الشركات متعددة الجنسيات ومفاسد السيطرة على الاقتصاد العالمي الآثار السلبية على اقتصاد الدول النامية (3/4)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
تعد الشركات متعددة الجنسيات أحد الأشكال الرئيسية التي يتخذها الاستثمار الأجنبي المباشر للانطلاق نحو أسواق جديدة، وقد أسهمت هذه الشركات في تطوير وانتشار “العولمة الاقتصادية القائمة على استراتيجية رأس المال المعولم، هذه الاستراتيجية الهادفة إلى تعميق العولمة الاقتصادية وسيادة السوق عالميًّا، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية؛ لإخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكية المعولم. (1)
كما أنها تسعى لتحقيق الحرية المطلقة لحركة انتقال رؤوس الأموال وإغراق السوق بالسلع الاستهلاكية، كما أصبحت تشكل قوة وسلطة مالية واقتصادية كبيرة في الاقتصاد العالمي، وتحتل مكانة كبيرة في البلدان النامية، تمكنها أحيانًا من الحد من نفوذ ودور الدولة، وتسمح لها بالتدخل في شئون الدول النامية، كما أنها تلعب دورًا كبيرًا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد تناولنا في المقالين السابقين المقصود بالشركات متعددة الجنسيات، ونشأتها وأهدافها، وأماكن انتشارها الجغرافي حول العالم، وتكييفها الفقهي وحكمها الشرعي في ضوء أحكام الشركات في الفقه الإسلامي، ونبين في هذا المقال تأثير الشركات متعددة الجنسيات على اقتصاديات الدول النامية.
فقد أدى نشاط هذه الشركات لنتائج سلبية في مختلف مجالات الحياة خاصة النشاط الاقتصادي الذي يعكس مدى نجاح السياسات الاقتصادية بالدول النامية، وأثرها على التنمية الاقتصادية، فهذه الشركات تأخذ أكثر مما تعطيه أضعافًا مضاعفة. ومن هذه الآثار السلبية ما يلي:
أولاً: الآثار السلبية للشركات متعددة الجنسيات على التنمية في الدول النامية:
فقد كان للشركات متعددة الجنسيات أثر بارز في تحقيق طفرة تنموية في بعض الدول النامية، وبخاصة في جنوب شرق آسيا؛ مثل كوريا الجنوبية وسنغافورا، وذلك من خلال نقل بعض العمليات الإنتاجية لهذه الشركات في تلك الدول، وقيام هذه الدول بالتخصص في ذلك؛ مما أدى إلى خلق فرص عمل وتحسين مستوى دخل الأفراد، وإتاحة الفرصة للشركات المحلية للتصدير للأسواق الخارجية بمساعدة تلك الشركات، لكن في معظم البلاد النامية لم يكن لممارسات الشركات متعددة الجنسيات أثر في دفع عملية التنمية، حيث لم تستطع الشركات المحلية في البلاد النامية من مواجهة المنافسة الشديدة من جانب أفرع الشركات متعددة الجنسيات.
ويلاحظ تسابق الدول النامية لتقديم التسهيلات والحوافز لهذه الشركات؛ كالإعفاءات الضريبية وتخفيض الرسوم الجمركية والتحرر من القيود التنظيمية على تحويل أرباحها للبلد الأم، والسماح لها باستيراد ما يلزمها من مواد وسلع دون ضرائب أو رسوم.
وقد “قدر صندوق النقد الدولي أن حوالي (10%) من إيرادات الموازنة الكلية لبعض الدول المستضيفة للاستثمارات الأجنبية يمكن أن تقل بسبب المزايا الضريبية باسم إجراءات تشجيع الاستثمار”. (2)
وتستثمر هذه الشركات في الدول النامية بشروط مجحفة في حق الدول النامية؛ وبما يحقق أرباحًا كبيرة للشركات متعددة الجنسيات، ويهدد الاستقلال الاقتصادي للدول النامية، ويستنزف مواردها الوطنية، ويضعف إمكانات التنمية الذاتية فيها، ويخفض معدل نمو دخل أفرادها.
فضلاً عن تراكم الديون على هذه الدول التي تسعى إلى تجاوز مأزق خدمة ديونها، بزيادة إنتاج وتصدير المواد الخام للحصول على العملات الأجنبية؛ مما يسرع في تدهور أسعار هذه الصادرات وانتعاش اقتصادات الدول الصناعية المستوردة لها. (3)
فتحرص الشركات متعددة الجنسيات على استمرار التخلف التكنولوجي في التصنيع في الدول النامية بقدر المستطاع؛ لتظل سوقًا رائجة لمنتجات هذه الشركات، ولتحقيق ذلك تمتنع هذه الشركات من تزويد الدول النامية بالتقنية التكنولوجية ورأس المال؛ لئلا تتمكن من استثمار مواردها بنفسها، وتظل الدول النامية منحصرة في الصناعات الاستخراجية التي تخدم أغراض التصدير للدول الصناعية الكبرى؛ التي ستصدر السلع المصنعة للدول النامية بعد ذلك بأسعار باهظة.
أضف إلى ذلك التشويه لأنماط الإنتاج والاستهلاك، وسوء تخصيص الموارد، وسوء توزيع الدخل؛ لأن السلع والخدمات التي تركز عليها الشركات متعددة الجنسيات هي التي تحقق الربح السريع المتناسب مع أذواق الفئة المستهلكة ذات الدخل المرتفع من المجتمع، ويؤدي انتشار هذا النوع من الإنتاج الترفي إلى تشويه الأنماط الاستهلاكية لعدد جديد من أبناء المجتمع، وتناقص القدرة على الادخار بسبب ارتفاع حجم الإنفاق الاستهلاكي الترفي في المجتمع؛ وما يترتب على ذلك من زيادة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين طبقات المجتمع.
