القمار ومضاره الاقتصادية (1/2): المفهوم والحكم والمقاصد وحجمه ومضاره في العالم
الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
القمار (Gambling) من الأمراض السرطانية التي تنخر في جسد البشرية على مدار الزمان، يوسوس الشيطان للمقامرين بالكسب السهل السريع، وهم جميعًا في خسران مبين، ومن قبلهم الدول التي تدفع نتيجة ذلك من دمار اقتصادي وصحي ومجتمعي، وانتشار للرذيلة والجريمة في مجتمعاتها… وقد استشرى القمار في عصرنا، وصدرت تقارير رسمية عن حكومات غربية تكشف عن أضرار القمار، مما استدعانا لكتابة هذا المقال.
أولاً: مفهوم القمار وصفات مدمن القمار:
القمار: “مصدر قامره: إذا لعب معه على مالٍ يأخذه الغالب من المغلوب كائنًا ما كان”(1)، أو هو “كل لعب يشْتَرط فِيهِ غَالِبا أَن يَأْخُذ الْغَالِب شَيْئا من المغلوب، فَهُوَ قمار فِي عرف زَمَاننَا”.(2)
ويوجد الكثير من أشكال القمار من أشهرها ألعاب اليانصيب واللوتري والقمار الإلكتروني. وبعض مسابقات التليفزيون التي تطالب بالاتصال على رقم هاتف.
وأما القمار الإلكتروني: فهو عبارة عن لعب القمار إلكترونيًّا عن طريق الولوج إلى مواقع ألعاب القمار، ويسمح هذا النوع من الألعاب إلى الشباب الذين تجاوزوا الـ 18 عامًا باللعب، وفي البداية يكون بغرض الترفيه، ثم يتحول بعد إدمانه إلى وسيلة لكسب الأموال.
ومن أهم صفات مدمن القمار الإلكتروني: قضاء وقت طويل أمام أجهزة الحاسب الآلي، إلى جانب طلب المال بصورة مستمرة، والبعد عن لقاء الأصدقاء، لذا يجب على الأهل تحري الدقة حول النشاط الذي يمارسه أبنائهم عبر شبكة الانترنت، حتى لا يتفاجئوا بإدمان القمار.
ثانيًا: صور وأنواع القمار:
- لعب الورق: الشدة، والنرد، طاولة الزهر، على شرط ويقصد بالشرط اشتراط اللاعبين أن يدفع الخاسر للفائز مبلغًا من كلفة اللعب، وما يتصل به من نفقات، وثمن ما يطلب من طلبات ومن طعام وشراب.
- اليانصيب: وهي ورقة متسلسلة من الأرقام تباع بأسعار زهيدة بحيث يحق لكل ورقة أن تشارك في عملية السحب لاختيار الأوراق الفائزة.
- الألعاب الإلكترونية: وتشمل أي نوع من أنواع القمار طالما تحققت فيه شروطه.
- المراهنة: التي تجري بين طرفين بحيث يدفع أحدهما للآخر مبلغًا من المال أو أي شيء آخر إن فاز فريق معين على فريق آخر، سواء أكان في المباريات الرياضية أم في سباق السيارات أو الخيول أو غيرها.
- مسابقات التلفزيون: بعض مسابقات التلفزيون والتي تطالب اللاعب بالاتصال بأرقام معينة، وتكون كلفة الاتصال هنا هي المبلغ الذي يقامر به الشخص، وحيث أنه لا يوجد مصدر لتمويل الجائزة إلا من الربح الناتج من الاتصالات، فيتحقق شرط القمار والميسر هنا.
- ألعاب المائدة: في الكازينوهات يستخدم مصطلح ألعاب المائدة لوصف ألعاب مثل البلاك جاك، الروليت، البوكر، والتي تلعب على المائدة، وتدار بواسطة شخص أو أكثر كمدير اللعبة أو الموزع في لعبة البوكر، في حين أن ماكينة الحظ أو السلوت “وهي آلة بها ذراع يتم تحريكه فتقوم بتحريك ثلاث بكرات بها أشكال مختلفة، إذا تطابق أحد الأشكال فيتحقق الفوز”، وهي لا تستلزم سوى اللاعب فقط.(3)
ثالثًا: الحكم الشرعي للقمار:
القمار محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وقد حرم الله تعالى القمار لما يترتب عليه من مفاسد ومضار بالفرد والمجتمع، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91]. “وتواترت السّنة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيم الْقمَار، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْمُسلمين”.(4)
والقمار من أشنع صور أكل أموال الناس بالباطل؛ ومثله الغصب والسرقة والربا والميسر، والغرر والجهالة والغش والتدليس والحيلة والغصب والخيانة، وغيرها من صور أخذ الإنسان مال غيره بالباطل، ولهذا حث الإسلام على السعي والعمل وتحصيل أسباب الكسب، وتحمل مخاطره وأعبائه، وحرم أكل أموال الناس بالباطل.
