عقدًا مباحًا يريد به محرمًا، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق، ونحو ذلك”(4). ويكون الهدف من ذلك التحيل، قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخرى، بفعل صحيح في ظاهره لغو في باطنه، سواء كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع (5).

تحريم الحيل غير المشروعة: –

واستدل العلماء على تحريم الحيل بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ ‌فِي ‌السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 65-66]. وهؤلاء طائفة من اليهود ابتلاهم الله بأن حرم عليهم الصيد يوم السبت، وأباحه في بقية الأيام، وكان السمك يأتي يوم السبت كثيراً بعكس بقية الأيام فاحتالوا بحيلة؛ ليحافظوا على السمك يوم السبت ويصيدوه يوم الأحد بأن حفروا حفراً بجانب البحر فيدخلها السمك فلا يستطيع الخروج منه، فإذا جاء يوم الأحد استخرجوها وأكلوها فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير جزاء لتحيلهم وعدم استجابتهم لأمر الله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا ‌أَصْحَابَ ‌الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلَا يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم: 17-20]. فقد كان من عادة الفقراء أنهم يلتقطون ما تساقط من الثمر بعد حصاده فاتفقوا على أن يحصدوا بساتينهم في الليل حتى يحرموا الفقراء من حقهم القليل الذي فرضه الله لهم، فعاقبهم الله بإتلاف جنتهم وضياع أموالهم؛ عقوبة لهم على احتيالهم لمنع الحق الذي كان للمساكين في مالهم.
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لُعِنَ المُحِلُّ والمُحَلَّلُ لَه(6). وسماه “التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ(7). إذا طلق الزوج زوجته ثلاثاً حرمت عليه حتى تتزوج غيره زواجاً حقيقاً عن رغبة، فإذا حصل بينهما طلاق؛ جاز رجوعها إلى زوجها الأول، وبعض الناس يحاول أن يحتال لتحل له زوجته، فيتفق مع شخص على أن يتزوجها ويطلقها لترجع إلى زوجها الأول، وقد لعن النبي – صلى الله عليه وسلم – من فعل هذا.
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “قَاتَلَ اللهُ يَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا(8). فقد حرم الله تعالى عليهم أكل الشحوم والانتفاع بها ولكنهم تحايلوا على ذلك فأذابوها كي يغيروا شكلها ثم باعوها وأكلوا أثمانها. فكل حيلة يحتال بها للتوصل إلى المحرم فلا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
نشأة الحيل: ولم تعرف الحيل في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا في عهد صحابته الكرام -رضي الله عنهم-؛ بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقفل بابها بمثل قوله- صلى الله عليه وسلم -:” وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، ‌خَشْيَةَ ‌الصَّدَقَةِ(9). وقال – صلى الله عليه وسلم- محذرًا من التحيل: “لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ(10).
أما الصحابة – رضي الله عنهم – فقد كرهوا الحيل، ونفّروا منها، ونقل عن كثير منهم التحذير منها، والقول ببطلانها.
وقد سار التابعون في هذا على سير الصحابة، وكذلك من أتى بعدهم من تابعي التابعين وتابعيهم، أنكروا الحيل إنكاراً شديداً، واشتد قولهم على من أفتى بجوازها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:” أما الإفتاء بها وتعليمها للناس، وإنفاذها في الحكم، واعتقاد جوازها؛ فأول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المائة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموه وزجروا عنه (11).
وأشار ابن القيم إلى أن أكثرها من وضع وراقي بغداد، وقد سبقه لهذا الحكم الجوزجاني عندما أنكر نسبة كتاب الحيل لمحمد بن الحسن وقال:” من قال إن محمداً صنف كتاباً في الحيل فلا تصدقه، وما في أيدي الناس فإنما جمعه وراقو بغداد”(12).
والذي يظهر أن بعض علماء الحنفية هم أول من تكلم بها؛ ولكن في البدايات لم يكن فيها التوسع الذي عرف لدى المتأخرين. علمًا بأن الحنفية كانوا يستعملون الحيل على أنها مخارج من الضيق والحرج على وجه شرعي لا أكثر (13).

(1) فتح الباري: لابن حجر العسقلاني: 12/326.
(2) إغاثة اللهفان: لابن القيم: 1/388.
(3) الفتاوى الكبرى: لابن تيمية: 6/106.
(4) المغني: لابن قدامة: 6/116.
(5) الموافقات: للشاطبي: 3/108.
(6) سنن أبي داود: 3/420 (2076) كتاب النكاح، باب في التحيل، سنن ابن ماجة: 3/117 (1935) أبواب النكاح، باب المحلل والمحلل له. وصححه الأرنؤوط.
(7) سنن ابن ماجة: 3/117 (1936) أبواب النكاح، باب المحلل والمحلل له.
(8) صحيح البخاري: 3/82 (2224) كتاب البيوع، ‌‌باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه، صحيح مسلم: 3/1208 (1583) كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام.
(9) صحيح البخاري: 9/23 (6955) كتاب الحيل، باب في الزكاة وألّا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة.
(10) إبطال الحيل: لابن بطة: 47 بتصرف.
(11) الفتاوى الكبرى: لابن تيمية: 6/76.
(12) المبسوط: للسرخسي: 30/209.
(13) انظر: الحيل في الشريعة الإسلامية: لصالح سالم النهام: 38.

Comments are disabled.