العملات الرقمية المشفرة في ضوء عقود المعاملات الشرعية – المفاهيم الأساسية (1/7)
الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
لقد كان التعامل في الماضي بالعملات المعدنية ثم الورقية، وفي عصرنا ظهرت الأوراق النقدية التي يدخلها البلاستيك، ثم بطاقات الفيزا والماستر كارد، ثم العملات الإلكترونية، ثم العملات الرقمية أو الافتراضية.
كما بدأت في عصرنا التعاملات النقدية المعتادة في الانحسار؛ ليحل محلها التعاملات الإلكترونية، ثم ظهرت العملات الرقمية المشفرة في عام 2008م كوسيلة للتبادل في العقود الذكية أو عقود الند للند، التي تتم بين الطرفين بصورة مباشرة دون الحاجة لأي وسيط أو طرف ثالث، ولاقت ارتيابًا وشكوكًا في البداية، لكن ما لبثت أن زاد الطلب والإقبال عليها، وتنامى انشغال العالم بها، واتجهت جل البنوك المركزية في العالم لدراسة إصدار عملتها الرسمية المشفرة، “ووصل مجموع القيمة السوقية للعملات المشفرة في يوليو 2023م (1,20) ترليون دولار، وحجم التداول في الأربع والعشرين ساعة (37,17) بليون دولار”(1)؛ مما استدعانا لكتابة هذه السلسلة من المقالات.
أولاً: مفهوم التشفير والعملة الرقمية المشفرة، وسلسلة الكتل:
علم التشفير (Cryptography): هو وسيلة لحماية المعلومات والبيانات من خلال استخدام الرموز، بحيث لا يمكن قراءتها أو معرفة محتواها المخفي إلا من تستهدفهم المعلومات، ويكون لديهم مفتاح الشفرة التي تمكنهم من معالجة تلك الرموز للتعرف على المعلومات الأصلية.
فالمقصود من التشفير: هو إخفاء البيانات من سياقها المعتاد والمتداول إلى سياق آخر غير معلوم للعامة بشكل يحفظ سرية محتواها، وهي ليست عملية مستحدثة، فمبدأ التشفير استخدم في العديد من المجالات الدبلوماسية والعسكرية قديمًا، وله استخدامات عديدة مصرفية ومعلوماتية في وقتنا المعاصر، حتى وصلنا إلى العملات الرقمية التي تعتمد في بنائها على نفس الفكرة.(2)
وأما العملة الرقمية المشفرة (cryptocurrency): فهي عبارة عن مجموعة من الرموز الرقمية غير الملموسة التي ليس لها شكل مادي، وتعمل كوسيط لقيمة التبادل، وتستخدم عملية التشفير لتأمين معاملاتها والتحكم فيها، وتعتمد على تقنية سلسلة الكتل (Blockchain) في إنشاء وخلق وحدات العملة، كما أن العملات الرقمية تتمتع بالعديد من المزايا التي تسمح بالمعاملات الفورية التي تتم مباشرة بين الأطراف المتعاملة دون الحاجة لوسطاء، وتستخدم بسلاسة لتسديد المدفوعات عبر الحدود وعند الاتصال بالأجهزة والشبكات العالمية للمعلومات. كما انتشرت بشكل سريع نظرًا للطفرة الهائلة التي تحظى بها تقنيات العصر الرقمي، مما جعلها تتخطى الحدود المكانية في التعامل والمدفوعات والتحويلات الفورية.(3)
وأما تقنية سلسلة الكتل (Blockchain): فهي آلية متقدمة لقواعد البيانات تسمح بمشاركة المعلومات بشكل شفاف داخل شبكة أعمال. تخزن قاعدة بيانات (Blockchain) البيانات في كتل مرتبطة ببعضها في سلسلة، وهي بمثابة قائمة بسجلات المعاملات. وتعد البيانات متسقة زمنيًا؛ لأنه لا يمكنك حذف السلسلة أو تعديلها من دون توافق من الشبكة. ونتيجة لذلك، يمكنك استخدام تقنية سلسلة الكتل لإنشاء سجل حسابات غير قابل للتغيير أو ثابت؛ لتتبع الطلبات والمدفوعات والحسابات والمعاملات الأخرى. يحتوي النظام على آليات مدمجة تمنع إدخالات المعاملات غير المصرح بها، وتُنشئ تناسقًا في طريقة العرض المشتركة لهذه المعاملات.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 237 (8/24) بشأن العملات الإلكترونية:
