الأوقاف ودورها المأمول في تسوية النزاعات الدولية على المياه

بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن الكيلاني
عميد كلية الشريعة-الجامعة الأردنية

أولاً: المياه والصراع الدولي:

إذا كان الصراع على الموارد الطبيعية هو من أقوى أسباب الصراع بين الأفراد والجماعات والدول في الماضي والحاضر، فإن النزاع على المياه قد يكون من أهم أسباب إثارة الصراع في العالم في المستقبل، حيث يرى بعض الخبراء، أن “الذهب الأزرق” (المياه) سيحل محل “الذهب الأسود” (النفط) في القرن الحادي والعشرين؛ وأن العالم الذي شهد حروبًا شرسة من أجل النفط في الماضي، يتوقع أن يشهد جولة أخرى من الحروب على المياه في المستقبل، وأن الحروب القادمة ستكون حروبا على المياه.
وقد سلط فريدريك لاسير، الأستاذ في جامعة لافال في مقاطعة كيبيك، ورئيس مرصد الأبحاث الدولية حول المياه (ORIE)، الضوء على هذه الحقيقة بالذات، حين قال: “فيما يخص النزاعات على المياه، إن ندرة تدفقها ليس ضمانًا للمستقبل في عالم يتأثر بتغير المناخ و ارتفاع عدد السكان بوتيرة لم يسبق لها مثيل”(1).
وما الصراعات الاقليمية والدولية الجارية حاليا في أكثر من مكان في هذا العالم إلا نذير بما قد يحدث في المستقبل القريب ؛كالنزاع على الأنهار الحدودية، أو البحيرات، أو مياه البحار، أو موارد وثروات مائية، كثروات الأراضي التي تكون تحت المياه الدولية المحاذية للمياه الإقليمية، وهو ما يسمى بالامتداد أو الجرف القاري حيث تكون الثروات من حق الدول الساحلية المشرفة على تلك المياه الدولية(2).
وتشهد منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص العديد من الخلافات حول المياه:كالخلاف بين إيران والعراق على مياه “شط العرب”، وكالخلاف بين تركيا وسوريا والعراق: على كيفية توزيع مياه نهري دجلة والفرات، وكالخلاف بين الدول التي يمر بها نهر النيل على كيفية اقتسام مياه النيل وتوزيعها، لا سيّما الخلافات الناشئة بعد إقامة إثيوبيا لسد النهضة، وما يحمله من تهديد للمصالح الحيوية لكل من مصر والسودان.
وإن ما تواجهه العديد من البلدان من مشاكل تتعلق بالمياه من نقص، وسوء نوعية المياه، وشح في المصادر المائية، من شأنه تعريض المنطقة لخطر عدم الاستقرار وزيادة التوترات الإقليمية ونشوء الحروب والاقتتال بينها.
ولأجل ذلك يقرر الخبراء والمختصون بالقانون الدولي أن من أحسن الصيغ لإزالة أسباب النزاع: الاتفاق بين الدول المتنازعة على الاستغلال المشترك لمصادر الثروات الطبيعية الواقعة في محل النزاع، نظرا لما له من آثار
طيبة في تحسين العلاقات بين الجيران فضلا عن فوائدها الاقتصادية على جميع الأطراف(3).
فالمنافسة الشديدة على المياه ومصادرها يمكن أن يكون سببا للنزاع الحاد، والحروب الطاحنة والاقتتال المسلح بين الدول، في حال رغبة كل دولة بالاستئثار بالمياه ومصادرها، وحرمان الدول الأخرى من حقوقها فيها.
وهو في الوقت نفسه يمكن أن يكون حافزا على التعاون بين الدول، والاستغلال المشترك للمصادر المائية، وسببا لإقامة الروابط بين الدول التي تشترك في الحقوق المائية، بحيث تصبح المياه المشتركة دافعا للتعاون، لا باعثا على التشاحن.

ثانياً: الفقه الإسلامي وتقديم الصيغ المبتكرة لتسوية النزاعات الدولية حول المياه.

