التحليل الاقتصادي لكتاب “الخراج” لأبي يوسف

بقلم الدكتور/ رامي عيد مكي

يُظهر البحث في تاريخ الاقتصاد الإسلامي وجود إسهامات بارزة لعلماء المسلمين في شتى مجالات وجوانب الاقتصاد الإسلامي، فلم يكد ينتصف القرن الثاني من الهجرة حتى بدأ أهل العلم من الفقهاء يجمعون ما تفرَّق من النصوص والآثار في باب الخراج في كُتُبٍ منفصلة، لاسيما مع اهتمام الأمراء والحكام بتطبيق الشريعة الإسلامية في الجانب المالي والاقتصادي للدولة الإسلامية؛ لذلك بدأت كتب الخراج تَظهَر تباعًا في فترات متقاربة، حتى وصلت لأكثر من عشرين كتابًا تحمل نفس الاسم، وكان من أهم هذه الكتب كتاب “الخراج” لأبي يوسف، الذي يُعدّ كتاب فقه واقتصاد في الوقت نفسه ومؤلف فقيه مجتهد ومفكر وقاضٍ للدولة في عهد هارون الرشيد؛ ولهذا ظهرت الصبغة الفقهية في تناول الكتاب للقضايا الاقتصادية، حيث وظهرت عنايته بالتنظيمات المالية والاقتصادية على أسس فقهية، إلى جانب أنه قدَّم صُورًا متتابعة لتطور النظم المالية والاقتصادية منذ عصر النبي ﷺ حتى عصر هارون الرشيد(1)، فهو من أوائل الكتب التي سَطَّرت السياسة المالية للدولة الإسلامية.
وتتعرَّض هذه الورقة للتعريف بمؤلف هذا الكتاب، والتعريف بالكتاب، مع استعراض سبب تأليف الكتاب وأهميته، وصولًا لبيان التصنيف الاقتصادي له بصورة مختصرة، على النحو الآتي:

أولاً: تعريف بالمؤلف:

هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ولى القضاء ببغداد، ولم يزل بها إلى أن مات سنة اثنتين وثمانين ومائة (182هـ) في خلافة الرشيد(2).

ثانياً: التعريف بالكتاب:

تعدَّدت مخطوطات الكتاب بالمكتبات العربية والغربية، وطُبع لأول مرة في المطبعة الأميرية ببولاق مصر عام 1884م، وتُرجِمت هذه الطبعة إلى الفرنسية وطبع في باريس عام 1921م، كما تُرجِم للعديد من اللغات الأخرى، ثم طُبِع بالمطبعة السلفية بالقاهرة عام 1927م، ثم طُبِع في عام 1932م، ثم تعدَّدت طبعات الكتاب فيما بعد(3)، كما تعدَّدت الأبحاث والدراسات التي تناولت هذا الكتاب، بحثًا وتحقيقًا، وتحليلًا على المستوى الفقهي والحديثي والتاريخي والاقتصادي.

ثالثاً: سبب تأليف الكتاب:

تحدَّث “أبو يوسف” عن دوافع تأليف كتابه، فبيَّن أنه كان على رأسها طلب الخليفة إليه أن يؤلِّف كتابًا في هذا الجانب على أن يكون كما أراد الخليفة ووصف أبو يوسف: “كِتَابًا جَامِعًا يَعْمَلُ بِهِ فِي جِبَايَةِ الْخَرَاجِ، وَالْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْجَوَالِي [أموال الجزية]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ رَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالصَّلاحَ لأَمْرِهِمْ. وَفَّقَ اللَّهُ تَعَالَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَدَّدَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى مَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ مِمَّا يَخَافُ وَيَحْذَرُ. وَطَلَبَ أَنْ أُبَيِّنَ لَهُ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ مِمَّا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأُفَسِّرَهُ وَأَشْرَحَهُ. وَقَدْ فَسَّرْتُ ذَلِكَ وَشَرَحْتُهُ(4)، ونجد في بعض نسخ الكتاب تنويهًا بذلك، فجاء تحت عنوان الكتاب في بعض النسخ: “اقترح عليه إنشاءه وتصنيفه كبيرُ ملوكِ الأرض في عصره هارون الرشيد أمير المؤمنين“.

