العملات الرقمية المشفرة في ضوء عقود المعاملات الشرعية – الحكم الشرعي وتحرير محل النزاع (6/7)
الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
بعد أن تحدثنا في المقالات السابقة عن مفهوم العملات المشفرة وأنواعها، والقواعد الضابطة لها، والمبادئ الحاكمة لإصدار النقود والعملات، ثم مقاصد الشريعة في العقود المالية، ومنها عقود العملات المشفرة؛ كان لابد من كتابة هذا المقال عن حكمها.
أولاً: الحكم الشرعي للتعامل بالعملات الرقمية المشفرة:
منذ ظهرت العملات الرقمية عام 2009م ثار حولها الجدل واختلف الاجتهاد الفقهي المعاصر في حكم التعامل بها: بين من أباحه، ومن حرمه، ومن توقف عن الحكم عليها.
والعملات المشفرة تستخدم في عمليات الدفع التي لا تخضع لأي رقابة من البنوك المركزية، وهي عملة غير مغطاة بأي نوع من المال الحقيقي؛ لأنها مجرد أرقام أو أشكال إلكترونية مبرمجة على أجهزة الحاسوب، وليس لها أصل محسوس، وتختلف عن العملة الورقية أن الأخيرة تصدرها البنوك المركزية بخلاف العملات المشفرة الخاصة.
ولابد من الالتفات إلى: أن العملات المشفرة لا تتوافر فيها خصائص العملات ولا وظائف النقود الأربعة التي ذكرها العلماء: فليست وسيطًا عامًّا للتبادل بين الناس، وليست مقياسًا للأثمان والقيم، وليست مخزونًا للقيمة والثروة، وليست معيارًا للمدفوعات الآجلة للديون. فضلاً عن أنها لم تحظ بقبول عام. ونستعرض أقوال العلماء المعاصرين في حكم التعامل بها وأدلته:
القول الأول: تحريم التعامل بالعملات المشفرة، وهو قول بعض العلماء المعاصرين، وأبرز أدلتهم:
- أن العملات المشفرة تتضمن مخاطرة، وقد تفضي لضياع المال.
- أن العملات المشفرة مجهولة المصدر، فلا تمثل أي موجود حقيقي، فلم تصدرها دولة أو جهة ضامنة، ولا تصدر عن أي مصرف مركزي.
- أن العملات المشفرة غير مغطاة بأي نوع من المال الحقيقي، وأسعارها متذبذبة.
- أن العملات المشفرة لا تحمل أي نفع بل مجرد نوع جديد من المضاربات هدفه الاسترباح دون ربطه بالعمل أو الإنتاج، ما يناقض مقاصد الشرع في المال.
- أن العملات المشفرة ليس لها قبول عام بين الناس.
- عدم توفر المعايير والقانونية، التي تجعلها عملة يجري عليها حكم التعامل بالعملات القانونية الرسمية المعتبرة دوليًّا.
- حصول الغرر في التعامل بها، عن طريق بعص منصات التداول للعملات المشفرة.
- حصول الجهالة في التعامل بها؛ فهي تعتمد على مبادئ التشفير في جميع جوانبها، ولا يتضمن قانون التعامل بها أية معلومات عن الشخص أو بياناته؛ فالجهالة ترافقها بدءًا من اكتسابها واستعمالها.
- حصول الضرر في التعامل بها لاقتصاديات الدول؛ فقد تؤثر على الاستقرار الاقتصادي للمجتمعات بما تَتَسبب فيه من انتشار التجارات المحظورة، وغسيل الأموال، والتحويلات المالية.
- أن العملات المشفرة فيها تَعدٍّ على صلاحيات الدول من حيث إصدار العملات، واستعمالها في التداول، والحفاظ على حركة تداول النقد بين الناس، وضبط كمية المعروض منه. كما أنه ينقص من إجراءات الدولة الرقابية اللازمة على الأنشطة الاقتصادية الداخلية والخارجية.
والحاصل أن العملات المشفرة هي مجرد عملات افتراضية ليس لها وجود مادي، ولا تَعتمد على المؤسسات الرسمية والجهات المالية الوسيطة كالمصارف؛ فإنه لا يوجد لها أصول ولا أرصدة حقيقية، ولا تحميها أية ضوابط أو قوانين مالية، ولا تخضع لسلطة رقابية لكي تجعلها عملة يجري عليها حكم التعامل بالعملات القانونية الرسمية المعتبرة دوليًّا.
