الْمَنْطِقُ الاقتصادي الإِسْلَامِيّ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا خلال:
4. توزيع الدخل والثروة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
تناولنا في المقال السابق المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: الآثار السلبية لنظام الفائدة على مستوى النمو. ونستكمل في هذا المقال.
توزيع الدخل والثروة:
نظام الفائدة يدعم في الواقع العملي نمطًا من توزيع الدخل والثروة متحيزًا إلى الأثرياء والشركات كبيرة الحجم، بغض النظر عن الاعتبارات الاقتصاديّة الرشيدة، أما النظام الماليّ الإسلاميّ الخالي من الفائدة فإنه يدعم نمطًا عادلًا لتوزيع الدخل، يرتبط بالكفاءة الاقتصاديّة والإنتاجيّة والإسهامات الفعلية في إجماليّ القيمة المضافة.
تعتمد هذه الحجة بشكل مباشر على المعاملة التفضيلية التي تمنحها المؤسسات الماليّة القائمة على الفائدة، ولا سيما البنوك التجاريّة للأثرياء والشركات كبيرة الحجم بسبب الملاءة والجدارة الائتمانية. أما المشروعات متوسطة الحجم فإنها لا تُحْرَم من الحصول على التمويل، لكنها غالباً ما لا تحصل على جميع احتياجاتها الماليّة، ويطلب منها تقديم ضمانات للاقتراض ترهقها كما قد تُحَمَّل بأسعار فائدة أعلى نسبيًّا، وفيما يتعلق بالمشروعات الصغيرة نجد أن هناك تحاملًا وتحيزًا ضدها كما ذكرنا سابقًا، على أنه في عدد غير قليل من البلدان النامية تقوم الحكومات بترتيبات خاصة للوفاء بنسبة أكبر من الاحتياجات التمويلية لأنشطة المشروعات الصغيرة عن طريق البنوك، وعلى الرغم من ذلك فإن البنوك تفرض سقوفًا ائتمانية صارمة على الحصة الموجَّهة للمشروعات الصغيرة، فضلًا عن الإجراءات الرسمية المرهقة والضمانات الثقيلة المطلوبة من أصحابها.
ومِنْ ثَمَّ فإن نظام الفائدة سيساعد بفاعلية الشركات كبيرة الحجم على الاستمرار والتوسع، ويزيد المستثمرين وأصحاب الأعمال الأثرياء ثراءً، بغض النظر عن كفاءتهم الاقتصاديّة أو إنتاجيّتهم، وهذا على عكس ما يجري بالنسبة للآخرين. إن صغار المُنَظِّمين ورواد الأعمال، حتى إن كانوا أصحاب أفكار ابتكارية ومشروعات مجدية مدروسة بعناية، مصحوبة بعوائد أعلى متوقعة وإسهام أكبر في الناتج المحلي الإجماليّ، سيُحْرَمون من التمويل أو قد يحصلون على تمويل أقل كثيرًا من احتياجاتهم الماليّة؛ وهذا يعني أن فرص نمو أنشطتهم ودخولهم أقل. وتجدر الإشارة إلى أن خطورة هذه المشكلة تظهر في معظم البلدان النامية حيث توظف النسبة الأكبر من إجماليّ القوة العاملة، في المشروعات الصغيرة، على حين أن حصتها في الناتج المحلي الإجماليّ أقل بكثير من الشركات المتوسطة والكبيرة.
إن النظام الماليّ الإسلاميّ يتيح فرصة للتخلص من مثل هذه المشكلات حيث يربط الحصول على التمويل بالإنتاج والربح المتوقع من المشروع وبكفاءة وأمانة القائم (القائمين) عليه. فالمضاربة التي هي من أهم عقود التمويل الإسلاميّ تُبنى على الثقة الشخصية لصاحب رأس المال في شريكه (المضارب ويسمى أيضاً العامل) من حيث كفاءته وتفانيه في العمل وأمانته وصدقه؛ ومِنْ ثَمَّ فإن الاعتبارات الاقتصاديّة والإدارية تُؤخذ في الاعتبار، وتحل جدارة الثقة محل الجدارة الائتمانية، وإذا تحققت أرباح تُقَسَّم بين مالك رأس المال وشريكه (المُضَارِب) وَفْق النسب المتفق عليها بينهما، وفي حالة تحقق خسائر يتحملها مالك رأس المال بينما يخسر المضارب كل جهوده ولا يحصل على أي مكافآت.
أسلوب آخر من أساليب التمويل الإسلاميّ: هو المشاركة التي تسمح بطريقة مرنة لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة أو الصغيرة بالتجمع، والاشتراك في مختلف أشكال الشركات، ويقوم الشركاء بتقسيم الأرباح المحقَّقة بينهم وَفْق النسب المتفق عليها والمحدَّدة مسبقًا في عقد الشركة. وتسمح قواعد الفقه الإسلاميّ لأنصبة الشركاء في التفاوت (شركة العنان) كما تسمح بتمييز نصيب واحد أو أكثر الشركاء في الربح المحقق إذا عهد إليه (إليهم) بالإدارة. وقد يكون الشريك القائم بالإدارة ذو نصيب صغير في رأس مال الشركة. وهكذا قد يحصل صاحب النصيب الأقل في رأس مال الشركة على نصيب مميز في ربحها، وذلك تبعًا لنجاحه في إدارة الشركة، أي تبعًا لاعتبارات الكفاءة والخبرة والمجهودات الإدارية. أمَّا في حالة حدوث خسائر فسيتحملها جميع الشركاء وفق حصصهم في إجماليّ رأس مال الشركة؛ وهذا يعني أن العدالة الاقتصاديّة محمية بعناية في المشاركة، وأن توزيع ما يتحقق من دخل ليس بمتغير تابع لحجم رأس المال وإنما هو متوقف على الكفاءة.
