الغرر وأثره في عقود البيع والتصرفات المالية

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن تأثير الغرر في عقود البيع وغيرها من التصرفات المالية وعدم التأثير فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1. أثر الغرر في عقود المعاوضات المالية:

لا يوجد خلاف بين المذاهب الفقهية في اعتبار تأثير الغرر -المفسِد للعقود – على عقود المعاوضات المالية، على النحو الذي ثبت بالنص في عقود البيع، ولكنهم قد يختلفون في بعض التفاصيل الراجعة إلى تقدير الضرورة الداعية إلى التسامح والتجاوُز عنه عادة، أو عن بعضه في بعض العقود، أو لاعتبارات أخرى.
وبناءً عليه؛ نجد الفقهاء قد عمدوا في مجموعة من العقود إلى اشتراط شروط أخرى غير الشروط التي تشترك فيها مع عقد البيع، وهي شروط تؤدّي عند الالتزام بها في تنفيذ تلك العقود إلى المباعدة بينها وبين الغرر الممنوع، وتجعلها من بيع المعدوم الذي لا غرر فيه.
فمن الشروط الخاصة بعقد السلم:

  1. أن يكون الـمُسلَم فيه مما يغلب وجوده عند حلول الأجل.
  2. قبض رأس مال السلم في مجلس العقد.
  3. وأن يكون الـمُسلَم فيه مؤجَّلًا، ومَبنى هذا الشرط على أن السلم جُوِّز رخصةً للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق؛ وذلك لأن الُمسلِف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص الـمُسلَم فيه، والـمُسلَم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى.

2. أثر الغرر في عقود التبرعات:

ذهب مالك إلى التفريق بين عقود المماكسات(1) والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما لا يُقصد به تنمية المال، فمنع وقوعه في الأول، وجَوَّز وقوعه في الثاني؛ لأن هذا النوع إذا فات على من أُحسِنَ إليه به فلا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئًا فاقتضت حكمةُ الشرع وحثُّه على الإحسان التوسعةَ فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعًا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله.
وتوسيعُ التبرُّعات والتكثير منها هو من المقاصد المنظور إليها في الشريعة بعين الاعتبار، قال ابن رشد الحفيد: “ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقَّع الوجودِ، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر”(4).
وجريًا على قاعدتهم في التبرعات قال المالكية بصحة الوصية بالمعدوم، فيجوز أن يوصي بما تلده غنمه، كما تصح بالمجهول، فلو قال: أوصيتُ لفلانٍ بجزءٍ أو سهمٍ من مالٍ صحَّت الوصية، ويُعطى الموصَى له سهمًا من أصل الفريضة.
وهذا خاصٌّ بالمذهب المالكي فقط، حيث لا يوجد في المذاهب الأخرى من ينظر للغرر بهذا الاعتبار في عقود التبرعات، قال محمد الأمين الضرير: ولم أرَ قاعدةً عامةً في غير مذهب مالك بالنسبة لتأثير الغرر أو عدم تأثيره في عقود التبرعات.
فقد ذهب الشافعي إلى تعميم منع الغرر في كل العقود والتصرفات؛ فمنع الغرر والجهالة في الهبة، والصدقة، والإبراء، والصلح، وغير ذلك من عقود التبرعات، ولذلك كانت القاعدة العامة عند الشافعية؛ أنه يُشتَرَط في الموهوب ما يُشتَرَط في المبيع، يقول الشيرازي: “وما لا يجوز بيعه من المجهول، وما لا يُقدر على تسليمه، وما لم يتمَّ مِلكُه عليه: كالبيع قبل القبض – لا تجوز هبته؛ لأنه عقدٌ يُقصَد به تمليك المال في حال الحياة، فلم يَجُزْ فيما ذكرناه كالبيع”(3).
أما بالنسبة للمذهب الحنفي فلم يبتعد عن المذهب الشافعي، وإن كان أخفَّ منه بقليل كما يرى ذلك محمد الأمين الضرير حيث يقول: “لم أرَ للحنفية قاعدةً عامةً بالنسبة لتأثير الغرر في الهبة وعدم تأثيره، كما رأينا ذلك عند المالكية والشافعية، ولكن يظهر من تتبُّع أحكام الهبة عند الحنفية أن الغرر يؤثِّر فيها إلى درجة كبيرة، مما يجعل مذهبهم قريبًا من مذهب الشافعية، ولكن مما لا شك فيه أن تأثير الغرر في الهبة أخفُّ عندهم على وجه العموم من تأثيره في البيع”.
وعلى مذهب الحنفية سار الحنابلة، فالغرر عندهم يؤثِّر في الهدية لكن بدرجةٍ أخفَّ من تأثيره في البيع، فلا يصح عندهم تعليق الهبة على شرط المستقبل، وكذلك لا يصح توقيتها.