رابعاً: أهمية الكتاب:

بيَّن أبو يوسف لهارون الرشيد أهمية كتابه، فذكر أنه كفيلٌ بضبط أمور الخراج، وفقًا للعدل الذي يكثر به الخراج وتُستصلح به الأحوال ويرتفع الظلم الذي به تسوء الأحوال ويكثر الفساد، وقد توجَّه بذلك إلى هارون الرشيد قائلا: “وَإِنِّي لأَرْجُو -إِنْ عَمِلْتَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ- أَنْ يُوَفِّرَ اللَّهُ لَكَ خَرَاجَكَ مِنْ غَيْرِ ظُلْمِ مُسْلِمٍ وَلا مُعَاهَدٍ، وَيُصْلِحَ لَكَ رَعِيَّتَكَ فَإِنَّ صَلاحَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ وَرَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَالتَّظَالُمِ فِيمَا اشْتَبَهَ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَيْهِمْ. وَكَتَبْتُ لَكَ أَحَادِيثَ حَسَنَةً، فِيهَا تَرْغِيبُ وتحضيضُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ، مِمَّا تُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ(5)، ثم أورد أبو يوسف الكثير من الأحاديث النبوية التي تعضِّد كلامه، وأعقبها بوصايا الخلفاء الراشدين لأمرائهم ولمن يخلفهم.

خامساً: التحليل الاقتصادي للكتاب(6):

1. تنقسم موضوعات الكتاب إلى ثلاثة موضوعات رئيسية: إيرادات الدولة، النفقات العامة، أخلاقيات النظام المالي، وفي ضوء ذلك يُصنَّف الكتاب ضمن كتب “النظام المالي الإسلامي”. أي: ما يتصل بإيرادات الدولة ونفقاتها، وفيما يلي تحليل مركَّز لموضوعات الكتاب الثلاثة من خلال ما يلي:

  • 1-1 الموضوع الأول: إيرادات الدولة: تناول الكتاب صنفين أساسيين من إيرادات الدولة:
    الصنف الأول: إيرادات الدولة من ممتلكات الأفراد؛ كالزكاة، والخراج، والعشور “الضرائب والرسوم في الاقتصاد المعاصر”.
    الصنف الثاني: إيرادات الدولة من ممتلكاتها الاستثمارية؛ كالحمى.
    كما تناول الكتاب تقسيمًا آخر لإيرادات الدولة؛ حيث قسمها إلى:

    • الإيرادات الاعتيادية: وهي الإيرادات التي يتم تحصيلها بشكل دوري مستمر، وحددها في “الخراج، والصدقات، والعشور، والجزية”.
    • الإيرادات المتغيرة: وهي الإيرادات التي تتسم بعدم الثبات، ولقد حددها في الغنائم، وما يخرج من البحر، والمعادن، والركاز(7)، وتشير هذه التقسيمات إلى جملة من الحقائق حول الاقتصاد الإسلامي:
      • 1-1-1 إن وجود نوعين للإيرادات تتمثل في الضرائب على الملكيات الخاصة وعوائد مملتكات الدولة يؤكِّد أن الاقتصاد الإسلامي من حيث طبيعته المذهبية ليس من قبيل الاقتصاديات الفردية [الرأسمالية]، وليس -كذلك- من قبيل اقتصاديات التدخل الشامل [الاشتراكية]، ولا هو مزيج بينها بحكم هذا السبق فقد كتب الكتاب في فترة لم تعرف مساهمات غربية في هذا المجال.
      • 1-1-2 دخول العشور [الضرائب الجمركية حالياً] ضمن الإيرادات المالية للدولة، يكشف عن التنظيم المالي المتقدِّم الذي شهدته الدولة الإسلامية وعالجه أبو يوسف في كتابه في وقت متقدم جدًّا عن الكتابات المالية الغربية.
      • 1-1-3 غياب ضريبة الرؤوس(8) في النظام المالي الإسلامي، يؤكد على قيام الاقتصاد الإسلامي على أساس العدالة، وقد كانت تلك الضريبة منتشرة في البلاد الغربية وقتئذ، وذلك لسهولة إدارتها وتحصيلها، ولكنها لم تكن من العدالة بمكان؛ لكونها تُفرض دون الاعتداد بالمقدرة التكليفية للأفراد.
      • 1-1-4 تخصيص الإيرادات في النظام المالي الإسلامي يحقِّق أهم الوظائف المالية المعاصرة، والتي منها ما يلي:
        • وظيفة الضمان الاجتماعي لجميع أفراد المجتمع، وذلك بضمان حدٍّ أدنى من الدخل، وبالحد من التفاوت في توزيع الدخول.