مفهوم العملات الإلكترونية: عام يشمل بطاقات الائتمان، وبطاقات مسبقة الدفع، والشيكات الإلكترونية وغيرها، وبناء على ذلك انتهت المناقشات إلى استعمال مصطلح العملات الرقمية المرمزة (المشفرة)، ومن أشهر هذه العملات: البتكوين، والإثيريوم، والريبل رغم ما بينها من فروق، ومما يميز هذه العملات أنها أرقام مشفرة، وليس لها كيان مادي ملموس، أو وجود فيزيائي، ويتم تداولها بين أطراف التعامل بدون وسيط. ويطلق على هذا التعامل نظام الند للند.(4)
ثانيًا: أهمية سلسلة الكتل لإدارة معاملات الأصول:
تقدم سلسلة الكتل العديد من المزايا لإدارة معاملات الأصول، ومنها:
- الأمان المتقدم: فتوفر أنظمة سلسلة الكتل مستوى عاليًا من الأمان والثقة التي تتطلبها المعاملات الرقمية الحديثة. هناك دائمًا خوف من أن يتلاعب شخص ما بالبرامج الأساسية لإنتاج أموال مزيفة لنفسه. لكن تستخدم سلسلة الكتل المبادئ الثلاثة: التشفير واللامركزية والتوافق؛ لإنشاء نظام برمجي أساسي آمن للغاية يكاد يكون من المستحيل التلاعب به. لا توجد نقطة فشل واحدة، ولا يمكن لمستخدم واحد تغيير سجلات المعاملات.
- الكفاءة الـمُحسّنة: فيمكن أن تستغرق المعاملات بين الشركات الكثير من الوقت وتُنشئ تعطلات تشغيلية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالامتثال والهيئات التنظيمية التابعة لأطراف ثالثة. تجعل الشفافية والعقود الذكية في سلسلة الكتل مثل هذه المعاملات التجارية أسرع وأكثر كفاءة.
- التدقيق الأسرع: فيجب أن تكون الشركات قادرة على إنشاء المعاملات الإلكترونية وتبادلها وأرشفتها وإعادة بنائها بشكل آمن وبطريقة قابلة للتدقيق. سجلات سلسلة الكتل ثابتة زمنيًا، ما يعني أن جميع السجلات يتم ترتيبها دائمًا حسب الوقت. تجعل شفافية البيانات هذه عملية التدقيق أسرع بكثير.
ثالثًا: الفرق بين البتكوين وسلسلة الكتل:
مما يكشف عن الفرق بين البتكوين وسلسلة الكتل، أنه يمكن استخدام البتكوين وسلسلة الكتل بالتبادل، ولكنهما شيئان مختلفان. نظرًا إلى أن البتكوين كان من أوائل التطبيقات لتقنية سلسلة الكتل، وقد بدأ الأشخاص عن غير قصد باستخدامه على أنه يعني سلسلة الكتل، ما أدى إلى إنشاء هذه التسمية الخاطئة. لكن تقنية سلسلة الكتل لديها العديد من التطبيقات خارج البتكوين.
كما أن البتكوين عملة رقمية تعمل من دون أي تحكم مركزي.
وقد تم إنشاء البتكوين في الأصل لإجراء المعاملات المالية عبر شبكة الإنترنت، ولكنها في الوقت الحالي تعد أصولاً رقمية يمكن تحويلها إلى أي عملة عالمية أخرى، مثل الدولار الأمريكي أو اليورو.
وتقوم شبكة سلسلة الكتل العامة للبتكوين بإنشاء سجل الحسابات المركزي وإدارته.
رابعًا: تعدين البتكوين:
تعدين البتكوين على شبكة البتكوين العامة: حيث يقوم الأعضاء بالتنقيب عن العملات المشفرة من خلال حل معادلات التشفير لإنشاء كتل جديدة.
