نافذة تاريخية: الرسوم الجمركية في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
تسبب توجه الإدارة الأمريكية في الفترة السابقة إلى تعديل سياسة الرسوم الجمركية في جدل واسع النطاق، حول جدوى فرض رسوم جمركية متباينة المقادير على دول مختلفة، بحسب اتجاه وطبيعة العلاقات ومدى العجز في الميزان التجاري فيما بين الولايات المتحدة وهذه الدولة أو تلك، كما تسبب في جدل عالمي حول الآثار المتوقع انتشارها في العالم بفعل تأثير الفراشة، فبفعل العولمة بات الاقتصاد العالمي كسطح الماء الذي تتداعى جميع أجزائه إلى أيِّ تأثُّر يقع في نقطة من محطيه، ويتوقف حجم هذا التداعي على مدى قوة التأثر الذي يحصل في النقطة المتأثرة.
إن هذا الهاجس الذي رفع الأصوات بأهمية التروي في فرض هذه الرسوم سواء من داخل الولايات المتحدة أو من خارجها؛ قد ألقى بظلاله على القواعد التي تحكُم هذا النوع من الضرائب، وعلى الهدف من وراء فرض هذه الرسوم، وجدواها بالنسبة للاقتصاد والمصلحة العامة، فلا ريب أن وراء فكرة الرسوم الجمركية أهدافًا وفلسفةً هي الحاكم وراء فرض هذه الرسوم، وهي العنصر الفاعل في تقدير سعرها، وتحديد الدول أو الفئات المستهدفة من ورائها، خاصة إذا تأكَّد أن هذه الرسوم من قبل الضرائب غير المباشرة أي: التي يسهل نقل عبئها إلى المستهلكين، وقد تُضّرُّ بالاقتصاد القومي وتؤدي إلى كساده في بعض الأحوال.
وفي هذا الصدد أذكر تاريخ ضريبة الرسوم الجمركية في الاقتصاد الإسلامي، مبيِّنًا لأسُسها الفلسفية وأهدافها الاقتصادية، بناءً على توصيفات الفكر الضريبي المعاصر، وذلك فيما يلي:
- عُرِفت الرسوم الجمركية في الاقتصاد الإسلامي باسم “العشور” جمع عُشْر، وكان أول من فرض هذه الضريبة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم استنَّ به من بعده، وقد ذكر الاقتصادي الفقيه أبو يوسف في كتابه الخراج أن أول من عُشِر من أهل الحرب أهل “منبج” وهم قوم من أهل الحرب فيما وراء البحر، كتبوا إلى عمر بن الخطاب أن دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا، فشاور عمر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فأشاروا عليه به، فكانوا أول من عُشِر من أهل الحرب.
ومنذ عهد عمر درجت الحكومات الإسلامية على تطبيق هذه الضريبة، واعتُبِر هذا التطبيق قاعدة تُراعى عند فرض هذه الرسوم، وتقديرها، وتحديد وعائها، وحجم الإعفاءات المتعلقة بها، ووضعت النظم على هذا الأساس فشيُّدت الموانئ في مختلف الجهات، وباتت هذه الضريبة جزءا مهمًّا من أدبيات الفكري الضريبي في الاقتصاد الإسلامي. - الأصل في سنِّ هذه الضريبة هو الرغبة في تأمين مرفق الأمن الداخلي، فهي تُفرض مقابل دفاع الإمام عن التجار وتأمين الطرق أمامهم، حيث إن التاجر ، مسلمًا كان أو ذميًّا، حين يخرج بماله للتجارة لابد له من السير في الصحارى، والمفاوز، أو استغلال الموانئ في العصر الحالي، وهو لا يأمن في ذلك اللصوص وقاطعي الطرق وربما لا يستطيع دفع الخطر عن ماله، ومن ثم فهو محتاج إلى حماية الإمام له وتأمين الطريق أمامه، ومن ثم ثبت للإمام حق أخذ العشور منه لأجل الحماية، وتأمين الدرب، بمد شبكات الطرق، ورصفها، ووضع نقاط الحماية لتأمين سلامتها على مدار السنة، كما تفعل الدول الحديثة.
- كانت هذه الضريبة تؤخذ بمقادير مختلفة بحسب المصلحة، فيلزم المسلم بربع العشر بدلا من زكاة ماله إذا لم يكن أخرجها، ويدفع الذمي نصف عشر قيمة بضاعته، وكان يؤخذ من غير المسلم الأجنبي ما يعادل 10% من قيمه أمواله التجارية في غالب الأحوال، إلا إذا أخذت دولته من التاجر المسلم – إذا دخل إقليمها – أكثر أو أقل من هذه النسبة وهي 10% ، فيؤخذ منه بقدر ما يؤخذ من المسلمين من باب المعاملة بالمثل.
