الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية في مملكة البحرين (النشأة والتطور والتقييم)

بقلم الدكتور/ حمد فاروق الشيخ
رئيس إدارة التنسيق والتنفيذ الشرعي، وأمين سر ومقرر أعمال هيئة الرقابة الشرعية

مرَّت وظيفة الرقابة الشرعية بعدة مراحل منذ نشأة البنوك الإسلامية في البحرين عام 1979م إلى اليوم، وحدثت فيها تغييرات كثيرة، ويمكن تصنيفها وتلخيصها في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التقنين، وهي من عام 1979م إلى عام 1998م:

لم يكن في هذه المرحلة أيُّ تقنين أو معايير أو قواعد تنظِّم عمل مهنة ووظيفة المراقب الشرعي أو هيئات الرقابة الشرعية، وكان شأنها كشأن أي علم أو وظيفة جديدة، تبدأ بالممارسة ثم تمر بالتقعيد، وقد بدأت هذه الوظيفة في مملكة البحرين من خلال إنشاء لجنة الرقابة الشرعية في بنك البحرين الإسلامي قُبَيْل ﺗﺄسيس البنك في 1979م، حيث استفادت اللجنة من تجربة البنوك الإسلامية التي سبقتها في التأسيس – مثل بنك دبي الإسلامي، وبيت التمويل الكويتي – التي أنشأت لجنة أو هيئة للرقابة الشرعية وكذلك وظيفة المراقب الشرعي؛ لذا كانت الاجتهادات هي السمة البارزة في العمل، وكان التواصل بين البنوك الإسلامية الثلاث فاعلًا للحفاظ على التجربة وتطويرها.
وقد نصَّ النظام الأساسي لبنك البحرين الإسلامي على “التزام الشركة بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل ما يتَّصل بنشاطها من عقود ومعاملات، وبوجه خاص إلغاء الرﺑﺎ في جميع صوره ومسمَّياته صريحًا كان أم خفيًّا أو مشتَبهًا في أمره، ولها أن تستعين في ذلك بلجنة للرقابة الشرعية”.
ويُلاحظ من خلال الصيغة المنشورة عدم النص على إلزامية قرارات الهيئة كما هو العمل حاليًا.

الاجتماعات:

حَرِص أعضاء اللجنة على الاجتماع بشكل دوري لمناقشة القضايا الشرعية، وعلى التواجُد في جميع اجتماعات الجمعية العمومية؛ لتلاوة تقرير الهيئة والإجابة عن الاستفسارات الواردة من الحضور، بل كانت اللجنة تُبدِي أحيانا اعتراضاتها ومقترحاتها للإدارة التنفيذية وﻟﻤﺠلس إدارة البنك، وكان ترتيب اللجنة الإداري يُوازي أو يفوق في بعض الأحيان مجلس إدارة البنك، إذ كانت الهيئة تتبع الجمعية العامة مباشرة.
وقد سبقت مرحلة إنشاء بنك البحرين الإسلامي إقامة عدد من الاجتماعات، نظَّمها ثُلَّة من المشايخ الفضلاء من القضاة الشرعيين والعلماء الأجلاء من المتخصصين في فقه المعاملات من داخل وخارج البحرين، وقد أُطلِق على هيئة الرقابة الشرعية في أول عملها اسم “لجنة الرقابة الشرعية”، ثم تَغيَّر مسماها إلى “هيئة الرقابة الشرعية في العام 1999م، وذلك بُعيد صدور معيار الضبط لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية رقم (1) الخاص ﺑﻬيئة الرقابة الشرعية الصادر عام (1997م).
وقد كان عمل اللجنة مُقتِصرًا على الإجابة عن الاستفسارات الموجَّهة إليها من الإدارة أو الموظَّفين، ﺑﺎلإضافة إلى إقرار العقود والتدقيق عليها ومناقشة أهم المسائل المتعلقة ﺑﺎلبنوك الإسلامية، وكان عدد أعضائها خمسة من الفقهاء.
وقد بدأت اللجنة عملها الفعلي بعد صدور المرسوم الأميري بتأسيس البنك مباشرة، حيث كانت تجتمع في مقر المحكمة بوزارة العدل لمراجعة مُسوَّدة النظام الأساسي للبنك قبل التأسيس بعدد 3 اجتماعات تقريبًا، كما راقبت اللجنة عمليات استثمار الأموال المكتتب ﺑﻬا بعد الاكتتاب إلى افتتاح البنك، حيث اجتمعت بعد 3 أشهر تقريبا من الإعلان الرسمي عن ﺗﺄسيس البنك.