وقد ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ…».(5)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ».(6)
وكل ما سبق يكشف عن تحريم وتغليظ الشريعة لكل أنواع أكل أموال الناس بالباطل وعلى رأسها القمار، والمقصود من ذلك: حفظ المال، وضمان استقرار الحقوق المالية، والبعد عن الكسب المبني على القمار.
رابعًا: مقاصد تحريم القمار:
إنّ للميسر والقمار أضرارًا مجتمعية ونفسية وصحية ودينية واقتصادية، وتعود هذه الآثار المدمرة سلبًا على الفرد والمجتمع؛ وهناك العديد من الحِكم والمصالح الشرعية التي حرَّم الله تعالى القمار لأجلها، ومنها ما يلي:
- أضراره المادية: فالاعتماد على المصادفة والحظ في الكسب، لا على العمل والجد والاجتهاد والسعي والأخذ بالأسباب؛ يؤدي في النهاية إلى البطالة والدمار المادي للفرد والأسرة والمجتمع.
- درء المفاسد الاجتماعية المترتبة على القمار: كهدم البيوت، وفقد الأموال في غير منفعة، والفقر بعد الغنى، والمذلة والمهانة بعد العزة والكرامة.
- الآثار المجتمعية الضارة للقمار: فالقمار من وسائل أكل أموال الناس بالباطل، كما أنه يورث العداوة والبغضاء بين المتلاعبين، ويورث الخلافات والشقاق والدمار الأسري.
- أضراره الأخلاقية: فالقمار من مساوئ الأخلاق، وقبائح العادات.
- أضراره الدينية: فالقمار يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وعن أعمال الخيرات.
- آثاره الاقتصادية المدمرة: حيث يتعطل العمل والإنتاج، ويدفع المقامرين للكسل والخمول والقعود، وتفشو البطالة، ويصير المقامر طاقة معطلة.
- الآثار الإجرامية المدمرة للقمار: كانتشار جرائم السرقة والرشوة والاختلاس ونحوها من المقامرين؛ بهدف الحصول على المزيد من المال للقمار.
- الآثار الصحية المدمرة: فالقمار يورث القلق، وتعب الأعصاب، ويسبب الأمراض، ويؤدي في الغالب إلى الجريمة والسجن، أو الجنون والانتحار ونحوها.
- ما يلتف بالقمار ويصاحبه من محرمات أخرى: كشرب الخمور، وتناول المخدرات، وانتشار البغاء ونحوها.
خامسًا: حجم ومضار القمار في العالم:
قدرت المجلة الدولية للمقامرة العامة مؤخرًا أن هناك (4632) وسيلة مقامرة شرعية، وأن (603) أنواع من أوراق اليانصيب الرسمية في (102) بلد في العالم، والتي تزيد جوائزها عن ربع مليون دولار.
يقول جون هاورد رئيس وزراء استراليا السابق: إن أكثر من (290) ألف استرالي لديهم مشكلة المقامرة، وهم مسئولون عن خسارة أكثر من (3) مليار دولار سنويًّا، مما سبب مشاكل لمليون ونصف شخص تأثروا بهم بشكل مباشر؛ نتيجة الإفلاس والانتحار والطلاق ومشاكل العمل.
وتقدر الاحصاءات الصادرة عن قسم الإدمان بكلية الطب في جامعة هارفرد أن هناك (7,5) مليون راشد أمريكي و(7,9) مليون مراهق يعالجون سنويًّا من أمراض المقامرة.
أما في استراليا فقد قدرت دراسة حديثة عدد الذين قاموا بالمقامرة في سنة واحدة بنحو 80% من سكان استراليا لمرة واحدة على أقل تقدير، و40% قامروا كل أسبوع، ويقدر إنفاق الفرد على المقامرة بأكثر من 400 دولار سنويًّا. وهذا يفوق ما يصرفه الأوربيون أو الأمريكيون بنحو الضعف، وبذلك يحتلون مركز الصدارة مما يجعلهم أكثر الناس ولعًا بالمقامرة.
ويدمن سكان بعض البلدان على نوع معين من المقامرة. ففي البرازيل يشترون بطاقات اليانصيب ويصرفون ما يقدر بنحو 4 مليار دولار سنويًّا عليها. كما في دول أوربا إذ بلغت قيمة الجائزة 180 مليون يورو لليانصيب الأوربي الموحد وللسحبة الواحدة، وفي بريطانيا تباع نحو 12 مليون بطاقة يانصيب ولمرتين في الأسبوع الواحد؛ مما أضاف أكثر من 2000 مليونير لقائمة أصحاب الملايين البريطانيين منذ عام 1994م.
أما إيطاليا فتعد الرائدة في هذا المضمار إذ بدأ أول يانصيب في العالم سنة 1530م، أي قبل ما يقارب من خمسة قرون.