- لا تُثنّى هذه الضريبة على المسلم؛ لأنها زكاة (ولا ثِنىً [تكرير الأخذ] في الصدقة)، وأما غير المسلم فهي محل اختلاف بين الفقهاء، هل يُعشَر مرة واحدة على المال الواحد؟ أم يتكرَّر تعشيره كلَّما مر على العاشر (الميناء، أو البوابات باللغة المعاصرة)، ولعل ذلك من أمور السياسة الشرعية التي تختلف باختلاف الأحوال واتجاه المصلحة، ونوَّه بعض الفقهاء إلى ضرورة أن يكتب العاشر كتابًا بما أخذه؛ ليكون وثيقة وحُجَّةً على من يمرون عليه، فلا يُعشِرهم ثانية، فإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه، أخذ من الزيادة؛ لأنها لم تعشر.
- اختلف الفقهاء في اعتبار النصاب في مال غير المسلمين، فبعضهم أطلق أخذ العشور دون تحديد لمقدار المال، وبعضهم اشترط النصاب في المال المجلوب، وذلك يعطي أساسا لما تأخذ به النظم حاليا من حد للإعفاء الجمركي على بعض السلع وبعض الكميات؛ تيسيرا على المكلفين ومراعاةً للحاجات الشخصية، وهذا الفقه هو الأليق بمسائل العشور، التي هي من المسائل الاجتهادية، التي ألحقت في الغالب بعشور تجارة المسلمين، فوجب الاعتبار بالنصاب، أو بمقدار معيَّن يشير إلى يسر حال من أخذ منه وفضلتها عن الحاجة.
- تتصف هذه الرسوم وفقا للقواعد الفلسفية لفرض الضرائب بالعدالة والملاءمة، والحاجة إليها، بما يجعلها سليمة المنطلق، مرجوة الأثر؛ حيث تُوجَّه لصالح تمويل مِرفَق الأمن وتيسير المبادلات، بتوفير المرافق العامة المناسبة، وحماية الاستثمار المحلي في حالة فرضها على السلع الواردة.
- تعتبر الرسوم الجمركية من قبيل الضرائب غير المباشرة، حيث تفرض على السلع وعروض التجارة، وبهذا يمكن نقل عبئها إلى آخرين برفع أسعار البضائع التي تفرضع عليها وتحميل عبئها للمستهلك الأخير.
- تعتبر الرسوم الجمركية ضريبة شخصية، حيث يراعى فيها شخص الممول، ويعفى فيها الحد الأدنى اللازم لمعيشته هو ومن يعولهم (النصاب)، كما يُعفى فيها الكثير من الأوعية؛ كالسلع التي ترتبط بالحاجة الشخصية، بالنظر إلى ظروف الممول الشخصية واعتبار حالته الاقتصادية.
- كانت في بدايتها ضريبة سنوية فلم تكن تُجبى إلا مرة واحدة في السنة من المسلم والذمي، فيدفعها التاجر المكلف بها مرة واحدة في العام، حتى لو مر بها في الحدود أكثر من مرة في السنة، [على قول الجمهور]. ويدفعها الأجنبي، كلما دخل الحدود الإسلامية ولو تكرر ذلك في نفس اليوم؛ لأنها قائمة على أساس مبدأ المعاملة بالمثل أو حماية المنتج المحلي.
- تمثِّل ضريبة نسبية فسعرها ثابت لا يتغير بزيادة العروض أو نقصها، ولا يؤثر على نسبيتها اختلاف مقاديرها من فئة إلى أخرى، أو من دولة إلى غيرها، فهي تبقى نسبة ثابتة تفرض في إجمالي قيمة مال التجارة.
لقد بسط هذا التطبيق العمري للضريبة الجمركية، أهم معالم الفقه الضريبي في الاقتصاد الإسلامي، حيث ربط الضريبة بالحاجة، وفرضها بمقادير عادلة، روعيت فيها المساواة، وتقررت حصيلتها لتحقيق المصلحة وتمهيد المرافق، وضبط الميزان التجاري. ما يعني من وجه مرونة هذا الفكر الاقتصادي الإسلامي وإدراكه لطرق جلب التمويل اللازم لحماية مرفقٍ أو تمويله.
ويعني من وجه آخر أن القريحة الاقتصادية المسلمة منذ بواكيرها قريحةٌ مرنة على التفكير الاستيراتيجي، قادرة على استضافة هياكل اقتصادية فاعلة، وفي هذا التطبيق العمري ما يشهد بذلك ويؤكد بشدة على أصالة الفكر الاقتصادي الإسلامي، واستشرافه للمصلحة بوجوه مختلفة، وعلى الطابع المؤسسي في بناء التشريعات ووضع النظم الاقتصادية.
مراجع للاستزادة:
أحكام المشكلات الضريبية، سلطان فهد الخنه، دكتوراه من كلية دار العلوم، 2020م/ الازدواج الضريبي، عطية عبد الحليم صقر، رسالة دكتوراه من جامعة الأزهر/ الأموال، المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ)، المحقق: خليل محمد هراس، الناشر: دار الفكر – بيروت/ الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري، الناشر : المكتبة الأزهرية للتراث، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد ، سعد حسن محمد/ السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف، الناشر: دار القلم، الطبعة: 1408 هـ- 1988م/ مبادئ المالية العامة، زكريا محمد بيومي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1979/ نظام الضرائب في الإسلام ومدى تطبيقه في المملكة العربية السعودية مع المقارنة، عبد العزيز العلي النعيم، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، ص: 1974.