الاستدلال على تحريم الغرر في التصرفات المالية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
لم ينصَّ القرآن الكريم على الغرر في آية من آياته، وإنما جاء النهي عنه داخلًا تحت أصل النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، الذي ورد في القرآن الكريم وعمَّ كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وغيرها، وما يأخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق كما قال ابن تيمية(1).
وإن تحريم أكل المال بالباطل قد قامت عليه أدلةٌ كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ من النقل، والعقل، والأثر، والنظر، نذكر منها ما يلي:
1. الاستدلال من القرآن:
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. وإن المراد بقوله تعالى: “بالباطل” هو: ما لا يحل شرعًا ولا يفيد مقصودًا، لأن الشرع نهى عنه ومنع منه، وحرم تعاطيه كالربا، والغرر ونحوهما.
قال ابن العربي: “والباطل ما لا فائدة فيه، ففي المعقول هو عبارة عن المعدوم، وفي المشروع عبارة عمَّا لا يفيد مقصودًا“(2).
وقال في موضع آخر عند الكلام على أقسام البيع المنهي عنه: “إن هذه الأقسام لا تخرج عن ثلاثة هي: الربا، والباطل، والغرر، ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون على قسمين على الآيتين“(3).
وقال القرطبي: “والآية دليل على أن الباطل في المعاملات لا يجوز“(4)، والغرر من المعاملات الباطلة.
والآيتان تعدّان من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات، وهما الأصل في حفظ الأموال، وتتناولان جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنهي من أن يأكل بعضهم مال بعض بغير حقٍّ.
2. الاستدلال من السنة والآثار:
لما كان ثبات الأموال لا يقتصر على تخليص ملكيتها لأصحابها، وإنما يمتدُّ ليشمل حماية تلك الملكية مما قد يتطرَّق إليها من وجوه الفساد المختلفة، ولعل أعظمها خطرًا وأكبرها ضررًا هو الغرر، وهو داخل تحت الأصل الكلي المنهي عنه، ألا وهو أكل أموال الناس بالباطل، فجاء منعه وإبطاله في السنة الشريفة وذلك بالنهي عنه مجملًا ومفصَّلًا، كليًّا وجزئيًّا.
وبناءً عليه فلقد ورد في السنة أحاديث عديدة تنهى عن الغرر بصيغة الإجمال، وكذا بصيغة التفصيل حسب المسائل ونوع العقود وصور الغرر التي تتلبَّس بهما.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»(5).
قال النووي في شرح الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم: “أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة”(6).
وعن عمران بن حصين قال: “نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ أَنْ تُحْلَبَ وَعَنْ الْجَنِينِ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَعَنْ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَعَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ“(7).
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ»(8).
وقد نَقَل نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر مجموعةٌ من الصحابة والتابعين منهم: عبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن عمر، وعامر الشعبي، وسهل بن سعد.
وعن شيخ من تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب، أو قال قال علي: “سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ «وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ»(9).
وقد أدرج الإمام البخاري في صحيحه في “كتاب البيوع” بابًا عَنْوَنَه بـ: “باب بيع الغرر وحَبَل الحَبَلة”، ولكنه لم يذكر فيه حديث النهي عن بيع الغرر الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، واكتفى فيه بذكر حديث النهي عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وعن بيع المنابَذَة والـمُلامَسة.
إلا أن السُّنة لم تكتفٍ بالنهي العام عن بيع الغرر وتحريمه، بل جعلته مناطًا لعدد من أحكامها، من ذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ»، فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: «تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ، أَرَأَيْتَكَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟“(10).
والذي يتبيَّن لي أن النهي في هذا الحديث مبناه على أساس قطع كل السُّبل المفضية إلى أخذ أموال الناس بغير حقٍّ، ولئلا يكون بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها ذريعةً إلى أكل مال المشتري بغير حقٍّ إذا كانت معرَّضةً للتلف، وقد يمنع الله الثمر بحصول عدم صلاحها؛ لأن الأصل في مثل هذه المعاوضات والمقابلات هو تعادل بين الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على الغرر دخلها الظلم، فحرَّمها الله الذي حرَّم الظلم على نفسه وجعله محرَّمًا بين عباده، وعلَّق ابن العربي على الحديث السابق فاعتبره أصلًا في الدين، وتنبيهًا على كثير من الوجوه التي يتطرَّق بها الفساد إلى بيعات المسلمين.
وقد جعلت السنة الغرر علةً لإبطال جملةٍ من التصرُّفات منها إباحته القيام بالغبن في قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: إني أخدع في البيوع: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ»(11)، وفيه نفي الخديعة بين أفراد الأمة.
ومما يندرج في سلم هذه المعاني: فسخ البيع المتضمن للشروط التي تؤدي إلى الإخلال بشرط من الشروط اللازمة لصحة العقد، كشرط ما يؤدي إلى الجهل والغرر في العقد أو في الثمن أو المثمون.
وقد بيَّن القرافي أن تحريم عقود الغرر من حقوق الله، فلا يجوز للعبد إسقاطه، ولو رضي المتعاقدان بذلك لا يعتبر رضاهما، وفيه مع ذلك حقٌّ للعباد؛ لأن الله تعالى إنما حرَّمها صونًا لمال العبد من الضياع.
3. الاستدلال من الإجماع:
أما الإجماع فمعلومٌ من دين الأمة ضرورةً أن أخذ أموال الناس واقتطاعها بغير حقٍّ حرامٌ لا يحل ولا يجوز، سواء في ذلك أموال المسلمين والمعاهَدين، ومن أخذها على السبيل التي وصفنا فهو بفعله آثمٌ وبأخذه ظالمٌ.
والذي نستخلصه من هذه الدلائل والعلل كلها هو مقصدٌ واحدٌ وهو إبطال الغرر في المعاوضات، فلم يبقَ خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطرٍ أو غررٍ في ثمنٍ أو مثمونٍ أو أجلٍ هو تعاوضٌ باطلٌ.
(1) القواعد النورانية (ص: 168).
(2) أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/ 138).
(3) أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/ 324).
(4) تفسير القرطبي (2/ 339).
(5) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر (3/ 1153) حديث رقم (1513).
(6) شرح النووي على مسلم (10/ 156).
(7) عزاه ابن حجر في التلخيص لأبي بكر بن أبي عاصم، ينظر: التلخيص الحبير (3/ 15).
(8) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 452) أثر رقم (22050).
(9) سنن أبي داود، كتاب البيوع، بيع المضطر (3/ 255) برقم (3382).
(10) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح (3/ 1190) حديث رقم (1555).
(11) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع (3/ 65) حديث رقم (2117) ومسلم، كتاب البيوع، باب من يخدع في البيوع (3/ 1165) حديث رقم (1533).