منهجية العمل:

عَمَد القائمون على البنك إلى أن تُشكَّل اللجنة من قبل علماء دين تضم علماء من المذاهب الشائعة في البحرين (الشافعي والمالكي والجعفري)، وكان منهج أعضاء اللجنة الشرعية الأخذ ﺑﺄي رأي لا يصطدم مع نص قاطع من الكتاب أو السنة وما أجمع عليه السلف الصالح ويراعي مصلحة الأمة، وهذا من منطلق القاعدة الفقهية التي تنص على أن الأصل في الأشياء والمعاملات الإﺑﺎحة.
أما بعد التأسيس فكان عمل لجنة الرقابة الشرعية يتمثَّل في أدوار المراجعة والرقابة الشرعية قبل التنفيذ ﺑﺈجراء مراجعة للعقود وإعدادها، ﺑﺎلإضافة إلى بعض أدوار التدقيق الشرعي على أعمال البنك بعد التنفيذ، عِلاوة على أداء دور الإجابة عن الاستفسارات الواردة من الموظَّفين أو الإدارة، وقد كان رئيس الهيئة يحضر بشكل أسبوعي للبنك لإجراء التدقيق الشرعي.
وكانت اللجنة تَعقِد أغلب اجتماعاﺗﻬا بشكل شهري في مقر محكمة الاستئناف العليا بوزارة العدل أو في غرفة الاجتماعات التابعة لمبنى البنك، وقد تعيَّن أول مراقب شرعي للبنك بدوام كامل ابتداء من العام 1983م، حيث كان عمله يقتصر على ممارسة بعض جوانب التدقيق الشرعي لبعض منتجات ومعاملات البنك وترتيب الاجتماعات بين موظفي البنك ولجنة الرقابة الشرعية، وتوثيق محاضر الاجتماعات.
ولم تختلف تجربة البنوك الإسلامية التي أُنشِئَت في البحرين عن تجربة بنك البحرين الإسلامي، إذ كانت هناك هيئة للرقابة الشرعية تجتمع بشكل دوري، ﺑﺎلإضافة إلى مُراقِب شرعي وحيد في بعضها، وخَلَت بعض البنوك من تعيين مراقب شرعي متفرِّغ، وكان التواصل واستفادة البنوك من تجارب بعضها أمرًا سائغًا تحتِّمه الضرورة لحداثة التجربة وعدم وجود المرجعية التي تستند عليها الهيئات الشرعية.

المرحلة الثانية: مرحلة التقنين الأولى، وهي من عام 1998م إلى عام 2017م:

أُصدِر في العام 1997م أول معيار من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لتعيين هيئة الرقابة الشرعية، ثم أنشئ في 1998م أول معيار ينظِّم الرقابة الشرعية الداخلية وهو (معيار الحوكمة رقم 3)، ثم معيار الرقابة الشرعية الداخلية في العام نفسه، ثم أصدر تعميم من وزارة التجارة ﺑﺈلزامية المعايير المحاسبية للأيوفي.
وقد أحدثت هذه المعايير نَقلةً نوعيَّةً في العمل الشرعي، حيث بدأت البنوك في إعداد اللوائح المنظِّمة لأعمال التدقيق الشرعي، وعُدِّلت بناء عليه الكثير من الإجراءات.
وفي هذه المرحلة توسَّعت أعمال الرقابة الشرعية، وبدأ التدقيق الشرعي ينحى منحىً مِهنِيًّا ﺑﺎستعمال التدقيق على كافَّة منتجات البنك، وإعداد التقارير اللازمة وخطط العمل، ومن جمع وفهرسة وتحديث العقود والقرارات، فصار قِسمًا متكاملًا ومستقلًّا ﺑﺎسم (التدقيق الشرعي الداخلي)، كما أصدرت الهيئات الشرعية لوائح داخلية تتضمن أعمالها وأدوارها.
ثم عَيَّنت البنوك الإسلامية مراقبًا شرعيًّا أو اثنين على الأكثر لأداء دور المراقب والمدقق الشرعي وأمانة سر الهيئة، وذلك دون الفصل بين الوظائف، كما شهدت هذه المرحلة تعيين المرأة لأول مرة في التدقيق الشرعي، وذلك في العام 2008م ، ثم تولَّت المرأة لأول مرة أمانة سر الهيئة في العام 2022م.
وتطوَّر في هذه المرحلة العمل الإجرائي وانتقل للاحترافية من خلال الأنظمة الاكترونية، واعتُمِدت الخُطط والتقييمات، وأُصدِرَت اللوائح الداخلية وأدلة السياسات، كما ظهرت الشهادات الاحترافية لأول مرة وتعدَّدت وتنافست الجهات التدريبية على إعداد تلك الشهادات؛ كشهادة المراقب والمدقق الشرعي CSAA التي أصدرتها هيئة المحاسبة (الأيوفي)، والماجستير المهني التي قدمها اﻟﻤﺠلس العام CIBAFI، وكذلك دبلوم الفقه التجاري ADICJ التابع لصندوق الوقف لمصرف البحرين المركزي بواسطة معهد البحرين للدراسات BIBF ، ابتداءً من العام 2012م، وكذلك ﺗﺄسَّس قسم لدراسة البكالريوس والماجستير في الصيرفة الإسلامية في جامعة البحرين.
وفي أواخر تلك المرحلة بدأت المناداة للفصل بين الوظائف، وتعدَّدت وجهات النظر حول التشكيلات الإدارية للرقابة الشرعية وتحديد أدوار الهيئات الشرعية، حيث كانت أغلب الإدارات بمسمَّيات إدارة التدقيق الشرعي.