ثانيًا: التحكم في تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية:
يمكن للشركات متعددة الجنسيات بما لديها من موارد مالية ضخمة سد الفجوة بين احتياجات الدول النامية من رؤوس الأموال اللازمة لتمويل المشروعات التنموية، وبين حجم المدخرات أو الأموال المتاحة محليًّا.
لقد انسابت للدول النامية خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي رؤوس أموال بلغت أكثر من (62) بليون دولار، ووصل مجموع الأرباح التي حولتها تلك الاستثمارات إلى (140) بليون دولار خلال الفترة نفسها؛ مما يعني أن كل دولار استثمرته هذه الشركات قد أعطى (2,3) دولار (4)، فيما يسمى بظاهرة التدفق العكسي لتدفقات الأموال.
إن ما تملكه الشركات المتعددة الجنسيات من أصول وأموال واحتياطات ضخمة تصبح قادرة على تعبئة أكثر من (250) مليار دولار، وأن تنقل من بلد لآخر ما بين (30-50) مليار دولار بهدف المضاربة؛ مما قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية في هذه الدول. (5)
ثالثًا: التحكم في التجارة العالمية، والتأثير على ميزان المدفوعات:
حيث تتحكم الشركات متعددة الجنسيات في التجارة العالمية للمواد الأولية، وخاصة الخامات المعدنية عن طريق التحكم في العمليات الاستخراجية، وكذلك التسويقية، وتوجيه الصادرات الصناعية للدول المتقدمة، سواء بتصنيعها مباشرة أو من خلال العمليات التسويقية لها. وأما الواردات الصناعية للدول النامية التي تمارس فيها الشركات متعددة الجنسيات أنشطتها فتدور حول السلع الرأسمالية وقطع الغيار والسلع الاستهلاكية، والسلع الغذائية في شكلها الخام. (6)
ويؤثر نشاط الشركات متعددة الجنسيات سلبيًّا على ميزان المدفوعات في الدول النامية؛ بسبب التحويلات الرأسمالية اللازمة للاستثمار المباشر يقابلها على الجانب السلبي تحويل عائد الاستثمارات القائمة؛ فضلاً عما يؤدي إليه نشاط فروع هذه الشركات من زيادة واردات الدول المضيفة من السلع الوسيطة والخدمات. كما أن الاستثمار الأجنبي لا يعني بالضرورة تشييد مشروع جديد، وإنما الاستيلاء على مشاريع وطنية قائمة، وخلق أنماط جديدة للاستهلاك في الدول المضيفة.
يضاف إلى ذلك أن الشركات متعددة الجنسيات تقوم بتحويل كل عوائد استثماراتها في الدول النامية للدول الكبرى، ويتجمع الفائض بيد قلة في الشركة الأم على حساب مئات ملايين المحرومين، بل تعتمد بعض هذه الشركات في توسيع أنشطتها المحلية على إعادة استثمار جزء من أرباحها المحققة محليًّا.
فضلاً عن دفع العوائد على التمويل الوارد لتلك الشركات من البنوك إلى الخارج، وارتفاع سعر الفائدة في الأسواق العالمية لرأس المال، وارتفاع أجور العاملين والخبراء والفنيين في هذه الأسواق، ودفع مقابل براءات الاختراع والمعونة الفنية، وكذلك تحويل جزء من مرتبات العاملين والخبراء الأجانب في هذه المشروعات لذويهم بالخارج.
كما أن الدولة المضيفة لا تستطيع إجبار فروع الشركات متعددة الجنسيات العاملة بها على زيادة صادراتها؛ لتحسين وضع ميزان المدفوعات بها؛ لأن صادرات الفرع محددة من الخارج من الشركة الأم.
وكل ذلك يمثل عبئًا كبيرًا على كاهل الدول النامية المستضيفة للشركات متعددة الجنسيات؛ يؤدي إلى تضخم إجمالي مدفوعات خدمة الاستثمارات الأجنبية للشركات متعددة الجنسيات في الدول النامية.
هذا جزء يسير من الآثار السلبية للشركات متعددة الجنسيات على اقتصادات الدول النامية، ونستكمل بقيتها في المقال التالي.
(1) انظر: صراع الحضارات أم حوار الثقافات، د. سمير أمين، ومجموعة باحثين، ط1 دار التضامن 1417هـ/1997م: 76.
(2) دور السياسة المالية الإسلامية في تحقيق التنمية الاقتصادية، التوزيع العادل للدخول، التنمية الاجتماعية، د. السيد عطية عبد الواحد، ط1 دار النهضة العربية-مصر 1413هـ/1993م: 287-288.
(3) انظر: العلاقات الاقتصادية الدولية، لهدسون جون، وهرندر مارك، ترجمة: منصور طعمة، ط1 دار المريخ-السعودية 1407هـ/2007م: 734، فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، لهارل شومان، وهاتز بيترمان، ترجمة: د. رمزي زكي، ط1 دار عالم المعرفة-الكويت 1423هـ/2003م: 20، الرأسمالية تحدد نفسها، لفؤاد مرسي، ط سلسلة عالم المعرفة-الكويت 1410هـ/1990م: 392-393.
(4) انظر: السياسات التصحيحية والتنمية في الوطن العربي، لزكي رمزي، ط1 دار الرازي-بيروت 1409هـ/1989م: 35.
(5) انظر: العولمة الإقليمية ونظرية الأمن الاقتصادي، لمدين علي، ط مجلة دراسات استراتيجية-السنة الثالثة-عدد (8)-دمشق 1423هـ/2003م: 176-177.
(6) انظر: الشركات دولية النشاط، د. إسماعيل صبري عبد الله، كتاب الأهرام الاقتصادي-القاهرة 1410هـ/1990م: 128.