والسؤال الذي يرد في هذا المقام: هل يمكن أن يقدّم الفقه الإسلامي المعاصر صيغا عملية مبتكرة تساعد في تحقيق الاستغلال المشترك للمصادر المائية المتنازع عليها بين الدول، ويتحقق من خلالها التعاون الدولي المثمر بينها، وتتفادى من خلالها ويلات الحروب ومآسي الاقتتال؟
لقد قرر الفقهاء في مدونات الفقه الإسلامي أنه يجوز للدولة أن توقف بعض مواردها المالية وترصدها للإنفاق على مصلحة عامة من مصالح المسلمين، وهو ما اصطلحوا على تسميته بالإرصاد ؛ بحيث يحبس شيء من بيت المال بأمر من ولي الأمر ليصرف ريعه على مصلحة عامة كالمستشفيات أو المدراس أو الطرق أو المنشآت العامة.
ففي حاشية ابن عابدين “وَلَوْ وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ مَالِنَا لِمَصْلَحَةٍ عَمَّتْ يَجُوزُ وَيُؤَجِّرُ”(4)
وعند الدسوقي: “وَقْفَ السَّلَاطِينِ عَلَى الْخَيْرَاتِ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ مِلْكِهِمْ لِمَا حَبَسُوهُ “(5) وعللوا ذلك: “لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَكِيلٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَوَكِيلِ الْوَاقِفِ”(6)
وقد ذكر الشربيني: “لَوْ رَأَى الْإِمَامُ وَقْفَ أَرْضِ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ جَازَ إذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ “(7)
ويمكن أن نؤسس على ما قرره الفقهاء السابقون من جواز وقف الأموال العامة لما فيه مصلحة الناس ونفعم وخيرهم وصلاحهم، بإمكانية اتفاق الأطراف الدولية على وقف المصادر المائية المتنازع عليها،على جهة مشتركة بينها من جهات الخير، وتعميمها على المصالح العامة بين الجهتين المتنازعتين، بشرط أن يكون في هذا الوقف تحقيق مصلحة حقيقية للعامة، لأن تصرفات ولي الأمر منوطة بالمصلحة.
وقد تناول هذا الحل المبتكر لتسوية النزاعات الدولية الفقيه الكبير الدكتور محمد نعيم ياسين –رحمه الله -في دراسته القيمة: “الاستفادة من صيغة الوقف في حل النزاعات الدولية والوقاية منها”.
وانتهى-رحمه الله- إلى أن النزاعات بين الدول الإسلامية إذا كانت نزاعات على الحدود البرية أو البحرية، فإن من الطرق التي يمكن أن تسوّى بها هذه النزاعات هي وقف المواقع المتنازع عليها، وصرف ثرواتها ومنافعها على جهات البر في دول النزاع وفق ترتيبات يتفق عليها في كيفية استثمار تلك المواقع والجهات التي تصرف إليها. (8)
وأنه إذا كان النزاع الدولي حول الثروات الباطنية في جوف الأرض، وكانت هذه الثروات متحركة؛ كالنفط والغاز والماء، فيوصى بوقف مصادر هذه الثروات، وبيع الثروات المستخرجة منها مشاريع وقفية استثمارية مشتركة يحدد فيها المستحقون في دول النزاع بالاتفاق، وتكون هذه المشاريع وقفا على أولئك المستحقين.
وإذا كان النزاع على الثروات الحيوانية البحرية من أسماك وغيرها في المياه الإقليمية للدول الساحلية المتجاورة أو المتقابلة، فيمكن أن تجعل الأسماك وقفا على صيادي تلك الدول”(9)

ثالثاً: الوقف الخيري يعيد للمياه وظيفتها السامية لتكون سببا للاشتراك بدلا من أن تكون سببا للاشتباك.