المرحلة الثالثة: مرحلة الحوكمة، وبدأت منذ 2017 م إلى الوقت الحالي:

أصدر مصرف البحرين المركزي أول نظام ينظِّم عمل الرقابة الشرعية SG Module في العام 2017م، وتقرَّر أن يبدأ العمل به في العام 2018م، وفيه تم تحديد مهام الهيئات الشرعية، وفُصل فيه بين وظيفة الالتزام الشرعي والتدقيق الشرعي، كما استحدث التدقيق الشرعي الخارجي لأول مرة، ويعد هذا النظام نَقلةً نوعية في عمل الرقابة الشرعية حيث زاد من حوكمة الوظيفة وطوَّر منها.

التقييم:

مع التطور المشهود والمتميز الذي حل في وظيفة الرقابة الشرعية في مملكة البحرين، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى الكثير من الاهتمام والتطوير، ومع ريادة التجربة فيها إلا أنها لا تملك منافسة التطوُّر الذي شهدته عدد من البنوك الإسلامية في الدول اﻟﻤﺠاورة وتحديدًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وذلك لعدة عوامل أهمها: عدم رغبة إدارات البنوك الإسلامية زيادة الأعباء المالية عليها وزيادة عدد موظفي الرقابة الشرعية التي تعتبر إدارات طاردة للأرباح، بالإضافة إلى حركة الاندماجات والاستحواذات التي شهدتها ولا تزال تشهدها البحرين، مما أدى إلى تقلُّص عدد البنوك الإسلامية وأدى بالضرورة إلى تحجيم هذه الوظيفة.
ولا تزال الإدارات الشرعية تحوي الحد الأدنى لعدد الموظفين الذين يمارسون أدوار الرقابة والتدقيق الشرعي وأمانة سر الهيئة، بينما نجد في الدول اﻟﻤﺠاورة وجود مجالات أخرى ساهمت في تطوير العمل، كإيجاد أقسام لتطوير المنتجات الشرعية وهندستها التي تبدأ ببناء فكرة المنتج، وتقديمها للدراسات الشرعية، وأقسام لتكنولوجيا المعلومات، وأقسام للأبحاث والإصدارات والدراسات المالية الإسلامية.

كيف نعالج هذه الفجوة؟

تحتاج الإدارات الشرعية للعمل بشكل جِدِّي لتطوير الوظيفة، وذلك ﺑﺎلتنسيق مع الجهات المعنيَّة كالمصرف المركزي وغيره، وتتمثَّل الخطوات ﺑﺎلتالي:

  1. عقد ورش العمل للتعرُّف على الإشكالات والفجوات وتقييم نظام الحوكمة الحالي.
  2. تحديد الفجوات.
  3. صياغة آليات مُحكَمة ومتكامِلة وواضحة لتطوير الإدارات الشرعية وتوسعتِها.
  4. المعيرة والتقنين.
  5. منح الوقت للتجربة.
  6. التطوير والمراجعة الدورية.

ومع هذا فإن هذا الحل قد يصطدم ببعض العقبات والتحديات، منها: مدى اقتناع الإدارة التنفيذية بهذه الخطوات، وضعف الميزانيات المرصودة من البنوك، ومحدودية السوق المحلي والتمويلات والمنتجات؛ لذا فإنه يمكن التفكير خارج الصندوق، إذ ﺑﺎلإمكان أن تنشأ إدارة ﺗﺎبعة لصندوق الوقف التابع للمصرف المركزي تساهم في أمور البحث الشرعي وغيرها من المهام، وأرى أن مملكة البحرين بحاجة لهذا النوع من التطوير في ظل موجة الاندماجات الحاصلة في الوقت الحالي.

Comments are disabled.