قاعدة: “سد الذرائع وفتحها- معتبر مقصود شرعًا”، وآثارها في العقود المالية (1/2)

بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

سدُّ الذرائع وفتحها قاعدة الشرع، وأصل من الأصول الشرعية المهمة، ويهدف سدُّها إلى درء المفاسد، كما يهدف فتحها إلى جلب المصالح. وهذا الميزان الشرعي المقاصدي المهم لابد من إقامته واعتباره عند النظر في عقود المعاملات المالية؛ لئلا يقع الباحث المجتهد في مفسدة من حيث يظنها مصلحة، وهذا ما استدعانا لتناول هذه القاعدة، وبيان آثارها في العقود المالية.

أولاً: المفاهيم الأساسية:

السَّدُّ لغة: الإغلاق، وإقامةُ الحاجز بين الشيئين.(1)
والذرائع لغة: جمع ذريعة، والمراد بها الوسيلة والسبب الموصِّل إلى الشيء.(2)
والذريعة اصطلاحًا: “هي الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلةٌ إلى فعل المحرَّم”(3)، والذرائع تكشف عن الوسائل التي يسلكها المكلف مختارًا لتحقيق مصلحة أو مفسدة؛ فإذا أدت الذريعة إلى مصلحة فإنها تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة، وإذا أدت إلى مفسدة فتكون محرمة أو مكروهة، وذلك بحسب درجة المصلحة والمفسدة في الحالات السابقة.
وسدُّ الذريعة: هو منع الوسيلة التي ظاهرها الإباحة؛ وتفضي غالبًا إلى مفاسد راجحة. فالوسائل والذرائع من حيث أصلها مباحة، والفعل المتوسل إليه محرم في الشرع، والوسيلة في غالب الظن تفضي إلى مفسدة راجحة.
والفرق بين الغلو في الدين وسد الذريعة: أن سد الذريعة هو منع ما يجوز لئلا يُتطرق به إلى ما لا يجوز، كما نقل ابن عاشور الذي أطال النفس في فتح الذرائع وسدها، وخصها بمبحث كامل ختمه بقوله: “فسد الذريعة موقعه وجود المفسدة، والغلوُّ موقعه المبالغة والإغراق في إلحاق مباح بمأمور أو منهي شرعي، أو في إتيان عمل شرعي بأشدَّ مما أراده الشارع، بدعوى خشية التقصير عن مراد الشارع، وهو المسمى في السنة بالتعمق والتنطع، وفيه مراتب، منها: ما يدخل في الورع في خاصة النفس، الذي بعضه إحراج لها، أو الورع في حمل الناس على الحرج، ومنها: ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة. ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة وما يسن لها من ذلك، وهو موقف عظيم”.(4)
وتتعلق الــذرائع بالأحكــام الشــرعية من جهتين: إحداهما: ســد الــذرائع: بقصد الحيلولة دون الوصــول إلــى الحرام والمفســدة؛ لأن وسيلة المحرم محرمة. والأخرى: فــتح الــذرائع: فيؤخذ بالذرائع إذا كانت ستؤدي إلى مصلحة؛ لأن مقصود الشرائع تحقيق مصلحة الخلق في الدارين.
قال القرافي: واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، ويكره ويندب ويباح. فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة؛ كالسعي للجمعة والحج. وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة، وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120]، فأثابهم على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم؛ لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة.(5)

ثانيًا: أقسام الذرائع من جهة المآلات:

قسَّم العلماء الذرائع ثلاثة أقسام:
الأول: ذرائع أجمعت الأمة على سدِّها؛ نظرًا لما تفضي إليه من المفاسد القطعية المحقَّقة؛ كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، وسبِّ ما يُعبَد من دون الله تعالى عند من يُعلَم من حالهم أنهم يسبون الله عند سبِّ معبوداتهم. وهذا النوع من الذرائع هو ما أدى إلى الحرام قطعًا، ويجب سدُّها ويحرم فتحها.
والثاني: ذرائع أجمعت الأمة على عدم منعها؛ لأن إفضاءها إلى المفاسد نادر؛ كالمنع من زراعة العنب خشية أن يتخذه بعض الناس خمرًا، والشركة في سكنى الآدر خشية الزنا، وحفر البئر بموضع لا يؤدي إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها ألا تضر أحدًا. وهذا النوع لا يؤدِّي إلى الحرام قطعًا، وتأديته إلى المفسدة نادرة. وهذا النوع من الذرائع يحقق المصالح بحسب مراتبها، ويتدرج حكمه بين الإباحة والندب والوجوب، كما قال القرافي: الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره، ويندب ويباح…
والثالث: ذرائع اختلف العلماء في سَدِّها، وهي ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا، وهي موضوع هذا المقال، وهي على وجهين: أحدهما: أن يكون غالبًا؛ كبيع السلاح من أهل الحرب، والعنب من الخمار، وما يغش به ممن شأنه الغش، ونحو ذلك فهو محرم. والآخر: أن يكون كثيرًا لا غالبًا، كمسائل بيوع الآجال التي تفضي إلى الربا المحرَّم. وهذا يؤدِّي غالبًا إلى الحرام.(6)

ثالثًا: بيان مقصود القاعدة:

