الشركات متعددة الجنسيات ومفاسد السيطرة على الاقتصاد العالمي التكييف الفقهي والحكم الشرعي (2/4)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
تناولنا في المقال السابق بيان المقصود بالشركات متعددة الجنسيات، ونشأتها وأهدافها، وأماكن انتشارها الجغرافي حول العالم، وتنويع أنشطتها للسيطرة على الاقتصاد العالمي، ونبين في هذا المقال تكييفها الفقهي وحكمها الشرعي في ضوء أحكام الشركات في الفقه الإسلامي.
أولاً: التكييف الفقهي والحكم الشرعي:
الشركات متعددة الجنسيات في إطارها العام لا تخرج عن زمرة المشاركات في فقه المعاملات المالية الإسلامية، الذي هو عقد مشروع ما لم يقترن بمعاملة محرمة، والشركات متعددة الجنسيات وإن كانت مركبة من أكثر من صورة من صور المشاركات الشرعية، فإنها في الجملة جائزة مشروعة ما لم تقترن بمحرم أو تستثمر في مجالات محرمة، أو تتخذ ذريعة للتدخل في سيادة الدول، أو تكون سبيلاً للاحتكار المطلق، أو استغلال واستنفاذ موارد الدول النامية.
وتعد الشركات متعددة الجنسيات إحدى أنواع الشركات المساهمة، وتقوم بطرح أسهمها للاكتتاب بقيمة منخفضة؛ لجلب أكبر عدد ممكن من صغار المساهمين، وإلزامهم بالتوقيع على تفويض يمكِّن المؤسسين الكبار من السيطرة على إدارة الشركة، وذلك من خلال تركيز السلطة بأيديهم، فلا يستطيع صغار المساهمين التدخل في إدارة وقرارات الشركة.
أو من خلال طرح نوعين من الأسهم كما في النظام الإنجليزي، وهما الأسهم المصوتة للمساهمين الذين لهم حق الإدارة، والأسهم غير المصوتة للمساهمين الذين ليس لهم حق إدارة الشركة، وعلى هذه الصورة تكون الشركة متعددة الجنسية صورة من صور شركة المضاربة؛ لأن صغار المساهمين يقدمون فيها رأس المال، ويقوم المؤسسون من كبار المساهمين بإدارة هذه الأموال. (1)
كما يندرج عقد الشركات متعددة الجنسيات تحت المضاربة الجماعية أو المشتركة، التي بين مشروعيتها العلماء، قال الجويني: «في مقارضة الرجل رجلين، وفي مقارضة رجلين رجلاً: فإن قارض رجلان واحدًا على مالٍ مختلط بينهما، على نسبة معلومة، وشرط أحدهما للعامل من نصيبه النصف، وشرط آخر له من نصيبه الثلث، فهذا جائز، وهو كما لو أفرد هذا قراضًا معه على النصف، وهذا قراضًا آخر على الثلث. ولو شرطا نصف جميع الربح له من المالين، فجائزٌ حسن”. (2)
ولا خلاف حول جواز المضاربة بنوعيها: المطلقة والمقيدة، والمطلقة: أن يدفع مالاً لمن يضارب به دون قيد زماني أو مكاني أو تعيين العمل وصفته، والمقيدة على العكس من ذلك.
جاء في القرار رقم 130(4/14) لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، بشأن الشركات الحديثة:
أولاً: الشركات متعددة الجنسيات: هي شركة تتكون من مجموعة من الشركات الفرعية، لها مركز أصلي يقع في إحدى الدول، بينما تقع الشركات التابعة له في دول أخرى مختلفة، وتكتسب في الغالب جنسيتها. ويرتبط المركز مع الشركات الفرعية من خلال استراتيجية اقتصادية متكاملة تهدف إلى تحقيق أهداف استثمارية معينة.
ثانيًا: الأصل في الشركات الجواز إذا خلت من المحرمات والموانع الشرعية في نشاطاتها، فإن كان أصل نشاطها حرامًا كالبنوك الربوية أو الشركات التي تتعامل بالمحرمات؛ كالمتاجرة في المخدرات والأعراض والخنازير في كل أو بعض معاملاتها، فهي شركات محرمة لا يجوز تملك أسهمها ولا المتاجرة بها. كما يتعين أن تخلو من الغرر والجهالة المفضية للنزاع، وأي من الأسباب الأخرى التي تؤدي إلى بطلان الشركة أو فسادها في الشريعة.
ثالثًا: يحرم على الشركة أن تصدر أسهم تمتع أو أسهم امتياز أو سندات قرض.
