الغرر وأثره في التصرفات المالية
(1) تحرير مفهوم الغرر
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
1. مفهوم الغرر بين دلالة اللغة واستقرار الاصطلاح:
قال القاضي عياض: أصل الغرر لغةً ما له ظاهرٌ محبوبٌ وباطن مكروهٌ، وقد سُمِّيت الدنيا متاع الغرور، قال: وقد يكون من الغرارة: وهي الخديعة، ومنه الرجُلُ الغِرُّ بكسر العين المخداع، ويقال المخدوع أيضا(1).
أما في الاصطلاح فالذي نسنخلصه من خلال تعريفات الفقهاء في المذاهب الأربعة أن الغرر هو ما تعلق بذات المعقود عليه حيث يكون مستور العاقبة، ولا يُدرى هل يحصل أم لا، مع استواء طرفي العقد في عدم العلم بذلك.
وقد تتداخل في المعنى مع الغرر أو تشتبه به على الباحث بعض المصطلحات مثل: الجهالة، والقمار، والغش، وسنقوم في هذا المقال بتحريرها وبيان وجه الفرق بينها وبين الغرر.
2. بين الغرر والجهالة:
لقد فرَّق القرافي تفريقًا دقيقًا بين الغرر والمجهول، فالغرر عنده هو الذي لا يُدرى هل يحصل أم لا؟ أما المجهول فهو الذي عُلِمَ حصولُه وجُهِلت الصفة التي سيحصل بها أو يقع عليها، فهما مشتركان في جهة عدم العلم؛ فإن كان ذلك في الوقوع فهو الغرر، وإن كان في صفة الوقوع والحصول فهو المجهول.
وتُوجَد بين الغرر والجهالة علاقة خصوص وعموم وجهي، فقد يقع كل واحد منهما مع الآخر في العقد نفسه، وقد يحصل أحدهما دون الآخر؛ لأن أصل الغرر هو الذي لا يُدرَى هل يحصل أم لا؟ كالطير في الهواء والسمك في الماء، وإن عُلِم حصولُه وجُهِلت صفته فهو المجهول؛ كبيعه ما في كُمِّه، فهو يحصُل قَطعًا لكنَّه لا يَدري أيَّ شيء هو، ونظرًا لهذا التداخل في المعنى فإن العلماء يتوسَّعون في هذين اللفظين، فيستعملون أحدهما مكان الآخر.
ومن الاستعمال المشترك للفظ الغرر حيث يقصد به الغرر والجهالة معًا، ما جاء عن مالك في المدونة، قال ابن وهب: وقال لي مالك: “وَتَفْسِيرُ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَأَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ قَدْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ أَوْ دَابَّتُهُ أَوْ غُلَامُهُ، وَثَمَنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَمْسُونَ دِينَارًا فَيَقُولَ: أَنَا آخُذُهَا مِنْك بِعِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنْ وَجَدَهَا الْمُبْتَاعُ ذَهَبَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا ذَهَبَ الْبَائِعُ مِنْهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَهُمَا لَا يَدْرِيَانِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيْضًا إذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الضَّالَّةُ كَيْفَ تُؤْخَذُ وَمَا حَدَثَ فِيهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ نَقْصُهَا وَزِيَادَتُهَا فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُخَاطَرَة”(2).
وبهذ الاستدلال يتبيَّن أن معنى الغرر عند مالك هو: “ما جُهِل وجودُه أو جُهِلت صفتُه”.
3. بين الغرر والقمار:
أصل القمار: الرهان على اللعب بالآلات المعدَّة للقمار، وقد يُطلق على اللعب بهذه الأشياء مطلقًا. أي: مع الرهان ودونه، وقد وردت آثارٌ عن مجاهدٍ، ومحمد بن سرين وغيرهما أن القمار من الميسر، والميسر قمار عرب الجاهلية وذلك بالأزلام، وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، ومن ميسر اللهو: النَّرْدُ، وَالشِّطْرَنْجُ، والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قُومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء(3).
