قاعدة: “سد الذرائع وفتحها معتبر مقصود شرعًا”، وآثارها في العقود المالية (2/2)

بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

تناولنا في المقال السابق المفاهيم الأساسية لقاعدة سدّ الذرائع وفتحها، وبينا معناها والمقصود بها، وأقسام الذرائع من جهة المآلات، ونبين في هذا المقال شروط إعمالها سدًّا وفتحًا، وأهم تطبيقاتها في العقود المالية.

رابعًا: شروط العمل بالذرائع:

الذرائع سدًّا وفتحًا من الأمور المهمة؛ لضبط ميزان الاجتهاد الفقهي، ولتحقيق هذا الضبط والتوازن لا بد من معايير وشروط ضابطة للعمل بالذرائع، ومن أهمها ما يلي:

  1. أن يكون إفضاء الوسيلة إلى المقصود غالبًا لا نادرًا؛ لأن الحكم للأغلب، فالأحكام تُبنى على ما عم وغلب لا ما شذَّ وندر؛ فالعبرة بالغالب، وأما الشاذ الخارج عن النظائر والنادر فلا حكم له، ولا يُقاس عليه ولا يُحتج به.
  2. أن تكون المفسدة التي تفضي إليها الذريعة المحرمة أرجح من المصلحة، وأن تكون مفسدة يقينية حقيقية واقعة وليست محتملة أو موهومة أو متوقعة.
  3. عدم المبالغة في إعمال الذرائع، مع رعاية المتغيرات المختلفة؛ فإهمالها من أبرز أسباب الشذوذ في الرأي والفتوى، وقد أشرنا إلى أن اختلال ميزان الذرائع يؤدي إلى التعسير وإهدار المصالح والتضييق على الناس في أمور معاشهم، أو العكس بالتفلت من أحكام الشريعة، وانتشار المفاسد والشرور.
  4. ألا يهدم العمل بالذرائع نصوص الشريعة وقواعدها؛ كالقول بفتح الذرائع للربا بزعم أنه لا دولة بلا اقتصاد، ولا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير ربا، وكذلك: زيادة رأس مال المنشآت الحكومية من خلال التمويل بالفائدة؛ ليتسع نطاق معاملاتها وتكثر أرباحها، فينتفع العمال والموظفون، وتنتفع الحكومة بفائض الأرباح؛ وهذا الزعم يهدم نصوص الشريعة وقواعدها التي تحرم الربا، وتتوعد آيات القرآن الكريم المتعاملين به بحرب من الله ورسوله.
  5. ألا يتعارض إعمال الذرائع مع حفظ المقاصد الشرعية المعتبرة؛ فالتيسير ورفع الحرج ودفع المشقة وعدم التكليف بما لا يطاق مقاصد شرعية معتبرة في كل أبواب الشريعة وأحكامها الكلية وفروعها الجزئية، فلا ينبغي إعمال الذريعة سدًّا فيما يؤدي إلى إلحاق الحرج والعنت والمشقة غير المعتادة بالناس، كما أنه لا تفتح ذريعة يلحق الناس حرج وعنت في فتحها؛ لأن المقاصد مقدمة على الوسائل، وأعلى مرتبة منها. كما أن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد بلا عكس.
  6. أن يُراعى اختلاف الزمان والمكان وعوائد الناس وأعرافهم، فإعمال الذرائع قد يختلف باختلاف الزمان والمكان؛ لاختلاف عوائد الناس وأعرافهم، بمعنى أنه قد يفضي إعمال الذرائع إلى المقصود غالبًا في زمان أو مكان ما، ويكون إفضاؤه للمقصود نادرًا في زمان أو مكان آخر، وإلى هذا المعنى أشار القرافي بقوله: “فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين”.(1)

بقيت الإشارة إلى: أن التقابل والتناقض بين قاعدتي الذرائع والحيل، كما أشار ابن القيم بقوله: “وإذا تدبَّرتَ الشريعة وجدتَها قد أتت بسدِّ الذرائع إلى المحرَّمات، وذلك عكس باب الحِيَل الموصِّلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرَّمات، وسدُّ الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرَّم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرَّم نفسه؟”.(2)