ومما تجب ملاحظته هنا: أن القول بحرمة تصنيع وشراء العملات الرقمية المشفرة، وعدم جواز التعامل بها بيعًا وشراءً وإجارة ونحوها، يقتصر على النوع الأول وهي العملات الخاصة غير الرسمية. كما أنه لا خلاف بين العلماء المعاصرين على أن الحكم بمنع أو جواز استخدام العملات المشفرة يختلف باختلاف السياقات، واختلاف أغراض هذه العملات، وطرق تداولها، واعتراف الدول بها. وأما العملات الرقمية الرسمية: فيجوز التعامل بها إذا أصبحت بديلاً للعملات الورقية، وكانت خاضعة للبنوك المركزية في كل مراحلها.
وبهذا الرأي أخذت جُلُّ دور الإفتاء في العالم الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقال به الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية وغيرهم.(1)
القول الثاني: إباحة التعامل بالعملات المشفرة، وهذا الرأي يعتمد على عدة أدلة أبرزها:
- أن الأصل في المعاملات الحل، ولا يوجد سبب لمنع العملات الرقمية من وجهة نظر شرعية؛ لأن العملات الافتراضية باتت مالاً مشروعًا بحكم الأمر الواقع، ويتم تداولها في البيع والشراء والخدمات.
- أن مفهوم النقود في الفقه ينطبق على العملات الرقمية المشفرة؛ لاطراد علة الثمنية في كل نقد رائج، وباعتبارها وسيطًا للتبادل تعارف عليه الناس في عصرنا، وبالتالي يجوز التعامل بها، وتخضع لسائر الضوابط التي تخضع لها النقود شرعًا؛ كأحكام الربا والزكاة والصرف وغيرها.
- أن العملات المشفرة تعد عملة؛ لاعتراف بعض الدول بها.
- حصول الإيجاب والقبول والتراضي بين طرفي العقد، وهذا ركن مهم في العقود، ويمكن اعتماد العقد بناء على تحققه.
- التعدين عمل مشروع غير ممنوع، فغايته التثبت من صحة المعاملات المالية، مقابل أجرة على سبيل الجعالة أو نحوها.
- تحصل المعاينة والتحقق والتثبت من مالكي النقد عن طريق السجل من خلال سجل الإثبات الخاص بها “البلوك تشين”، وانتقال الملكية من خلال عملية التعدين، وتغيير المالك بإثبات ذلك في هذه السجلات.
- أن العملات المشفرة إن لم تكن عملة، فهي بمثابة سلة عملات؛ لشدة الإقبال عليها وتداولها.
- أن العملات المشفرة شرعية حتى ولو تم استخدامها في ممارسة الأنشطة غير المشروعة؛ كالقمار وتمويل الصفقات غير المشروعة؛ لأن مثل هذا يتم بها وبغيرها من العملات المعتبرة في التعامل.
- أن أوجه المنع مبناها على الخوف من كل جديد، وعدم السعي لتنقيته من شوائب الحرام.
- أنه لا يوجد دليل صحيح صريح على حصر النقد في الذهب والفضة، وعلى اختصاص الدولة فقط بإصدارها.
وبهذا الرأي أخذت الهيئة العامة للشئون الإسلامية والأوقاف في الإمارات، في فتوى صدرت عام 2021م، بأنه تجوز المتاجرة بالعملات الرقمية الافتراضية، وبعض العلماء المعاصرين.(2)
القول الثالث: التوقف؛ لعدم وجود دليل مرجح عند بعض الفقهاء، وعدم اكتمال تصور المسألة، وغموض بعض الأمور المتعلقة بالعملات المشفرة، أو لمزيد من البحوث والدراسات المتخصصة؛ للكشف عن بعض الجوانب الغامضة والمتداخلة في المسألة، لكن التوقف ليس حكمًا شرعيًّا، وإنما هو تورع من العالم أو تمهل من جهة الفتوى؛ لتكوين تصور متكامل عن المسألة قبل الفتوى، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وخير مثال على ذلك مجمع الفقه الإسلامي الدولي، جاء في القرار رقم 237 (8/24) بشأن العملات الإلكترونية ما يلي:
قامت بعض الدول مثل ماليزيا بإلزام الحصول على التراخيص اللازمة من الجهات المعنية؛ لإنشاء المنصات الإلكترونية، ووضعت ضوابط للمتعاملين في تلك المنصات الإلكترونية، وأبرزها التسجيل بإبراز الهوية للمتعامل…
رغم انتشار هذه العملات في العديد من البلاد في آلاف المحال التجارية فضلاً عن استبدال العملات الوطنية بها، وقبولها من بعض الجهات الحكومية، فإن العديد من الدراسات تشير إلى مخاطر تكتنف التعامل بالعملات الرقمية المعماة (المشفرة) بصفة عامة، ومن أبرزها التقلبات السعرية… نظرًا لما يكتنف هذه العملات من مخاطر عظيمة وعدم استقرار التعامل بها؛ فإن المجلس يوصي بمزيد من البحث والدراسة للقضايا المؤثرة في الحكم.(3)
ثانيًا: تحرير محل النزاع حول العملات المشفرة:
إذا نظرنا إلى أقوال العلماء المعاصرين حول التعامل بالعملات المشفرة، نجد أنها مبنية على تصور كل فريق للمسألة، فالقول الأول مبناه على التخوف مما يحيط بهذه العملات من شبهات سوء الاستخدام، عن طريق التجارة في المخدرات والدعارة وغسيل الأموال ونحوها، وعلى هذا ينبغي توجيه قول من قال بالمنع المطلق.