رابعًا: في حالة وقوع خسارة لرأس المال، فإنه يجب أن يتحمل كل شريك حصته من الخسارة بنسبة مساهمته في رأس المال.
خامسًا: إن المساهم في الشركة يملك حصة شائعة من موجوداتها بمقدار ما يملكه من أسهم. وتبقى ملكية الرقبة له إلى أن تنتقل إلى غيره لأي سبب من الأسباب، من تخارج أو غيره. (3)
ثانيًا: العلاقة بين الشركاء في الشركة متعددة الجنسيات:
العلاقة بين الشركاء في الشركة متعددة الجنسيات تشتمل على نوعين من الشركات المعروفة في فقه المعاملات المالية الشرعية:
إحداهما: شركة العِنَان: ويتساوى فيها الشركاء في المال والربح والعمل، وهي من شركات المال المتفق على صحتها، قال ابن القطان: “وأجمعوا أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالاً مثل مال صاحبه دنانير أو دراهم، ثم يخلطان ذلك حتى يصير مالاً واحدًا لا يتميز، على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارات على أن ما كان فيه من فضل بينهما وما كان من نقصان فعليهما، فإن فعلا ذلك صحت الشركة، ثم ليس لأحد منهما أن يبيع ويشتري إلا مع صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر في ذلك بما رأى، فإن فعلا قام كل واحد منهما مقام الآخر، وانفرد بالبيع والشراء حتى ينهاه صاحبه” (4)، وهذا النوع قائم بين كبار المساهمين؛ لتساويهم فيما بينهم بالمساهمة في رأس المال والعمل.
والأخرى: شركة المضاربة: وتعني: اشتراك بدنين بمال أحدهما، أو بدن ومال، أو مالان وبدن صاحب أحدهما، وهي جائزة عند الجميع، والمضاربة شركة عقود بالإجماع ليست شركة أملاك؛ إذ المال لأحدهما والعمل للآخر (5)، ومثال ذلك: أن يدفع شخص لغيره مالاً يتجر فيه، والربح بينهما بنسبة يتفقان عليها، سواء كان النصف أو أقل أو أكثر، فهو جائز بلا خلاف بين العلماء. وأما خسارة المضاربة فتخصم من ربح المال إن وجد؛ لأن الربح تبع لرأس المال، فإن لم تربح الشركة فالخسارة من رأس المال؛ لأن المضارب أمين، فلا ضمان عليه ويخسر عمله وجهده ووقته…
وقد نقل الإجماع على مشروعية المضاربة ابن القطان بقوله: “وأجمع أهل العلم على إجازة القراض بالدنانير والدراهم. والمضاربة جائزة لاتفاق علماء الأمصار على إجازتها. واتفق الجميع على إجازتها بالدنانير والدراهم، فلا يجوز منها إلا ما اتفق العلماء عليه. واتفق العلماء على أن المضاربة سنة معمول بها قائمة… وأجمع أهل العلم على أن للمضارب أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو ربعه أو نصفه أو ما يتفقان عليه بعد أن يكون ذلك معلومًا جزءًا من أجزاء” (6)، وهذا النوع قائم بين المساهمين الصغار والمساهمين الكبار، وذلك بتقديم المساهمين الصغار لرأس المال وقيام المساهمين الكبار بتنميته وإدارته.
ثالثًا: حكم الشراكة بين المسلم وغير المسلم في الشركة متعددة الجنسيات:
لا يمنع اختلاف الدين قيام الشركة بين المسلم والكافر. واشترط المالكية والحنابلة ألا ينفرد الكافر بالتصرف؛ لأنه يعمل بالربا ولا يحترز مما يحترز منه المسلم.
قال الحنابلة: وما يشتريه الكتابي أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسدًا وعليه ضمانه.
وقال المالكية: شركة الذمي لمسلم صحيحة بقيد حضور المسلم لتصرف الكافر. وأما عند غيبته عنه وقت البيع والشراء فلا يجوز، ويصح بعد الوقوع. وبعد ذلك إن حصل للمسلم شك في عمل الذمي بالربا استحب له التصدق بالربح فقط؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ [البقرة: 279]، وإن شك في عمله بالخمر استحب له التصدق بالربح ورأس المال جميعًا لوجوب إراقة الخمر على المسلم. وإن تحقق وجب التصدق. وذكر الحنابلة أن الذمي المجوسي تكره مشاركته أصلاً وتصح بالقيود السابقة.
والشافعية يعممون الكراهة في مشاركة كل كافر.