ويقوم النظام ببث كل معاملة جديدة علنًا إلى الشبكة ويشاركها من عقدة إلى عقدة. كل عشر دقائق أو نحو ذلك، يجمع المعدنون هذه المعاملات في كتلة جديدة ويضيفونها بشكل دائم إلى سلسلة الكتل، التي تعمل مثل دفتر الحساب النهائي للبتكوين.
ويتطلب التعدين موارد حسابية كبيرة ويستغرق وقتًا طويلاً بسبب تعقيد عملية البرنامج. وفي المقابل، يكسب المعدنون مبلغًا صغيرًا من العملات المشفرة.
ويعمل المعدنون ككتبة عصريين يسجلون المعاملات ويُحصّلون رسوم المعاملات. ويتوصل جميع المشاركين عبر الشبكة إلى توافق حول من يمتلك العملات المعدنية، باستخدام تقنية تشفير سلسلة الكتل.(5)
خامسًا: الفرق بين العملات الإلكترونية والعملات المشفرة:
هناك العديد من الفروق بين العملات الإلكترونية والعملات المشفرة:
فالعملات الإلكترونية: لها وظيفة التحويل والتسوية، وهي الوظيفة الأساسية للنقود الورقية أو المعدنية. ويتم تبادلها بشكلٍ إلكترونيّ، وتهدف لإضفاء الطابع الإلكتروني على العملة القانونية، بما في ذلك البطاقة المصرفية المشتركة، والبنك الإلكتروني، والنقد الإلكتروني… وهناك أيضًا مدفوعات لأطراف ثالثة تم تطويرها في السنوات الأخيرة، مثل Alipay وWechat Pay، إلى جانب PayPal، لكن الـمَصدر الأصلي لهذه العملات الإلكترونية هو النقود الورقية الصادرة عن البنك المركزي.
والسبب في إمكانية استخدام النقود الإلكترونية على نطاق واسع في المرحلة الحالية، هو أنها تقلل من تكاليف معاملات العملة العادية إلى حد كبير، وهذه الميزة الضخمة تجعل من الممكن أيضًا للأموال الإلكترونية أن تحل محل العملة التقليدية.
فالفرق الأكثر أهمية بينهما: هو الفرق بين الـمُصدر؛ فالعملة المشفرة تهدف لإضفاء الطابع الإلكتروني على العملة غير القانونية، والتي يمكن فهمها ببساطة على أنها العملة المتداولة في العالم الافتراضي ونتاج تطور مجتمع الإنترنت. ويمكن شراء هذه العملات الافتراضية غالبًا عن طريق إكمال المهام في العالم الافتراضي، أو باستخدام عملة ورقية حقيقية، وتقتصر على التداول في بيئة افتراضية محددة…
وكذلك من حيث الكشف عن هوية العميل خلال المعاملات: فيجب التمييز بين نوعين من النقود الإلكترونية: النقود الإلكترونية الاسمية، والنقود الإلكترونية غير الاسمية، ففي النوع الأول يتم الكشف عن هوية العميل؛ لأنها تحتوي على وحدة نقد إلكتروني مُرتبطة بكل الأشخاص الذين يتداولونها، أمّا النوع الثاني؛ فلا يتم الإفصاح عن هوية حاملها خلال الـمُعاملات، إلا في حال أنفقها الشخص ذاته لأكثر من مرة. وأما بالنسبة للعملة المشفرة: فلا يتم الكشف عن هوية العميل أثناء التداول في الـمُعاملات… ويشتركان في أنهما غير ملموسين، ويطلق عليهما النقود الرقمية.(6)
هذه هي المفاهيم الأساسية المتعلقة بالعملات الرقمية المشفرة، وأما أنواعها ومقاصد إصدارها، فهو موضوع المقال التالي.
(1) راجع موقع: https://sa.investing.com/crypto/currencies.
(2) راجع موقع: https://www.arabictrader.com.
(3) انظر: واقع العملات الرقمية، لأيمن صالح، ط1 صندوق النقد العربي العدد (10) الإمارات 1441هـ/2021م: 7-8.
(4) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي-الإصدار الرابع: 845-847.
(5) راجع موقع: https://aws.amazon.com/.
(6) راجع موقع: https://al-ain.com/، وموقع: https://mawdoo3.com/.