خامسًا: أهم تطبيقات القاعدة في العقود المالية:

هناك العديد من التطبيقات والفروع الفقهية التي تتخرج على قاعدة الذرائع، في سائر أبواب الفقه الإسلامي، ونورد هنا بعض ما يتخرج عليها في العقود المالية، ومنها:

  1. من يعقد البيع قاصدًا به الربا؛ فإن العقد باطل سدًّا للذريعة، كمن باع لشخص سلعة بمائتين مؤجلة، ثم اشتراها منه بمائة حالَّة “بيع العينة” لم يجز؛ سدًّا للذريعة إلى الرِّبا المحرَّم؛ إذ يؤول الحال إلى أنه دفع مائة حالَّة وأخذ مائتين مؤجلة من نفس الشخص.(3)
  2. نهى الشارع عن البيع والشراء وقت نداء الجمعة، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9]، ومقصود النهى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ ألا يتخذ ذريعة للتشاغل بالبيع والشراء عن صلاة الجمعة.
  3. نهى الشارع عن بيع السلاح في الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على الإثم وذلك منهي عنه؛ سدًّا لذريعة الإعانة على المعصية، وسدًّا لذريعة التقاتل وانتشار الفساد وازدياد الفتن. وقال ابن التين: لعله في فتنة لا يعرف الظالم من المظلوم فيها، وإلا فلو علمنا بِيع من المظلوم ولم يبع من الظالم.(4)
  4. كل عقد بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه… فهذه العقود باطلة؛ لأن المشتري أو المستأجر يريد التوسل بماله ونفعه إلى الحرام، فيدخل في قوله تعالى: ﴿‌وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، ولا ريب فهذه العقود تتضمن الإعانة على الإثم والعدوان ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه، فتمنع سدًّا لذريعة الإعانة على المعصية.(5)
  5. كل ما حرم الشرع شراؤه واستعماله؛ لإفضائه للوقوع في الحرام؛ كالخمور والأفلام الإباحية والصور الماجنة التي لا تحل مشاهدتها؛ فإنه يحرم شراؤها وتداولها وتبادلها؛ لأن اقتناءها وتبادلها سيؤدي لاستعمالها؛ فيحرم ذلك سدًّا للذريعة إلى المعصية والفسق والفجور.
  6. حرمان القاتل من الإرث ومن الوصية عند جماهير الفقهاء، إذا قتل الوارث البالغ مورثه، وهي العقوبات القاصرة؛ لأنه عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني، أو غرم مالي، بل هو مجرد منع لثبوت ملكه في التركة، فهي ليست عقوبة كاملة أصلية، وإنما هي عقوبة إضافية للعقوبة الأصلية للقتل سواء أكان عمدًا أم غير عمد؛ لأنه قصد حرمان هذا القاتل من تحقيق هدفه، وهو تعجل الميراث، ولذلك حرم من الميراث الذي يأتي إليه عن طريق المقتول؛ لأن من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وهو حق الله؛ لأنه ليس فيه نفع للمقتول. كما أن حرمان القاتل من الإرث إذا كان القتل عمدًا عدوانًا لمظنّة التّهمة، وقتله ليس لاستعجاله الميراث، وإنما سدًّا للذريعة إلى القتل والفساد والإفساد في المجتمع.(6)
  7. إذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن الدين كان عليه قبل الحجر؛ لأنه قد يتخذ ذريعة إلى التصرف بأمواله عن تواطء، فإذا قضى الدين الأول قضى بعد ذلك الثاني.(7)
  8. التوسع في إنشاء المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية عند الحاجة؛ لحفظ أموال المسلمين، وتحقيق التضامن والتكافل في الأمة الإسلامية، والتيسير على المسلمين في حفظ وتداول المال ورواجه وغيرها، معتبر مقصود شرعًا، وهو من الذرائع المعتبرة التي يجب فتحها، تحقيقًا لمصالح المسلمين، وتيسيرًا لسبل التعامل في المجتمعات.
  9. التورق الفردي والتورق المصرفي المنظم، تطبيقان على إعمال الذرائع سدًّا وفتحًا، والتورق الفقهي: “هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقدًا بثمن أقل غالبًا إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعًا، شرط أن يكون مستوفيًا لشروط البيع المقررة شرعًا. وأما التورق المنظم: فهو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالبًا. والتورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل. ولا يجوز التورقان (المنظم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤًا بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمنًا أو عرفًا، تحايلًا لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهو ربا”.(8)
    وتتميز عملية التورق الحقيقي بوجود ثلاثة أطراف مختلفة، وعقدين منفصلين دون تفاهم أو تواطؤ بين الأطراف. ومقصودها: الحصول على السيولة النقدية. ومناط القول بالمشروعية أنه بيع لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته؛ ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو نحوه، ولأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل يمنع من هذه المعاملة. لكن يشترط ألا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة؛ فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعًا؛ لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدًا محرمًا شرعًا.
    وأما التورق المصرفي المنظم: فيدخل في بيع العينة المحرم؛ لأن البنك هو مصدر السيولة للمستورق في الحالتين، فالنقد يحصل عن طريقه وبواسطته، ولولا علم المشتري بأن البنك سيوفر له النقد الحاضر لاحقًا لما أقبل على هذا العمل ابتداء. وفي التورق المصرفي إهدار للجهود المبذولة لتوجيه المصارف الإسلامية إلى تمويل في صورة استثمار عن طريق المشاركة والمضاربة والسلم ونحوها. وتهجير أموال المسلمين إلى الأسواق الدولية ليستفيد منها غيرهم؛ لأن تجارة التورق المنظم تكون في السوق الدولية؛ كالتورق في السلع أو المعادن الدولية في سوق لندن للمعادن الدولية، حيث يتم تبادل المعادن عن طريق أوراق أو سندات تسمى شهادات الحيازة أو شهادات التخليص…