أما الحنفية فإنهم اشترطوا في شركة المفاوضة خاصة التساوي في الدين، فتصح بين مسلمين، وبين نصرانيين، ولا تصح بين مسلم ونصراني؛ لأن من شرطها التساوي في التصرف؛ لأن الكافر إذا اشترى خمرًا أو خنزيرًا لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالة من جهته، فيفوت شرط التساوي في التصرف. وأجازها أبو يوسف مع الكراهة، وعلل الكراهة بأن الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود. وأما بين كافرين مختلفي الملة؛ كيهودي ونصراني فتصح عند الحنفية. وأما شركة العنان فتصح بين المسلم والكافر أيضًا. كما تصح شركة المضاربة بينهما أيضًا. (7)
وعلى هذا فالكراهة والمنع من بعض أنواع الشراكة بين المسلم والكافر مقصوده المنع من الوقوع في المتاجرة بالمحرمات، فإذا كان التصرف في أعمال الشركة يتم بعلم واطلاع المسلم على تصرفات الشريك غير المسلم زال الإشكال فلا كراهة، وتكون الشركة جائزة.
وأما في ظل التقدم التقني والاقتصادي الذي نعيشه، حيث يسهل الاطلاع على نشاط الشركات من خلال السجلات التي تبين نشاطها، وتظهر أعمالها اليومية بصورة تفصيلية دقيقة؛ مما يتيح للشريك المسلم الاطلاع على كافة أنشطة الشركة؛ ليتأكد من خلوها من المحرمات.
رابعًا: الترجيح بين الآراء الفقهية في الشركات متعددة الجنسيات:
وعلى هذا فالشركات متعددة الجنسيات تعد شركة عِنَان من وجه، حيث إن أي تصرف من أحد الشركاء يلزم بقيتهم. وشركة مضاربة مشتركة ومطلقة من وجه آخر، حيث يختص المديرون التنفيذيون باتخاذ قرارات إدارة أصول الشركة، وأما باقي المساهمين فلا يتدخلون في تلك القرارات.
وعلى هذا فالشركات متعددة الجنسيات -في أصلها- جائزة ومشروعة عند عامة الفقهاء؛ لأن الأصل في المعاملات المشروعية والإباحة. فهي مشروعة من حيث الصورة الظاهرة، كعقد مركب من شركتي العنان والمضاربة؛ إذا لم يكن بالشركة تعامل بالربا أو تمويل للاتجار بالمحرمات ونحوها.
هذه هي الصورة الظاهرة للمعاملة، لكن يدخل في تكييف الحكم الشرعي لهذه الشركات بعض الأبعاد التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند الحكم على عمل هذه الشركات، ومنها:
- تحكم من يملكون الأغلبية من رأس المال في إدارة وقرارات الشركة بدون اعتبار لعدم موافقة باقي الشركاء على ذلك.
- الهدف من إقامة هذه الشركات هو السيطرة على الاقتصاد العالمي، والقضاء على المنافسين، وكل ذلك يطعن في ممارسات هذا النوع من الشركات.
- أن هذه الشركات تقوم على الاحتكار والقضاء على المنافسين، والاحتكار حرمته الشريعة الإسلامية.
- تستنفذ الشركات متعددة الجنسيات موارد الدول النامية التي لا يمكنها مواجهتها؛ لأنها تحتكر الإنتاج والتصنيع في مجالات اقتصادية متنوعة.
هذه هي الشركات متعددة الجنسيات من حيث تكييفها الفقهي وحكمها الشرعي، وأما الآثار السلبية للشركات متعددة الجنسيات على اقتصادات الدول النامية، وخطورتها على كل أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وانعكاساتها على أهداف التنمية المحلية، فهي موضوع المقال التالي.
(1) انظر: الشركات المتعددة القوميات، لحسام عيسى: 73-76، 210، الشركات متعددة الجنسيات وسيادة الدولة، لإبراهيم محسن عجيل، ط1 مركز الكتاب الأكاديمي-الأردن 1435هـ/2015م: 41-42.
(2) نهاية المطلب في دراية المذهب، ط1 دار المنهاج-جدة 1428هـ/2007م: 7/543.
(3) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي: 445-449.
(4) الإقناع في مسائل الإجماع: 2/181.
(5) انظر: المغني، لابن قدامة: 5/9، مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 30/74.
(6) الإقناع في مسائل الإجماع: 2/198-200.
(7) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/337، بدائع الصنائع، للكاساني: 6/81-82، كفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي: 2/162، نهاية المحتاج: 5/5، المغني، لابن قدامة: 5/109، الموسوعة الفقهية الكويتية: 2/312-313.