كذلك يقبل الكثير من اليابانيين على لعبة “الباتشينكو” وينفقون مليارات الدولارات في المراهنة أثناء اللعب. بعد أن سُمح بفتح الكازينوهات في أتلانتك ستي، ازدادت نسبة الجريمة في المدى الذي تقع فيه الكازينوهات أي (30 ميلاً) أضعافًا مضاعفة. ثمة 260 كازينو في مقاطعات الهنود الحمر، في إحدى وثلاثين ولاية.
النسب العالية من الميول الانتحارية سجلت في العيادات التي تعالج المقامرين المبتلين بالقمار التسلطي، فضلاً عن النسب العالية لمشكلات الصحة العقلية، فقدان العمل، الطلاق، الإفلاس المصرفي والاعتقال.
بينت دراسة قامت بها جامعة ولاية ميسيسبي Mississippi أن أصحاب الدخل المنخفض، أي الذين يحصلون على أقل من 13 ألف دولار سنويًّا ينفقون 10% من دخلهم على القمار و8% على الأكل والشرب قياسًا بأصحاب الدخل الجيد أي 40 ألف سنويًّا، أنهم ينفقون فقط 1% من دخلهم على القمار.
وفق دراسة حديثة أن مليونين ونصف من الأميركيين مدمنين على القمار، وثلاثة ملايين أخرى لديهم مشكلات في القمار، و15 مليون معرضين لخطر الوقوع في المشكلة، و148 مليون يقعون في مدى الخطر الأدنى من المشكلة. معدل الدين بالنسبة للمصاب بإدمان القمار يتراوح بين 50-90 ألف دولار، ومعدل الطلاق ضعف مما هو بين غير المقامرين.
ونسبة الانتحار 20% أعلى من نسبتها بين الاعتياديين، و65% من المقامرين المرضيين يرتكبون الجرائم لتغذية عادة قمارهم…
إن القمار يفضي إلى تدمير الحياة الزوجية، العلاقات العائلية، فقدان العمل، فقدان البيوت، الجنون، بوابة السجن أو الموت.
ثمة استبيان شمل 200 مقامر مصاب باستحواذ القمار في ولاية ألينوي، وجد أن 60% فكر في الانتحار، 79% فكر في الموت، و45% لدية خطة محددة لقتل نفسه، و6% حاول الانتحار. (7)
هذا قليل من كثير من حجم القمار في العالم، وأضراره المدمرة على جميع الدول والمجتمعات؛ مما يكشف عن المضار والمفاسد التي حرم الله تعالى القمار لأجلها، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان.
والعالم اليوم يستفيق على هذا الكابوس الرهيب، وهذا الدمار الشامل في كل فئات المجتمع التي وقعت في جريمة القمار، وما يسبقها ويقارنها ويتبعها من جرائم متنوعة، تلحق الضرر بالاقتصاد والمجتمع والفرد والأسرة والدولة.
فهل يعود عقلاء العالم إلى نداءات الفطرة البشرية السليمة التي تمنع كل ما جاء الشرع بمنعه، فداعي الطبع أقوى من داعي الشرع، والله تعالى فطر الخلق جميعًا على الفطرة السوية، حُنَفَاءَ كلَّهم، ثم أتَتْهُمُ الشياطين فاجتالتَهمْ عن دِينهم، وحرّمت عليهم ما أحلَّ الله تعالى لهم، وأحلَّت لهم ما حرم الله تعالى عليهم.
هذا هو القمار وصوره وأنواعه المتعددة، وحكمه الشرعي، ومقاصد تحريمه، وحجم ومضار القمار في العالم، وأما أسباب إدمانه، وصفات المدمن، والموقف القانوني، وتقرير الحكومة البريطانية، والقمار من منظور الاقتصاد الإسلامي… فهو موضوع المقال التالي.
(1) المطلع على ألفاظ المقنع، لأبي عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي، ت: ٧٠٩هـ، ت: محمود الأرناؤوط، ط1 مكتبة السوادي للتوزيع ١٤٢٣هـ/٢٠٠٣م: 307.
(2) الكليات، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الحنفي، ت: ١٠٩٤هـ، ت: عدنان درويش، ط مؤسسة الرسالة-بيروت: 702.
(3) راجع موقع: https://www.hopeeg.com/services/other-addictions/gambling-addiction..
(4) دستور العلماء، للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري، ت: ق ١٢هـ، ت: حسن هاني فحص، ط1 دار الكتب العلمية-بيروت ١٤٢١هـ/٢٠٠٠م: 2/156.
(5) أخرجه مسلم: 4/41 (1218) كتاب الحج، بَابُ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(6) أخرجه الداراقطني: 3/424 (2885) كتاب البيوع.
(7) راجع موقع: https://arabic.tebyan.net/index..