المال والأصول المالية والتمويل من منظور الاقتصاد الإسلامي الحديث

بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين

يكتسب موضوع المال والتمويل أهميةً متزايدةً من منظور الاقتصاد الإسلامي الحديث، وذلك بسبب التطوُّرات الكبيرة التي لحقت بالمال وبالتمويل في الحضارة الحديثة، خاصّةً في القرون الثلاثة الماضية والتي تضمنت تغيُّرات واسعة في جميع الأموال التي جرى توليدها وتدوالها بكميات ومقادير ضخمة لم تعرفها البشرية في تاريخها كله، كما حدث أيضًا استخدامُ صُورٍ جديدةٍ من الأموال، سواءٌ في شكل سلعٍ صناعية أو خدماتٍ أو منافعَ جديدة.
وقد أدّى كل ذلك إلى اتِّساع الأسواق المالية وتطوُّرها لاستيعاب الحاجة إلى تبادُل هذه الكميات الكبيرة من الأموال في صُورها المتنوعة، بغرض الوفاء بحاجات الإنسان في العصر الحديث، والتي تنوَّعت وتزايدت وارتقت وفقًا لترقّي نظام الحياة المعاصرة، والتي حقَّق الإنسان فيها درجة عالية من رخاءِ المعيشة، أو الرَّفه بتعبير ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
ولأهمية المال وفاعليته في الحياة الاقتصادية ولتأثيره الهائل على الأحوال والنظم والمجتمعات الإنسانية، لهذه الآهمية ثارت حوله التساؤلات في كل الأزمنة لا سيما من قبل الباحثين في الاقتصاد عموما والاقتصاد الإسلامي على وجه الخصوص.
ويأتي التساؤل حول مفهوم المال وماهيته على رأس هذه التساؤلات، بما يشتمل عليه من التوجُّه إلى المقارنة بين مفهوم المال عند فقهاء المسلمين والاقتصاديين المعاصرين له، ومدى اتفاقهما في تصوُّر ماهية المال، ومدى انسجام تقسيمات المال في الفقه الإسلامي مع نظيرتها في الاقتصاد الحديث، وما مفهوم الأصول المالية وأنواعها الحديثة، وما المقصود بالتمويل، وما أهميته وآثاره الاقتصادية، وما هو منهج الفقه الإسلامي في النظر إلى أدوات وسائل التمويل الحديثة؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي كثيرًا ما يتم طرحها سواء في التناول العلمي أو في الممارسات الفعلية في الأسواق المالية.

أولا: مفهوم المال بين الفقه الإسلامي وأدبيات الاقتصاد المعاصر

يؤكِّد التراث الفقهي في المعاملات المالية أن علماءنا الأوائل قد تناولوا تعريف المال بشكل منهجيٍّ سديدٍ، يتمثَّل الواقعَ الماليَّ للمعاملات المالية ويُدرك البيئةَ الاقتصاديَّةَ إدراكًا صحيحًا، وقد تنوَّعت مدارسهم في التعبير عن تعريف المال، لكننا نقرّ بكل وضوحٍ بأنهم قد تمكَّنوا من التعبير عن حقيقة المال بكل دقةٍ وانضباطٍ منهجيٍّ.
فبيَّنوا أن المال هو ما له قيمة مالية من الأشياء لوجود ميلٍ طبعيٍّ لتملُّكه وإحرازه، وذلك للانتفاع الذاتي به أو للوفاء بحاجات مالكه أو التصرُّف فيه بالمبادلة بمقابل، وقيَّدوا ذلك انطلاقًا من أصول الشريعة، بأن يكون مما يُباح الانتفاع به وأن يكون مشروعًا.
ونستخلص من كلامهم أن المال أشياء يُنتفع بها، ومن ثم توجد “رغبة” فيها، ويقع عليها “التبادل”، بمقابل أي “بثمن”، وهذه هي عناصر مفهوم السلع الاقتصادية عند الاقتصاديين المعاصرين؛ فالسلع والخدمات الاقتصادية هي ما ينتفع في إِشباع الحاجات الإنسانية، ويوجد (طلب) عليها أي: “رغبة فيها”، ويوجد (عرض) لها أي: “إنتاجها وبيعها في السوق”، ومن ثم يكون لها (ثمن) يعبِّر عن قيمة تلك السلع.
وبهذا نرى أن تعريف المال عند الفقهاء الأوائل قد أدرك بصورة واضحة وصحيحة حقيقة المال، أو السلع الاقتصادية بالتعبير الحديث، ويظهر ذلك بوضوح عند التعرُّض لتقسيم الفقهاء للأشياء من حيث ماليتها أو عدمها، فقد قسَّم الفقهاء المسلمون والأشياء إلى نوعين: أموالٍ، وأشياءَ غير مالية في مقابل ذلك.
وهذا ما وقف عنده علم الاقتصاد بعد تطوُّر طويل، حيث قسَّم الاقتصاديون الموارد إلى قسمين: موارد اقتصادية، وهي الموارد التي لها قيمة مالية، والقسم الآخر، هو الموارد الحرة، أي: الأشياء غير المالية، وبذلك يُطابِق النظر الفقهي ما توصل إليه علم الاقتصاد الحديث فيما يتعلق بتعريف المال والسلع الاقتصادية.