القاعدة أصل من أصول الشريعة المتفق عليها في الجملة، ودليل من أدلتها المعمول به عند جل علماء المذاهب الأربعة، وإن توسع في ذلك المالكية كما أشار القرافي: “قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا”.
ولم يخالف في الأخذ بهذا الأصل بإطلاق إلا الظاهرية الذين أنكروه مطلقًا. قال ابن حزم: فكل من حَكَم بتهمة، أو باحتياط لم يستيقن أمره، أو بشيء خوفَ ذريعة إلى ما لم يكن بعد فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل؛ وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنب للحق.(7)
وقد كشف ابن القيم عن أهمية باب الذرائع في الشريعة، وسعته في أحكام الدين وتكاليف الشرع بقوله: “وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والآخر: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والآخر: ما يكون وسيلة إلى المفسدة؛ فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.(8)
ومعنى القاعدة: أن الفعل المباح في أصله إذا أفضى إلى ارتكاب محرَّمٍ، فإنه فعلٌ محظور شرعًا؛ سدًّا للذريعة إلى ارتكاب المحرَّم. قال الشاطبي: الذرائع قد ثبت سدُّها في خصوصيات كثيرة؛ بحيث أعطت في الشريعة معنى السدِّ مُطلقًا عامًّا(9)، كما أن الفعل المباح في أصله إذا أفضى إلى مصلحة معتبرة شرعًا، فإنه جائز ومشروع؛ فتحًا للذريعة إلى جلب المصالح الشرعية، وتيسيرًا على الناس في أمورهم الحياتية، كما أراد الشارع من الأحكام؛ قال تعالى: ﴿‌يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
والمقصود من القاعدة: أن ترك الأخذ بسد الذرائع المؤدية إلى الحرام يفضي لارتكاب الحرام، كما أن عدم الأخذ بفتح الذرائع المفضية إلى المصالح الشرعية المعتبرة؛ يؤدي لإهدار المصالح، والتضييق على الناس فيما يصلح عليه أمر دينهم ودنياهم، وفي ذلك نقض لأصول الشريعة وقواعدها ومقاصدها. قال ابن القيم: فإذا حرَّم الرَّبُّ تعالى شيئًا، وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعًا أن يُقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراء للنفوس؛ وحكمتُه تعالى وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء.(10)
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة سد الذرائع، وأنه تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، وذلك في الذرائع الممنوعة، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع، كما في قوله تعالى: ﴿‌وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، فقد منعت الآية من الجائز وهو سبُّ آلهة المشركين؛ لئلا يكون سببًا إلى فعل ما لا يجوز، وبهذا يتبين أن الوسيلة المشروعة إذا أفضت لنتيجة محرمة، فإن هذه الوسيلة تكون منهيًّا عنها.
قال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر.(11)
ومن هذا الباب “أمر الشارع بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول الأمن، وذلك سدًّا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب وتآلف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة؛ لئلا تختلف القلوب”.(12)
وعلى الفقيه المجتهد أن يحذر الذرائع الباطلة التي تهدم أصول الشريعة وقواعدها ومقاصدها، ومنها: ما يتوسل به من العقود والتصرفات المشروعة إلى مقصود محظور، ونقيضها: الذرائع المشروعة: وهي التصرفات الجائزة التي يتوسل بها إلى مقصود حسن مشروع، ويتخلص بها من الوقوع في الإثم… قال ابن القيم: “إن الشارع الحكيم في نهيه عن المفاسد نهى عن كل ما يوصل إليها تحقيقًا للتحريم وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حماه، فلو أباح الوسائل والذرائع الموصلة إلى المفاسد؛ لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء”.(13)
وعليه ألا يبالغ في سد الذرائع أو فتحها؛ لأن السدَّ أو الفتح اجتهاد مصلحي، والمصالح قد تتغير من وقت لآخر، كما أن المجتهد قد يغير اجتهاده مع الوقت؛ لوقوفه على مزيد من الأدلة والآثار المستقبلية للمفسدة أو المصلحة. كما أن لتغير الزمان والمكان وأحوال الناس أثر كبير في الاجتهاد المقاصدي، فمن يعيش في واقع مترع بالفتن والحروب والاضطرابات قد يتوسع في سدِّ الذرائع، فإذا تحول إلى واقع مغاير فإنه سيتوسع في فتح الذرائع، وكل هذا يحتم على المجتهد الاحتياط وفهم الواقع ورعاية أحوال الناس وضبط ميزان المصالح والذرائع.
وفي الاجتهاد الجماعي المعاصر صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 92) 9/9) بشأن سد الذرائع، وجاء فيه:

  1. سدّ الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
  2. سدّ الذرائع لا يقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام.
  3. سدّ الذرائع يقتضي منع الحيل إلى اتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
  4. ضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادرًا، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
    وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة -قطعًا- أو كثيرًا أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة.

هذه هي المفاهيم الأساسية لقاعدة الشريعة سدّ الذريعة وفتحها، وبيان معناها والمقصود بها، وأقسام الذرائع من جهة المآلات، وأما شروط العمل بالذرائع، وتطبيقات القاعدة في العقود المالية، فهو ما سنتناوله في المقال التالي.

(1) لسان العرب، لابن منظور: 3/207.
(2) لسان العرب، لابن منظور: 8/96.
(3) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 6/172.
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية: 365-370.
(5) الذخيرة، للقرافي: 1/153.
(6) انظر: الذخيرة، للقرافي: 1/152-153، الفروق، للقرافي: 2/33، الموافقات، للشاطبي: 3/54-55.
(7) الإحكام في أصول الأحكام: 6/13.
(8) إعلام الموقعين: 3/126.
(9) الموافقات: 4/67.
(10) إعلام الموقعين: 3/109.
(11) تفسير الكشاف: 2/56.
(12) إعلام الموقعين، لابن القيم: 3/116.
(13) إعلام الموقعين: 3/135.

Comments are disabled.