فمدار المسألة على أصل سد الذرائع؛ فإن استعملت الذرائع طريقًا لمحرم فهي محرمة ويجب سدها كما في التورق المنظم، وإن استعملت طريقًا للحلال فهي جائزة ومطلوب فتحها كما في التورق الحقيقي بشروطه.
هذه بعض تطبيقات القاعدة في العقود المالية، ولها العديد من التطبيقات في هذا الباب، وفي جل أبواب الشريعة؛ مما يكشف عن أهمية القاعدة، وضرورة أن يضعها المجتهد في الشريعة عامة، وفي باب المعاملات المالية خاصة، نصب عينيه؛ ليقيم ميزان الذرائع سدًّا وفتحًا دون ميل أو انحراف عن الوسط الأعدل الذي جاءت به شريعة الإسلام؛ ليكون أداة لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وتلافي ما قد يؤدي إليه الخلط بينهما من تعسير وتضييق على الناس وإهدار للمصالح الشرعية، أو تفلت من أحكام الشريعة وارتكابٍ للمحرمات.

(1) الفروق، للقرافي: 1/177.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: 1/361.
(3) انظر: بدائع الصنائع، للكاساني: 5/198، إعلام الموقعين، لابن القيم: 3/150.
(4) انظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لابن الملقن الشافعي، ت: ٨٠٤هـ، ط1 دار النوادر-سوريا ١٤٢٩هـ/٢٠٠٨م: 14/219، إعلام الموقعين: لابن القيم: 3/125.
(5) انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 6/57، إعلام الموقعين، لابن القيم: 3/125.
(6) انظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، لشمس الدين الأصفهاني، ت: ٧٤٩هـ، ت: محمد مظهر بقا، ط1 دار المدني-السعودية ١٤٠٦هـ/١٩٨٦م: 3/234، علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، ط مكتبة الدعوة-مصر: 213، الموسوعة الفقهية الكويتية: 18/17.
(7) انظر: روضة القضاة وطريق النجاة، لابن السِّمناني، ت: ٤٩٩هـ، ت: د. صلاح الدين الناهي، ط2 مؤسسة الرسالة-بيروت ١٤٠٤هـ/١٩٨٤م: 1/449، المهذب، للشيرازي: 1/321.
(8) قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 179 (5/19).

Comments are disabled.