ثانيا: ذكاء التقسيم الإسلامي لأنواع الأموال وأثره في النظم الاقتصادية المعاصرة:

  1. تقسيم المال إلى نقود وعروض: علاوةً على ذلك يُقسِّم الفقه الإسلامي المال إلى: نقود وعُروض، أو إلى: أثمان وعُروض، وكان واضحًا لدى المسلمين الأوائل أن وظيفة النقود تختلف عن وظيفة السلع الأخرى، فالنقود عندهم – كما ذكروا ذلك بكل وضوح- هي معيار عام لقيم الأموال المتبادلة، وهي وسيط المبادلة المقبولة قبولًا عامًّا في المجتمع، وهي وعاء ادِّخار الأموال.
    بينما بيَّنوا أن وظيفة العروض. أي: السلع هي الانتفاع المباشر بها في إشباع الحاجات الإنسانية، فيذكر ابن قُدامة أن العُروض هي غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعها من: النبات، والحيوان، والعقار(1)، وسائر الأموال، ولا يخفى علينا أن هذا التقسيم له فوائده، وثمرته في كثير من الأحكام الفقهية خاصّةً في أبواب المضاربة والشركات؛ فيما يتعلق بتحديد رأس مال تلك الشركات، وكذلك في أبواب الصرف والربا والزكاة الخ، إلى غير ذلك من الأبواب الفقهية التي تظهر فيها آثار هذا التقسيم إما في صحة المبادلة أو في شكلها.
    وإذا نظرنا إلى أدبيات علم الاقتصاد المعاصر نجد تقسيما قريبَ الشَّبه من تقسيم الفقه الإسلامي للأموال، وهو كما يؤكِّدون بأنفسهم تقسيم له أهمية كُبرى في التحليل الاقتصادي المعاصر، فعلم الاقتصادي يميِّز بين أنواع المال والثروة المالية، فيذكر في بعض تقسيمات المال أنه قسمان:

    • القسم الأول: النقود أو الأشكال قريبة الشبه من النقود؛ لأنها يمكن أن تتحول إلى نقود سائلة في وقت قصير بدون تكلفة أو بتكلفة زهيدة، وذلك مثل الودائع النقدية، أو أذونات الخزانة الحكومية، وغيرها.
    • والقسم الثاني: هو الأصول الثابتة التي يصعب تحويلها إلى نقود، وتحتاج إلى وقت وتكلفة مالية.

    وهذه الغاية التي انتهى إليها التحليل الاقتصادي قد توصَّل إليها الاقتصاد الإسلامي قبل ذلك بفترة طويلة، ودوَّنتها كتب الفقه الإسلامي لغايات تطلَّبها التحليل الاقتصادي الفقهي الذي كان ولا يزال ضروريا لكثير من المبادلات والعمليات الاقتصادية، وهذا يُظهر مدى بعد نظر الفقه الإسلامي ودقة هذا النظر في تقسيمه للأموال، وإدراكه للمعايير المؤثرة في تقسيمات الأموال.

  2. تقسيم المال إلى قيمي ومثلي: وقسم الفقه الإسلامي المال إلى: مال مثلي، ومال قِيمِيٍّ. والمال المثلي هو ما تماثلت آحادة أو أجزاؤه، وبعبارةٍ معاصرةٍ هو المال أو السلع المتجانسة تجانُسًا تامًّا، ومثاله: أنواع السلع المعمِّرة؛ كالثلاجات، والسيارات من فئة أو ماركة معينة، فهي وحدات سلع متجانسة ولا يوجد فروق بين وحداتها.
    أما المال القيمي فهو ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يُعتدُّ به، حيث تختلف القيمة المالية السوقية لكل وحدة من وحدات السلعة، ومثالها المعاصر: المصنوعات اليدوية من السلع الجلدية؛ كالحقائب بأنواعها والأثاث المنزلي… الخ، ولهذا التقسيم أثره العام في أبواب الفقه، فالمثلي يصلح أن يكون ثمنًا وأن يكون دَيْنًا في الذمة باتفاق الفقهاء، والمستهلَك منه يرد مثلُه، في حين أن المتلف من القيميات يُضمَن بقيمته. أي: تردُّ قيمته عند استهلاكه، إلى غير ذلك من الأحكام الفقهية التي تتعلق بتقسيم المال إلى قيمي ومثلي.
  3. تقسيم المال إلى عقار ومنقول: وقسم الفقه الإسلامي المال إلى عقار ومنقول، وهو تقسيم شائعٌ أخذت به القوانين المدنية المعاصرة، والعقارات هي الأصول الثابتة بالاصطلاح المعاصر؛ كالأرض وما اتصل بها من الأبنية والأشجار، وما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، والمنقول هو ما يقابل العقار، وهو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، وبالتعبير المعاصر هو الأصول المالية والمتداولة.

وهذه التقسيمات تُظهر مدى تميز الفقه الإسلامي ودقته في نظرته للأموال ودقته في إدراك حقائقها، وقدرته على تصنيفها تصنيفاتٍ تناسب طبائعها الاقتصادية؛ لضبط الأحكام الفقهية وتعزيز القدرة على استثمار الأموال، ولا جدال في ذلك بعد أن ظهر أن هذه التقسيمات أخذت طريقها إلى أدبيات علم الاقتصاد المعاصر ومدوَّنات القوانين الوضعية، وناهيك بذلك شهادة على تميُّز التراث الاقتصادي الإسلامي.

(1) المغني لابن قدامة، مكتبة القاهرة (3/ 58).

Comments are disabled.