الشركات متعددة الجنسيات ومفاسد السيطرة على الاقتصاد العالمي المفهوم والنشأة والانتشار الجغرافي (1/4)

الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

أصبحت الشركات متعددة الجنسيات في عصرنا من أهم أنواع الشركات في الاقتصاد العالمي؛ لسيطرتها على الكثير من مجالات التجارة الدولية؛ مما يكشف عن أهميتها عالميًّا، وأثرها الواضح على جميع دول العالم وخصوصًا الدول النامية.
وغدت هذه الشركات من أهم وسائل نشر العولمة الاقتصادية، وإغراق الأسواق العالمية بالسلع الاستهلاكية، ونقل رؤوس الأموال والتكنولوجيا حول العالم، عن طريق الشركات الوليدة المتفرعة عن الشركة الأم.
وتسعى هذه الشركات للسيطرة على الأسواق العالمية؛ بتوسيع تواجدها في جميع الدول، واحتكار القدرة على المنافسة، والقضاء على المنافسين المحليين في الدول المضيفة، والاستفادة من انخفاض تكاليف عناصر الإنتاج، والإعفاءات الضريبية والجمركية على منتجاتها.
ونتناول في هذه المقالات بيان المقصود بهذه الشركات، ونشأتها وانتشارها الجغرافي حول العالم، والموازنة بين مصالحها ومفاسدها، وحكمها الشرعي في ضوء أحكام الشركات في الفقه الإسلامي، وآثارها على اقتصاديات الدول النامية.

أولاً: مفهوم الشركات متعددة الجنسيات:

الشركة: عقد يقتضي ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع بشروط مخصوصة. (1)
والشركة متعددة الجنسيات: (Multinational Corporation): هي شركة تمارس نشاطها في بلاد عديدة، وتكون إدارتها وملكية رأس المال فيها متعددة الجنسية، وتأخذ شكل مجموعة شركات مساهمة (2). أو هي شركة أُم تسيطر على مجموعة من الشركات الوليدة التي تتولى الاستثمار الدولي المباشر في الدول المتعددة، وتخضع لنظم قانونية متباينة وتتمتع بجنسيات مختلفة، وتعمل في إطار خطة اقتصادية دولية موحدة تضعها الشركة الأم. (3)
ويتبين من التعريف السابق أن الشركات متعددة الجنسيات ليست شركة واحدة بل مجموعة شركات تعمل كل منها في دولة مختلفة، وتخضع ملكية هذه الشركات لسيطرة جنسيات متعددة، ويديرها أشخاص من جنسيات متنوعة، وتمارس أنشطتها في العديد من الدول، وأما الاستراتيجيات والسياسات والخطط فيقررها المركز الرئيسي الموجود في الدولة الأم، ويتجاوز نشاط هذه الشركات الحدود ليتوسع نشاطها في العديد من الدول المضيفة، كما تتمتع بقدرة وحرية كبيرة في تحريك ونقل الموارد، وعناصر الإنتاج، والتكنولوجيا بين مختلف الدول.

ثانيًا: النشأة والانتشار الجغرافي للشركات متعددة الجنسيات:

تعود نشأة الشركات متعددة الجنسيات إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، وتعد شركة سنجر الأمريكية أول شركة تستحق هذا الوصف، حيث أقامت في سنة 1867م مصنعًا لها في مدينة )جلاسكو(، وتبعته بفروع أخرى في النمسا وكندا، وقامت بتصنيع نفس السلعة، وتحت نفس الاسم التجاري في بلاد العالم المختلفة، ومن ثم حذا حذوها شركات أخرى أمريكية مثل (ITT) للمواصلات السلكية واللاسلكية، وشركة) كوداك (لآلات التصوير، وشركة )فورد (لصناعة السيارات، وغيرها من الشركات، مما جعل الشركات الأمريكية هي الرائدة والمستحوذة على نسبة كبيرة في هذا المجال، ثم تبعتها الشركات الأوربية مثل شركة )ليفر ( لصناعة الصابون، وشركة )نستله( السويسرية للأغذية. (4)
ويقع المركز الرئيسي لثلث الشركات متعددة الجنسيات في أمريكا (33%)، والثلث الثاني يقع في أربعة دول: “اليابان 12%، والصين 10%، وبريطانيا 5%، والهند 4%”، والثلث الثالث (36%) ينتشر في دول أخرى من العالم. (5)
وتستخدم الدول المتقدمة هذه الشركات كوسيلة للسيطرة الاحتكارية الاقتصادية على الكثير من دول العالم، واستنزاف ثروات الدول النامية ومواردها الطبيعية، في ظل اقتصاد السوق الذي يسيطر على الاقتصاد العالمي، واتفاقية الجات التي فتحت الحدود على مصراعيها أمام هذه الشركات؛ مما أسهم في امتداد نشاطها لسائر القطاعات الاقتصادية بمختلف الدول، والسيطرة على حصة كبيرة من التجارة العالمية، حتى أصبح حجم مبيعاتها يفوق حجم الناتج القومي لكثير من الدول، وباتت تملك أصولاً مالية تقارب إجمالي الناتج المحلي لكل دول العالم، وأصبحت ذات تأثير كبير في التجارة العالمية، والجزء الأكبر من صفقات التجارة العالمية تتم فيما بين هذه الشركات وبعضها البعض.
فالشركات متعددة الجنسيات في جانبها القانوني” تقوم على وجود مجموعة من الشركات ذات الاستقلالية القانونية والذمة المالية الخاصة، وهذه الشركات بمجموعها تكوّن الشركة متعددة الجنسية، وتخضع هذه الشركات ذات الصفة القانونية المنفصلة والذمة المالية الخاصة للسيطرة الاقتصادية أو القانونية التي تمارسها الشركة الأم، وذلك بملكية جزء كاف من رأس مال هذه الشركات بالسيطرة عليها أو باحتكار تكنولوجيا لا تملكها هذه الشركات وتحتاج إليها، وبدونها لا تستطيع إخراج المنتج إلى الوجود، وهذا ما يسمى بالسيطرة الاحتكارية”. (6)
وتشير التقديرات إلى أن عدد الشركات المتعددة الجنسيات عام 2016م تجاوز (65) ألف شركة حول العالم، وقرابة (850) ألف شركة أجنبية تابعة لها في أنحاء العالم، وحازت الدول المتقدمة على نسبة (77%) من إجمالي الشركات متعددة الجنسيات.
وقد توصلت دراسة سويسرية إلى أن حوالي (147) شركة متعددة الجنسيات تتحكم في الاقتصاد العالمي بأكمله. (7)

