حكم تملك أعضاء الهيئة الشرعية أسهمًا في المؤسسات المالية التي يعملون لحسابها
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
مما لا شك فيه أن تجنُّب تملُّك أعضاء هيئة الرقابة الشرعية أسهمًا في المؤسسة المالية التي ينتمون إليها أولى؛ وذلك ضمانًا للنزاهة، وإبعادًا لنوازع النفوس، وقطعًا لاحتمالات الشكوك والشبهات، لا سيِّما أن الفتاوى والقرارات التي تُصدرها هيئة الرقابة الشرعية بإجازة عقد من العقود تتضمن الشهادة للمصرف بأن ذلك العقد متوافق مع الضوابط الشرعية، فهي فتوى فيها معنى الشهادة؛ ولهذا تُسمَّى قرارات الهيئة شهادات إجازةٍ أو مطابقةٍ.
وبناءً عليه فإن عضو هيئة الرقابة الشرعية يُمنع من تملُّك أسهم في المؤسسة التي ينتمي إليها حتى لا يجلب بشهادته نفعًا لنفسه، أو يجر بها تُهمةً للهيئة التي هو عضو فيها، أو يكون تصرُّفه ذريعةً للطعن في مصداقية الهيئة التي هو عضو فيها، وعلى قطع هذه التصرُّفات وسدِّ ذرائعها اتَّفقت كلمة الفقهاء حيث قالوا: بإسقاط كل شهادة كان صاحبها محلَّ تُهمة مع اختلافهم في بعض التفاصيل.
والأصل في عدم قبولها أثر عمر رضي الله عنه قال: “لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ“(1).
قال في شرح المنتهى: “من الموانع أن يجر الشاهد بشهادته نفعًا لنفسه؛ كشهادته لشريكه فيما هو شريك فيه، قال في المبدع: لا نعلم فيه خلافًا؛ لاتهامه وكذا مضارب بمال المضاربة، قال: لأنها شهادة لنفسه”(2).
قال ابن حارث الخشني: “فكل شهادة سقط بعضها لتهمة الشاهد فإن شهادته في سائر الشهادات ساقطة”(3).
ومن مقررات الشريعة التي لا خلاف فيها أن عناية الشرع بدرء المفاسد، أشدّ من عنايته بجلب المصالح، وبناءً عليه فإن عضو الهيئة الشرعية إذا أجزنا له امتلاك أسهمٍ في المؤسَّسة المالية التي ينتمي إليها فسيحقِّق مصلحته الخاصة ويعود نفعها عليه وليس لغيره فيها شيء.
ولا شك أن النفع الذي جلبه لنفسه بامتلاكه أسهما في مؤسسة يعمل لصالحها، سيجر ضررًا بيِّنًا على غيره وهي الهيئة، وذلك من جهة التُّهمة التي ستلحق بها بسبب ذلك، ثم تتعدّاها للمؤسسة التي تنتمي إليها الهيئة؛ بسبب اختلال الثقة وقُوَّة التُّهمة التي لحقت بجهة الرقابة الشرعية فيها.
إذا علمنا ذلك فإن جانب المفسدة المترتبة على هذه الإجازة أقوى من جانب المصلحة المجلوبة، وعليه وجب تقديم جهة الدرء على جهة الجلب ولا تترك لها؛ لأنه إذا كان التفاوت لصالح جهة المفسدة فكانت هي الغالبة، فإنّه يجب دفعها، ولهذا قال المقَّري: (عناية الشرع بدرء المفاسد، أشدّ من عنايته بجلب المصالح، فإن لم يظهر رُجحان الجلب قدم الدرء)(4).
وقال الإمام الشاطبي: (كذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة فالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعًا، ولأجله وقع النهي؛ ليكون رفعها على أتمّ الإمكان العادى في مثلها حسب ما يشهد له كل عقل سليم، فإذا تبعتها مصلحة أو لذّة فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغىً في مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة في مقتضى الأمر)(5).
مناقشة رأي المجيزين لامتلاك أعضاء الهيئات الشرعية أسهمًا في مؤسسات يعلمون لصالحها:
في مقابل هذا الرأي فهناك من يرى أنه إذا كانت نسبة ما يملكه عضو الهيئة من الأسهم نسبةً قليلةً، فهي غير مؤثرة في قرار المؤسسة المالية ولا فتاوى الهيئة، لأن ما يترتب عليها من تهمة حينئذ أمر نادر الوقوع فلا مانع من ذلك، ويترك هؤلاء تحديد نسبة التأثير وعدمها إلى العرف المتبع في ذلك، وأفصحوا على أن الأفضل ألا تصل هذه النسبة إلى 5% .