3. أثر الغرر في العقود الأخرى:

إن المقصود بالعقود الأخرى هي: التي إذا نظر الفقيه في مدى تأثير الغرر فيها، وعدم تأثيره، وجدها تتردَّد بين المعاوضات والتبرُّعات، فهي ليست من العقود التي يؤثِّر فيها الغرر مطلقًا فتلحق بالمعاوضات، ولا هي من العقود التي لا يؤثِّر الغرر فيها فتلحق بالتبرُّعات، ولكنها متردِّدة بينهما فاستحقَّت أن تكون قسمًا ثالثًا.
وبناءً على هذا المعنى أجاز المالكية في الرهن من الغرر ما لا يجيزونه في البيع، فيجوز عندهم رهنُ البعير الشارد، مع أنه لا يجوز بيعه لعدم القدرة على تسليمه، ونصَّ ابن رشد الحفيد؛ أنه يجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعُه وقت الارتهان، كالزرع والثمر الذي لم يبدُ صلاحه، ولكنه لا يباع في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحُه، وإن حل أجل الدين(4)
وأكثر الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة تمسَّكوا بالقاعدة العامة: “ما لا يصح بيعُه لا يصح رهنه”(5)؛ لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه، وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه.
ومما يدخل في هذا الباب من العقود والتصرفات إلى جانب الرهن: الكفالة، والوكالة، والنكاح، والمقصود في النكاح هو المهر.
وقد نظر الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة القائمة بين الجمهور والمالكية، نظرًا مبنيًّا على مقاصد الشريعة العامة والخاصة، والمعاني الكلية المنبثقة من أدلة الشريعة الإجمالية، فقرروا على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم اعتماد مذهب المالكية والعمل به في عدم اعتبار الغرر المفسد للعقود في عقود التبرعات.
فقد جاء في معيار “ضابط الغرر المفسد للمعاملات المالية” من كتاب “المعايير الشرعية”: “الشرط الأول: أن يكون الغرر في معاوضة مالية، أو ما بمعناها؛ مثل البيع، والإجارة، والشركة، فلا يؤثِّر الغرر في عقود التبرعات ولو كان كثيرًا، مثل: الهبة، والوصية”(6). وهذا هو الأصل الذي يقوم عليه التأمين التكافلي أو التعاوني في جانب حملة الوثائق.

(1) المماكسة هي السعي نحو استنقاص الثمن، يقال: مَكَسَ فِي الْبَيْعِ مَكْسًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ :نَقَصَ الثَّمَنَ وَمَاكَسَ مُمَاكَسَةً وَمِكَاسًا مِثْلُهُ. ينظر: طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية، النسفي (ص: 145) والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 577) مادة (م ك س)، والتعريفات
الفقهية، البركتي (ص: 217). محرر.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 114).
(3) المهذب في فقة الإمام الشافعي للشيرازي (2/ 334).
(4) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد (4/ 55).
(5) ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني (6/ 137) والتدريب في الفقه الشافعي، عمر بن رسلان (2/ 82) كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي (3/ 327).
(6) المعايير الشرعية، هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ص: 782.

Comments are disabled.