        • وظيفة تحقيق الأمن، ونفقات الجيش، وما تحتاجه الدولة للدفاع.
        • وظيفة تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمع.
        • وظيفة مواجهة الظروف الطارئة وغير العادية.
        • وظيفة تحقيق التوازن والاستقرار بين الأجيال، ومن الموارد التي استُخدِمت في هذه الوظيفة استبقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض السواد ورفض توزيعها على الفاتحين.
  • 1-2 الموضوع الثاني: نفقات الدولة: تختلف دراسة نفقات الدولة في الاقتصاد الإسلامي عن نفقات الدولة في الاقتصاديات الوضعية، حيث إن دراسة نفقات الدولة في الاقتصاد الوضعي تكون منفصلة عن دراسة الإيرادات العامة. أي: لا يوجد ربط بين الإيراد العام والنفقة العامة، بينما في الاقتصاد الإسلامي تتم دراسة نفقات الدولة مرتبطة بالإيرادات، فالربط بين الإيراد والنفقة هو الأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي، والاستثناء من هذه القاعدة محدَّدٌ، وقد ترتَّب على ذلك العديد من الآثار الإيجابية ومنها:
    • 1-2-1 إن ربط الإيرادات بالنفقات يحدِّد مصارف هذه الأموال بدقَّة، وبالتالي يحدُّ من تدخُّل السلطات المالية وظُلمها لبعض الفئات في المجتمع لاسيما الفقراء، كما يحدُّ من الإسراف والبذخ العام، والذي يؤثِّر سلبًا على فئة الفقراء والمحتاجين في المجتمع.
      ويظهر ذلك الربط بوضوح في مصارف الزكاة المحدَّدة تحديدًا قطعيًّا، والذي يوضحه عمليًّا فصل إيرادات الزكاة والصدقات عن إيرادات الدولة، فلكل منهما بيت مال خاص به، يقول أبو يوسف لهارون الرشيد: “لا يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ مَالُ الْخَرَاجِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ؛ لِأَن الْخراج فِيءٌ لجَمِيع الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَاتِ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ(9).
    • 1-2-2 الحدُّ من الانحرافات في قرارات السلطات المالية، والتي تتمثل في فرض ضرائب متعدِّدة، لاسيما الضرائب غير المباشرة التي لا تُراعي الظروف الشخصية أو المقدرة التكليفية للمموِّلين، هذا فضلًا على أنها غالبًا ما تُفرض على السِّلع الضرورية، مما يجعل عبئها الأكبر يقع على عاتق الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
  • 1-3 الموضوع الثالث: المعايير الأخلاقية للاقتصاد الإسلامي: يختلف الاقتصاد الإسلامي اختلافًا جوهريًّا عن الأنظمة الاقتصادية الوضعية في مسألة اعتماد المعايير الأخلاقية، حيث لا تعتمد الاقتصاديات الوضعية هذه المعايير وإنما تنحِّيها جانبًا، وهذا ما يميِّز الاقتصاد الإسلامي عن غيره.