إن هذا الاستثناء من جانب الشريعة صحيحٌ ولا إشكال فيه؛ لأن التصرُّف الذي دخل فيه عضو الهيئة بامتلاك نسبة غير مؤثرة من أسهم المؤسسة المالية التي ينتمي إليها إنما هو عمل لا يفضي إلى مضرة ذات مفسدة قطعية بالغير، وإنّما قد يفضي إلى مضرّة ذات مفسدة نادرة بالغير، ولو منع عضو الهيئة من تصرُّفه فإنه لا يتضرر بذلك؛ لإمكان تحصيل قصده من جهة أخرى.
وتخريج ذلك أن مثل هذا العمل يجوز له الدخول فيه، حتى وإن كان عالـمًا بحصول المفسدة النادرة للغير، كما أنّه لا يعدّ قاصدًا تلك المفسدة في عمله، إذ النظر هنا متَّجه إلى المصلحة الغالبة فهي المعتبرة في الشريعة، ولا عبرة بالندور في انخرامها.
يقول الإمام الشاطبي في هذا المجال: “إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة، إلا أن الشارع إنّما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يعتبر ندور المفسدة؛ إجراءً للشرعيات مجرى العاديات في الوجود”(6).
إن ما سبق تخريجه من جواز التملُّك إذا كانت النسبة غير مؤثرة صحيحٌ، كما سبقت الإشارة إليه في حق فرد واحد من الهيئة، لكن تقع المشكلة عند التعدد، وذلك أنه إذا كان الجميعُ يمتلك نفس النسبة في المؤسسة المالية التي ينتمون إليها، فإن تلك النسب باجتماعها تكون مؤثرةً فتمنع؛ ونظرًا لتعذر الإذن لفرد من الهيئة بتملك نسبة غير مؤثرة ومنع الآخرين من ذلك، كان منع الجميع هو الأحوط والملائم لمقاصد الشريعة، وهو القرار الذي اختاره مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الأخيرة(7).
إلا أن بعض الباحثين يرى جواز مساهمة أعضاء الرقابة الشرعية في المصرف الذي ينظرون في معاملته، ويرَوْن أنه ليس من العدل منعهم من المساهمة في تلك المصارف، وهؤلاء الأعضاء من المفترض أنهم أحرص من غيرهم على تحرّي المعاملات الحلال لأنفسهم ولغيرهم.
وإذا ما عرفنا أن هؤلاء الأعضاء من القلة بمكان، ومنهم من يعمل في أكثر من مصرف إسلامي، فمن غير العدل منعه من المساهمة في كل تلك المصارف التي يعمل فيها، أما القول بأن مساهمته قد تؤثِّر على قرار المصرف فغير صحيح؛ لأنه من المفترض أن يكون عضو الهيئة من أهل التقوى والورع، وهذا يمنعه من مجاملة المصرف الذي يمتلك أسهمًا فيه.
والذي ينبغي بيانُه هنا أن الحقائق الشرعية لا تُبنَى على الجمل الوعظية، وإنما تبنى على الأدلة النقلية، والبراهين العلمية المؤيدة لها، والحجج العقلية الدالة عليها، والمقاصد الشرعية المؤَدِّية إليها.
وبناءً عليه نقول: إن التصرف الذي دخل فيه عضو الهيئة بامتلاك نسبة مؤثِّرة من أسهم المؤسسة المالية التي ينتمي إليها، إنما هو عمل يلزم عنه إضرار بالغير يفضي إلى مفسدة غالبة فيهم – الهيئة والمؤسسة المالية – ولو مُنِعَ عضو الهيئة من تصرُّفه فإنه لا يتضرر بذلك لإمكان تحصيل قصده من جهة أخرى.
والراجح في هذه المسألة هو إلحاق المفسدة الغالبة بالمفسدة القطعية، فتأخذ أحكامها، وقال الشاطبي معللاً ذلك؛ “لأن الظنّ في أبواب العمليات جار مجرى العلم”(8).
وحاصل المسألة بجميع وجوهها هو المنع مطلقًا لعضو الهيئة من امتلاك أسهم بنسبة مؤثِّرة أو غير مؤثِّرة في المؤسسة المالية التي تنتمي إليها الهيئة؛ وذلك استنادًا على ما سُقناه من أدلة وبراهين مذكورة في مواقعها.
(1) أخرجه مالك بلاغا في الموطأ (4/ 1043) (2667)..
(2) شرح منتهى الإرادات للبهوتي (3/ 597).
(3) أصول الفتيا (ص: 318).
(4) القواعد للمقري (2/ 443).
(5) الموافقات للشاطبي (2/ 46).
(6) الموافقات (3/ 74).
(7) في الدورة التاسعة عشرة المنعقدة بالإمارات – الشارقة، 26-30 أبريل 2009م.
(8) الموافقات (3/ 75).