ولكن هل تختص العملات المشفرة بهذا الأمر، وهل طرأ هذا الأمر على العالم بنشأة العملات المشفرة؟ أم أنه موجود قبلها، وتستعمل فيه كل العملات المحلية والدولية؟ والإجابة واضحة، فتاريخ الانحراف قديم منذ بداية البشرية، واستعملت فيه كل الوسائل والأدوات والعملات.
فلا يمكننا الحكم بجواز أو عدم جواز التعامل بالعملة أية عملة بسوء الاستخدام، وإنما نحاكم سوء الاستخدام، ونحارب الانحراف إلى الاستخدام المعوج للعملات المشفرة وغيرها. وأما العملة فهي وسيلة للتبادل، فإن كان التبادل في أمور مشروعة فلا علاقة للعملة التي هي وسيلة التبادل بذلك، وإذا كان التبادل في أمور ممنوعة فلا علاقة للعملة التي هي وسيلة التبادل بذلك.
وأما أن إصدار العملات من أعمال السيادة وحق الدولة ومؤسساتها فقط إصدارها؛ فإن هذا ما بدأ بالفعل، وقد اعترفت بها بعض الدول، وجل البنوك المركزية العالمية ستصدر عن قريب عملاتها المشفرة، وبدأت تلقى رواجًا وقبولاً من الدول والحكومات.
وأما القول الثاني: فمبناه على الاستفادة من كل جديد، واستثماره في خدمة البشرية مع الحرص على تلافي ما فيه من عيوب وأخطاء ومفاسد، واستدراكها ومعالجتها وتخليص المعاملة من آثارها، فضلاً عن محاولة التخفيف من حدة هيمنة الدولرة على الاقتصاد العالمي، وإيجاد بديل يخفف الوطأة عن بعض الدول التي يحاصرها ويضطهدها الاستعمار الغربي. وكذلك الاستفادة من هذه العملات المتطورة في حالات الأزمات والأوبئة والجوائح ونحوها. وفي هذا الإطار ينبغي توجيه القول بالجواز، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس جوازًا مطلقًا ولكنه مقيد بقواعد ومبادئ وضوابط ومقاصد الشريعة التي ذكرناها في المقالات السابقة.
وأما القول الثالث: فيرى أن هناك عدة أبعاد لابد من دراستها؛ لاستكمال تصور المسألة؛ حتى يكون الحكم صحيحًا، فالحكم على الشيء دون تصور متكامل هو حكم قاصر غير منضبط.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن العالم بأسره يتجه نحو العملات المشفرة شِئْنا أم أبينا، وأن حجم التداول بها وصل إلى أرقام كبيرة، وأن مئات الملايين حول العالم يتعاملون بالعملات الرقمية المشفرة، فلا يصح أن نغمض أعيننا عن ذلك، وندعي أن الأمر يسير وهين.
ورغم كل ما سبق فهل يمكن تعديل هذه المعاملة لتتسق مع قواعد ومقاصد عقود المعاملات المالية الإسلامية، وهل هناك محاولات ومقاربات سجالية في هذا الباب، هذا ما سنبينه في المقال القادم.
(1) للمزيد يمكن مراجعة مواقع الهيئات والأفراد القائلين بالحرمة.
(2) للمزيد يمكن مراجعة مواقع الهيئات والأفراد القائلين بالإباحة.
(3) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي-الإصدار الرابع: 845-847.