وبناء على هذا؛ فإن صيغة الوقف الخيري يمكن أن تفعّل على المستوى الدولي لتكون طريقا لحل الخلافات والنزاعات بين الدول من خلال وقف المصادر المائية المتنازع عليها، وتحديد الجهات التي تستفيد من منافعها، فإذا كانت تستخرج منها ثروات، كالنفط والغاز مثلا، فيتم بيعها وإقامة مشاريع وقفية استثمارية مشتركة بأثمانها،كأسواق مشتركة، أو مناطق تنموية وقفية،أو مدن سياحية وقفية، ويكون ريع ومنافع هذه المشاريع مشتركا بين الدول وفق ما يتفق عليه الطرفان، وعلى حسب الآليات التي يحددونها.
أو أن ترصد المنافع المتحصّلة من البحار والمياه المشتركة، لجهات النفع العام في كلتا الدولتين، كإقامة المستشفيات والمدارس والجامعات وفتح الطرق وغيرها من جهات النفع العام.
أو أن تجعل الثروات الحيوانية البحرية من أسماك وغيرها في المياه الإقليمية للدول الساحلية المتجاورة أو المتقابلة وقفا على صيادي تلك الدول، ليبيعوها في أسواق الدول نفسها.
وقد حدث قريب من هذا، في النزاع الذي وقع بين أريتيريا واليمن حول حقوق الصيد في البحر الأحمر في المناطق الموازية لشواطئ الدولتين، حيث التجأتا إلى التحكيم الدولي، وصدر قرار تحكيمي 1995م بالإجماع اعتمدت فيه هيئة التحكيم على التقاليد القانونية المستقرة في ظل الشريعة الإسلامية السائدة لقرون عديدة بين الشعوب التي تقطن الشاطئين العربي والإفريقي للبحر الأحمر، فقالت تلك الهيئة “إن هناك نظاما تقليديا لصيد الأسماك يجب الحفاظ عليه واحترامه، مقتضاه:
أحقية الصيادين القادمين من أحد الجانبين في الصيد في المياه المشار إليها وتسويق ما تم صيده في موانئ الدولة الأخرى
“وهذا القرار التحكيمي وإن لم يذكر الوقف نصا لكنه أقرب القرارات التحكيمية الدولية بوقف محل النزاع الدولي، وهو حق الصيد في مساحة مائية محددة فقد جَعلَ لجهةٍ معينة بوصفها، وهي جهة الصيادين”
قال محمد نعيم ياسين:”والحقيقة أن مثل هذا الحكم يمكن بل يستحسن بل ينبغي أن يكون منهجا في حل النزاعات التي تقع بين الدول، وبخاصة حول ثروات لم يكن للإنسان عمل في إنشائها ولا إنضاجها أو تهيئتها، هو حكم فطري تكاد تقضي بأصله الضرورة العقلية، لأن شيئا ليس للإنسان أي تدخل فيه ولم يصل إليه بسبب ناقل للاختصاص، إذا حدث حوله نزاع ليس فيه بينات قطعية تبين المختص ينبغي أن يرجع في تسوية النزاع إلى ذلك الأصل العظيم الذي قرره الشارع الحكيم في حديث المصطفى: “الناس شركاء في ثلاث”(10)
وإن هذه الصيغة المبتكرة في حل النزاعات الدولية في قضايا المياه، يمكن أن تفتح آفاقا جديدة للتعاون بين الدول، ليكون الوقف في مجال المياه، حافزا على إقامة المشاريع المشتركة التي ينتفع منها العديد من الأطراف الدولية، وتستفيد منها شعوب تلك الدول، وبما يكفل دوام الأموال الموقوفة وبقاءها واستمرارها.
كما أن هذه الصيغة الفقهية المبتكرة تعيد للمياه وظيفتها الإنسانية السامية، التي نبّه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “الناس شركاء في ثلاث “فالمياه يجب أن تكون سببا للتشارك والتعاون الإنساني، ودافعا إلى إقامة جسور المودة والتراحم بين الناس، وباعثا إلى الارتقاء بالعلاقات الإنسانية إلى ميدان العمل المشترك الذي ينتفع منه الناس جميعا.
وعندما تغيب هذه النظرة الإسلامية السامية تتحول المياه إلى ما نشهده اليوم وللأسف سببا للتنازع والاقتتال بين الدول، ومصدرا لتهديد الأمن الإقليمي والدولي من خلال رغبة كل طرف للاستئثار بالمصادر المائية واستعمالها لتهديد أمن الجيران ومصالحهم، وللإفساد في الأرض ونشر الدمار الخراب فيها.

(1) انظر: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=714766
(2) الاستفادة من صيغة الوقف في حل المنازعات الدولية والوقاية منها، الاستاذ الدكتور محمد ط1، 2015م ص 16
(3) الاستفادة من صيغة الوقف في حل المنازعات الدولية، محمد نعيم ياسين ص 39
(4) رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252هـ)
الناشر: دار الفكر-بيروتالطبعة: الثانية، 1412هـ – 1992م
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى: 1230ه، دار الفكر: 4/ 76.
(6) المرجع السابق.
(7) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية، 3/ 527.
(8) الاستفادة من صيغة الوقف ص 131
(9) المرجع السابق 132
(10) الاستفادة من صيغة الوقف في حل المنازعات الدولية، محمد نعيم ياسين ص 66 – 67

Comments are disabled.