وبالتدقيق يتبيَّن لكل باحث أن القمار والميسر يمثلان عقدًا خاصًّا أساسه المراهنة في اللهو واللعب، ولذلك كانت كلمة الغرر أعمّ منهما من حيث الدلالة، فالقمار والميسر داخلان في الغرر من غير شكٍّ، ولكن ذلك لا يعني أن كل العقود المتضمِّنة للغرر المفسد للعقود من باب القمار، بل هناك عددٌ من العقود المتضمِّنة للغرر ولا تدخل في باب القمار، كالبيع الذي فيه غررٌ، والإجارة التي فيها غررٌ وغير ذلك من العقود، التي يكون من غير الصائب أن يُطلَق عليها كلمة القمار، في حين يمكن أن يطلق ذلك على العقود التي تحقَّقت فيها أوصاف القمار وميزاته؛ كبيع الحصاة مثلًا فإنه قمار، حتى إن قلنا: إنه بيع، وفي الحقيقة ما هو إلا قمار سُمِّي بيعًا، قال الضرير: “ولهذا نجد ابن رشد عندما يتحدث عن بيوع الغرر يذكر منها بيع الحصاة، ويقول عنه هذا قمار”(4).
وقد ذكر الضرير أن ابن تيمية وتلميذه يجعلان الغرر من القمار. أي: هو من أجزائه، ولكنهما لا يقصدان كلَّ غرر، وإنما يقصدان الغرر الذي يُعدُّ قمارًا عندهما، وهو ما يحصل فيه أحد المتعاقدين على مالٍ قطعًا، ويحتمل أن لا يحصل فيه المتعاقد الآخر على شيء مُطلقًا، غير أن ابن تيمية قد أشار إليه بالمثال، وجاء به تلميذه تصريحًا(5).
ويرى الدكتور يوسف الشبيلي: أن القمار كالغرر وهو عقد مبناه على الجهالة متردد بين الغرم والغنم، والفرق بينهما أن القمار يكون في الألعاب والمسابقات، بينما يكون الغرر في المبايعات، فيقال باع غررًا، ولعب قمارًا(6).
4. بين الغرر والغش:
الغش: هو كتم حال المبيع عن المشتري، وعن البائع إذا جهله وقد علمه المشتري، وذلك ممنوع شرعاً وعرفاً، ومستند هذا “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»”(7).
ويدخل في هذا بيع الصُّبرة التي يعلم البائع بكيلها ولا يعلم به المشتري، فلا يجوز ذلك حتى يعلم بها كل منهما، ومن ذلك أن يدخل الرجل السوق بفصٍّ يظنُّه زجاجًا، فإذا رآه المشترى تحقَّق أنه فصُّ ياقوت، فهذا غشٌّ إن انعقد البيع عليه لم يجُز وكان البائع بالخيار.
والملاحظُ هنا أن الغرر والغش يشتركان في عدم العلم؛ فعدم العلم في الغرر يتعلق بحصول المعقود عليه وعدم حصوله، بينما عدم العلم في الغشّ يتعلق بحال المبيع وسلامته من العيوب.
وهناك فارقٌ جوهريٌّ بينهما، وهو أن عدم العلم في الغرر حاصلٌ في جهتي البائع والمشتري كليهما، وكذلك المجهول، بينما عدم العلم في الغش حاصل في إحدى الجهتين دون الأخرى، كأن يعلمه البائع ويجهله المشتري، أو يعلمه المشتري برؤيته له ويجهله البائع، لكن إذا كان العلم بحال المعقود عليه وعدم العلم به يشترك فيه العاقدان أو الطرفان فلا غشَّ، وتقع المعاملة جائزة، وإنما يمتنع ذلك من الجهة الواحدة.
(1) الفروق للقرافي، عالم الكتب (3/ 266).
(2) المدونة (3/ 254).
(3) تفسير القرطبي (3/ 52).
(4) الغرر وأثره في الأحكام الفقهية محمد الصديق الضرير (ص: 61).
(5) الغرر وأثره في الأحكام الفقهية محمد الصديق الضرير (ص: 62).
(6) فقه المعاملات المصرفية، يوسف الشبيلي (ص: 67).
(7) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (1/ 99) حديث رقم (102).