تقوم جميع أساليب التمويل الإسلاميّ وصِيَغِه الأخرى على الطبيعة نفسها المبنية على أساس الشراكة ومبادئ المشاركة في الربح والخسارة، ومن هذه الأساليب والصيَغ: الاستصناع والمزارعة والمرابحة التي يمكن استخدامها لحل المشكلات الماليّة التي يواجهها أصحاب المشروعات الصغيرة والمزارعون والتجار بصفة خاصة.
نَخْلُص من هذا إلى أن أساليب التمويل الإسلاميّ وعقوده وصِيَغه تدعم من دون شك التوزيع العادل للدخل وتعززه؛ لأن أساليب المشاركة في الربح والخسارة لا تنحاز ضد الأشخاص الذين يشاركون فقط بجهودهم الإدارية أو خبراتهم التجاريّة، ولا تتحامل كذلك ضد الشركاء الصغار، بل إنها تسهل التمويل للمشروعات الصغيرة على أساس الثقة في كفاءتها وعوائدها المتوقعة، وعلى الرغم من ذلك فإن تطبيق أساليب التمويل الإسلاميّ يواجه بعض المشكلات في البداية كما حدث بالفعل في الواقع العمليّ المعاصر .
هذا هو المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: توزيع الدخل والثروة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي، وأما المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: أساليب التمويل بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي، فنتناوله في المقال التالي.
(1) تستخدم الصناعات صغيرة الحجم التي يقع معظمها في القطاع غير الرسميّ حوالي 40% -85% من القوة العاملة خارج القطاع الرسمي في أفريقيا، وحوالي (44%-60%) في شرق وجنوب شرق آسيا. ونحو 40%- 60% في أمريكا اللاتينية. وانظر المساهمة في نمو القوة العاملة وكذلك المساهمة في النشاط الإنتاجي في:
Ruchira Kumar (2017), “Targeted financing for SME’s and employment effects”, WB
(2) المضارب يتحمل شيئاً من خسارة رأس المال فقط في حالة دخوله في العقد شريكا أيضاً في رأس مال المضاربة، ويتحمل الخسارة هنا بنسبة رأسماله فقط. وقاعدة الخسارة في المال تقع على عاتق صاحب رأس المال، وتضع عليه مسؤولية كبيرة في التأكد من كفاءة المضارب وخبرته في الأعمال وخلقه وأمانته. أما خسارة المضارب في حالة عدم تحقق ربح فهي خسارة عمل وجهد ولا تقل عن خسارة المال، وكل ذلك بفرض الأمانة والكفاءة. مثلاً لو ثبت تفريط المضارب في حفظ مال المضاربة أو إهماله في القيام بواجبه بالكفاءة المتعارف عليه، فإنه هو الذي يتحمل الخسارة في رأس المال.
(3) في عقد الاستصناع يقوم الطرف الأول (المُمَوِّل) بتوفير التمويل لمنتَج معين بجودة معينة، بحيث يقوم الطرف الثاني (المُصَنِّع) بتصنيعه وتسليمه في المستقبل كما هو مُتَّفَق عليه في العقد، ويجب على كل طرف تقدير مكاسبه المتوقعة من العملية قبل توقيع العقد، ويمكن استخدام الاستصناع لتمويل العمليات الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة على الرغم من أنها من أكثر العقود ملائمة للعمليات الصناعية الصغيرة.
(4) المزارعة عقد من عقود المشاركة الزراعية يُقَدِّم فيها الطرف الأول أرضًا زراعية للطرف الثاني الذي يقوم بزراعتها، ثم يتقاسمون ناتج الأرض (المحصول) بينهما.
(5) المرابحة في الأصل هي عملية بيع بهامش ربح يُضاف إلى تكلفة انتاج السلعة أو الحصول عليها، ويجب أن يعلن البائع عن التكلفة بأمانة، ثم يُحَدَّد هامش الربح بالتفاوض والمساومة مع المشتري، وتقليديًا يقوم المشتري بعد ذلك بدفع الثمن وتسلم السلعة في الحال. أما في وقتنا الحاضر فقد تم تطوير العقد ليوافق البنوك الإسلامية. فبعد تحديد ثمن السلعة شاملاً هامش الربح فإن المشتري يدفع مقدم للبنك مع قبول الدفع على عدة أقساط تُسَوَّى في المستقبل. وقد أفاد التمويل بالمرابحة عددًا كبيرًا من المشروعات صغيرة الحجم، وقد تعرضت الممارسات الحديثة للمرابحات من قِبَل البنوك الإسلامية لمناقشات كثيرة اعتراضًا أو تأييدًا.
(6) يحتاج تطبيق هذه العقود المالية الإسلامية إلى الاجتهاد من قبل العلماء والفقهاء والخبراء والمتخصصين في أمور البنوك، فضلًا عن توافر موظفين لديهم دراية بالشريعة من جهة، والخبرة في الأعمال المصرفية من جهة أخرى. والوقت مطلوب لتحقيق كل هذا.