2. يُسجِّل هذا الكتاب سبقًا للاقتصاد الإسلامي؛ لأنه وضع في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، أي أن الكتاب وضع في فترة العصور الوسطى [500-1500م] التي يُطلَق عليها العصور المظلمة في أوروبا، التي لم تظهر فيها أي مساهمة غربية حقيقية في الفكر الاقتصادي.
3. يظهر من الكتاب أن الاقتصاد الإسلامي ونظامه المالي كان يحكم الحياة الاقتصادية في الدولة الإسلامية اعتقادًا وسلوكًا.
4. أن الاقتصاد الإسلامي لم يُعِقِ التقدُّم الاقتصادي للدولة الإسلامية، بل يُعد الاقتصاد الإسلامي أحد مرتكزات الحضارة الإسلامية، وذلك يؤكِّده التطبيق العملي للاقتصاد الإسلامي في الدولة الإسلامية في أزهي مراحل الحضارة الإسلامية.
5. أهمية البُعد العقدي في الاقتصاد الإسلامي، والذي يُعد أهم مرتكز ومنطلق له، يقول أبو يوسف مخاطباً أمير المؤمنين: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ -وَلَهُ الْحَمْدُ- قَدْ قَلَّدَكَ أَمْرًا عَظِيمًا: ثَوَابُهُ أَعْظَمُ الثَّوَابِ، وَعِقَابُهُ أَشَدُّ الْعِقَابِ؛ قَلَّدَكَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ فَأَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ وَأَنْتَ تَبْنِي لِخَلْقٍ كَثِيرٍ قَدِ اسْتَرْعَاكَهُمُ اللَّهُ وَائْتَمَنَكَ عَلَيْهِمْ وَابْتَلاكَ بِهِمْ وَوَلاكَ أَمْرَهُمْ، وَلَيْسَ يَلْبَثُ الْبُنْيَانُ إِذَا أُسِّسَ عَلَى غَيْرِ التَّقْوَى أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَيَهْدِمَهُ عَلَى مَنْ بَنَاهُ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ؛ فَلا تُضَيِّعَنَّ مَا قَلَّدَكَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَالرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ فِي الْعَمَلِ بِإِذْنِ اللَّهِ(10).

(1) محمد محمد مرعي، التنظيمات المالية والاقتصادية في كتاب الخراج لأبي يوسف، رسالة ماجستير، المعهد العالي للدراسات الإسلامية، القاهرة، مصر، 1978م، صـ117/118.
(2) ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط2، 1997م، صـ286.
(3) مأمون الصاغرجي، كتاب الخراج لأبي يوسف، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجمع اللغة العربية، دمشق، سوريا، 1985م، مج60، ج2، صـ359.
(4) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد الأنصاري “أبو يوسف”، الخراج، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد – سعد حسن محمد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، مصر، ط1، 1999م، صـ13.
(5) المرجع السابق، صـ16.
(6) رفعت السيد العوضي، النظام المالي في الإسلام، القاهرة، مصر، المعهد العالي للدراسات الإسلامية، 2013م، 72/79.
ورفعت السيد العوضي، من التراث الاقتصادي للمسلمين، سلسلة دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي، مكة الكرمة، السعودية، 1987م، صـ134/135.
(7) وافية نابتي – سارة ركاب، موارد بيت المال في الدولة العباسية من خلال كتاب الخراج، مذكرة ماستر، كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية، جامعة قالمة، الجزائر، 2017م.
(8) يقصد بالضرائب على الأشخاص تلك الضرائب التي تفرض على الأشخاص بحكم وجودهم على إقليم الدولة، وهذه الضريبة تتخذ الشخص ذاته وعاء للضريبة بصرف النظر عن دخله أو رأسماله أو غير ذلك من الظروف المالية، ولقد انتشر هذا النوع من الضرائب في المجتمعات القديمة.
خالد سعد زغلول – إبراهيم حمود, الوسيط في المالية العامة, كلية الحقوق, جامعة الكويت, الكويت, 2002م، صـ231/233.
(9) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد الأنصاري “أبو يوسف”، الخراج، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد – سعد حسن محمد،المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، مصر، ط1، 1999م، صـ93
(10) المرجع السابق، صـ13

Comments are disabled.