ثالثًا: تنوع الأنشطة والمجالات لتحقيق السيطرة الاقتصادية وتجنب الخسائر:

حيث تحرص الشركات متعددة الجنسيات على تنويع أنشطتها ومجالاتها في أكثر من منتج وخدمة وسلعة لا رابط بينها؛ كالأعمال المصرفية والسياحة وشركات الهاتف والصناعات الثقيلة وغيرها؛ لتجنب احتمالات الخسارة بأقصى درجة ممكنة من الاحتياط؛ ولتعويض الخسارة إذا وقعت في أي مجال من المكاسب المحققة في بقية المجالات، وذلك بغرض تعزيز الموقف المالي لهذه الشركات؛ للتمكن من السيطرة على التجارة الدولية، ثم الاقتصاد العالمي بالتبعية. “وخير مثال على ذلك شركة ميتسوبيشي العالمية، فهي تمتلك شركة لإنتاج السيارات والأدوات الكهربائية والصناعات الثقيلة بخلاف الأنشطة المصرفية وهذا التنوع يساعد على التقليل من احتمالات الخسارة إلى أقصى حد، وهذه الشركات تخطت النمط التقليدي الذي كان يركز على إنتاج سلعة رئيسية معينة إلى الكثير من الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وعمومًا فقيام الشركات متعددة الجنسيات بتنويع أنشطتها يرجع إلى الرغبة الجامحة لهذه الشركات في السيطرة على التجارة الدولية والتي تضمن لها سيطرة متزايدة على الاقتصاد العالمي. (8)
وبهذا أصبحت الشركات متعددة الجنسيات تسيطر على أهم الأنشطة الاقتصادية في العالم، وتعاظم نفوذها حتى صارت تشكل القوة المحركة للنظام الاقتصادي والسياسي الدولي.
هذه هي الشركات متعددة الجنسيات من حيث المفهوم والنشأة والأهداف والانتشار الجغرافي حول العالم، وتنويع أنشطتها للسيطرة على الاقتصاد العالمي، وأما التكييف الفقهي والآثار السلبية للشركات متعددة الجنسيات على اقتصادات الدول النامية، وخطورتها على كل أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وانعكاساتها على أهداف التنمية المحلية، فهو موضوع المقالات التالية.

(1) انظر: غاية البيان شرح زبد ابن رسلان، لمحمد بن أبي العباس شهاب الدين الرملي، ت: ١٠٠٤هـ، ط دار المعرفة-بيروت: 206.
(2) الشركة متعددة الجنسية آلية التكوين وأساليب النشاط، د. دريد محمود علي، ط1 منشورات الحلبي-بيروت 1429هـ/2009م: 20.
(3) الشركات المتعددة القوميات-دراسة في الأوجه القانونية والاقتصادية للتركز الرأسمالي المعاصر، لحسام عيسى، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت 1410هـ/1990م: 36.
(4) انظر: الشركات متعددة الجنسية، لسمير كرم، ط1 معهد الإنماء العربي-بيروت 1967م: 13-19، الشركة متعددة الجنسية، د. دريد محمود علي: 49، الشركات المتعددة القوميات، لحسام عيسى: 21-22.
(5) راجع موقع: https://ar.wikipedia.org/wiki/.
(6) الشركة متعددة الجنسية آلية التكوين وأساليب النشاط، د. دريد محمود علي: 26.
(7) انظر: الشركات متعددة الجنسيات وأثرها على الدول النامية، لأحمد عبد العزيز وآخرين، مجلة الإدارة والاقتصاد، العدد (85) 2010م، وراجع موقع: https://www.swissinfo.ch/ara/business.
(8) انظر: أهمية ودور الشركات متعددة الجنسيات في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، د. كريم نعمة-جامعة فيليكو ترنفو-بلغاريا: 1-5.

Comments are disabled.