الشريعة وتحريم أكل أموال الناس بالباطل

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن تحريم أكل المال بالباطل قد قامت عليه أدلة كثيرة ومتنوِّعة من النقل والعقل والأثر والنظر، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
والمراد بقوله تعالى: “وَلاَ تَأْكُلُواْ” ليس هو الأكل خاصَّةً؛ لأن غير الأكل من التصرُّفات كالأكل في الحرمة كذلك في هذا الباب، وإنما عبَّر بالأكل؛ لكونه المقصود الأعظم من المال، وبه يحصل إتلافه غالبًا، كما أنه قد وقع التعارُف بين الناس على أن يقال لمن ينفق ماله: إنه قد أكله.
والمراد بقوله: “بالباطل“: “ما لا يحل شرعًا ولا يُفيد مقصودًا”؛ لأن الشرع نهى عنه ومنع منه، وحرَّم تعاطيه؛ كالربا، والغرر ونحوهما، قال ابن العربي: (وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا)(1).
والآيتان تعدَّان من قواعد المعاملات، وأساس الـمُعاوضات، وهما الأصل في حفظ الأموال، وهما تتناولان جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنَّهي عن أن يأكُل بعضهم مال بعض بغير حق. أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية؛ كأنواع القمار، والخداع، والربا، والغُصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرَّمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي(2)، وحلوان الكاهن(3)، وأثمان الخمور والخنازير، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحِيَل وإن ظهرت في قَالَب الحكم الشرعي، مما يَعلَم الله أن متعاطيَها يريد الحيلة على إيتاء المحرم.
ومن صُوَر أكل المال بالباطل: أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مُبْطل، فالحرام لا يصير حلالًا بقضائه؛ لأنه إنما يقضي بالظاهر، قال قتادة: (وَاعْلَمْ يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُحِلُّ لَكَ حَرَامًا، وَلَا يُحِقُّ لَكَ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِنَحْوِ مَا يَرَى، وَيَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ، وَالْقَاضِي بَشَرٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ قَدْ قُضِيَ لَهُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ خُصُومَتَهُ لَمْ تَنْقَضِ حَتَّى يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقْضِي عَلَى الْمُبْطَلِ لِلْمُحِقِّ، وَيَأْخُذُ مِمَّا قُضِيَ بِهِ لِلْمُبْطِلِ عَلَى الْمُحِقِّ فِي الدُّنْيَا)(4). ويرى القرطبي أن هذا إجماعٌ في الأموال(5).
ومستَند هذا الكلام قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا»(6).
فالأكل المنهى عنه إذًا هو ما كان حصول المال فيه من غير جُهدٍ يُبذل، ومن غير عِوَضٍ يقابله، ومن غير طيب نفس راضية؛ لأن اكتساب المال إذا تجرَّد عن هذه المعاني والأسباب، التي هي بذل المجهود ودفع العوض أو الهبة والتبرع بالمال، خرج عن المشروع، ومن هنا جاء استثناء التجارة المبنية على التراضي؛ لأنها منبثقة من المعاني السابقة.

أثر العدوان على الأموال على الفرد والمجتمع:

  1. اختلال أوضاع المجتمع: وقد بيَّن سبحانه وتعالى أن فساد التعامُل الناتج عن أكل الأموال بالباطل يؤدِّي إلى ضياع الأمة وفساد أمورها، واضطراب أحوالها ونظام معيشتها، حتى إن الأمم التي يباح فيها مثل هذا التعامُل كأنما تقتل نفسها بجعل المادِّيَّة الشَّرسة تُسيطِر على حياتها؛ ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. فكان من رحمته تعالى أن جعل التعامُل قائمًا على أساس الجهد الـمُثمِر، والتعويض المجزئ، وطيب النفس.
  2. تحريم الطيبات: فلما كان أكل الأموال بالباطل من الكبائر، جعله الله واحدًا من الأمور التي حرَّم بسببها طيبات قد أُحِلَّت لليهود، حيث قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160، 161].

تشديد الإسلام في العدوان على أموال اليتامى:

من تمام حِرصِ الشَّريعة على حَسْمِ مادة أكل المال بالباطل أنها أولت اهتمامًا خاصًّا لأعظم صُوَرِه وأخطرها، وهي المتمثِّلة في أكل أموال اليتامى ظُلمًا، ومناسبة التخصيص ظاهرة في مراعاة كمال ضعف اليتامى، وعجزهم عن الانتصار لأنفسهم، وتأكُّد الأطماع في أموالهم، فاستحقُّوا بذلك من الله مزيد العناية والكرامة؛ ولهذا المعنى جاء النهي عن أكل أموال اليتامى ظُلمًا مؤكَّدًا آيات متعددة، مقرونًا في كثيرٍ منها بالوعيد الشديد.
فقال تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]. وقال عز من قائل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6].
ثم ذكر بعد هذه الآيات آيةً مُفردةً في وعيد من يأكُل أموالهم ظُلمًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وقد عَلَّق الرازي على هذه الآيات فقال: (وَمَا أَشَدَّ دَلَالَةَ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، لِأَنَّ الْيَتَامَى لَمَّا بَلَغُوا فِي الضَّعْفِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى بَلَغَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهِمْ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى)(7).
ولما كان أكل مال اليتيم من أخطر أنواع أكل المال بالباطل جعلته السُّنة من بين السبع الموبقات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»(8).
ونبَّه إلى أن من يأكُل مال اليتيم ظُلمًا حقٌّ على الله ألا يُدخلَه الجنة، ولا يُذيقَه نعيمَها إلا إذا تاب من عمله، قال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَآكِلُ الرِّبَا، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ»(9).

(1) أحكام القرآن لابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 2003م (1/ 138).
(2) مهر البغي: هو ما تُعطى الزانية على الزنا بها، وهي البغيُّ بكسر الغين، والزنا هو البغاء قال الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]. ينظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض، دار النشر: المكتبة العتيقة ودار التراث (1/ 98).
(3) حلوان الكاهن: بضم الحاء وهي رشوته وما يأخذه على كهانته والحلوان الشيء الحلو يقال حلو وحلوان، ينظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 197).
(4) أخرجه الطبري في تفسيره “جامع البيان في تأويل القرآن”، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م (3/ 550).
(5) الجامع لأحكام القرآن “تفسير القرطبي”، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م (2/ 338).
(6) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه (3/ 131) حديث رقم (2458) ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة (3/ 1337) حديث (1713).
(7) مفاتيح الغيب “تفسير الرازي”، محمد بن عمر الرازي (9/506).
(8) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (4/ 10) حديث رقم (2766) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/ 92) حديث رقم (89).
(9) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب البيوع (2/ 43) حديث رقم (2260) وقال صحيح الإسناد.

Comments are disabled.