دور هيئة الرقابة الشرعية في ابتكار وتطوير المنتجات المصرفية
بقلم الدكتورة/ هيام سامي الزعبي
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
تقدِّم المصارف الإسلامية خدماتٍ ومنتجاتٍ مصرفيةً متميزةً وتسعى باستمرار إلى تطويرها وتحسينها، كما تعمل على ابتكار خدمات جديدة بما ينسجم مع مبادئ وقيم الشريعة الإسلامية، وذلك يتحقق من خلال وجود هيئات رقابة شرعية لتوجيه أعمال المؤسسات وإصدار الفتاوى الشرعية، وضبط أعمالها والتأكُّد من التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، وهنا يأتي دور هيئة الرقابة الشرعية التي تتعاون مع الجهات الإدارية والتنفيذية في المؤسسات المالية الإسلامية لتطوير وابتكار منتجات مالية شرعية تلبِّي أهداف هذه المؤسسات وتشبع حاجات المجتمعات التي تعمل فيها.
أولاً: الرقابة الشرعية ووظيفة الابتكار:
يعرف الابتكار بأنه عملية خلق أو إنتاج شيء جديد على أن يكون أصيلًا وملائمًا للواقع، وأن يكون ذا أثر في حل مشكلة من المشكلات، وفي تلبية حاجة من الحاجات. وبلاشك يعتبر الابتكار أحد أهم أدوار المؤسسات الاقتصادية، ماليةً كانت أم تجاريةً، إنتاجيةً أم خدميةً، وحسب مستويات الإبداع فيها تتقدَّم أو تتأخَّر، وتربَح أو تخسر، وحتى يتحقَّق الابتكار لابد من وجود بيئة ملائمة وعقول مفكرة.
أما الرقابة بصفة عامة فهي عملية ترتكز على التحقُّق من إنجاز العمل وفق قرار أو معيار معين، يتناسب مع متطلبات الوظيفة والقواعد المفروضة عليها، سواء كان العمل عموميا أو فرديا.
أما الرقابة الشرعية فهي آلية شرعية تهتم بالتأكُّد من التزام المؤسسة بأحكام الشريعة الإسلامية في تكوينها وصور تعاملها مع الآخرين، وصيغ العقود التي تُوقَّع معها، وآثار تعاملاتها، ونشاطها المالي والاقتصادي، بما يتفق مع مقاصد الشريعة وأهدافها في المجتمع الإنساني.
وهيئة الرقابة الشرعية جهاز مستقلٌّ من الفقهاء المتخصصين في فقه المعاملات، يُعهد لها توجيه نشاط المؤسسات المالية الإسلامية وضمان التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، وتكون فتواها وقراراتها ملزمة للمؤسسة، وتتضح ماهية هيئة الرقابة الشرعية بذكر أهم وظائفها والتي تتجلى فيما يلي:
- وضع المعايير الشرعية لضبط عمل المؤسسة، بحيث يكون هنالك إطار مرجعي يحكم عملية الفتوى والتدقيق الشرعيين، إلى جانب صيغ العقود والمعاملات المختلفة.
- التأكُّد من سلامة تنفيذ المؤسسة للمعايير والأحكام وفحص مدى التزامها بتلك الأحكام في جميع أنشطتها.
- دراسة صيغ العقود والاتفاقيات والتطبيقات الموجودة لدى المؤسسة.
- دعم وتطوير صيغ المعاملات المالية وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
- معاونة الإدارة التنفيذية للمؤسسة في إعداد ما يلزم من العقود النمطية والنماذج العملية وتنقيح وتطوير ما يحتاج إلى تطوير وفقا للدراسة الشرعية.
- توفير الثقة والاطمئنان لملّاك وعملاء المؤسسة بالتزامها بأحكام الشريعة الإسلامية.
- ابتكار صيغ شرعية جديدةٍ مناسبة؛ لمواكبة التطور في الأساليب والخدمات المصرفية.
- الإجابة على الأسئلة والاستفسارات الواردة من إدارة المؤسسة أو من مختلف الإدارات الفنية الأخرى، وكذلك الواردة من المتعاملين أو ممن لهم علاقة مع المؤسسة.
- إعداد البحوث والدراسات وابتكار المنتجات التي تلبّي حاجة العملاء وتحقق أهداف المؤسسة وتنضبط بضوابط الشريعة.
- تقديم الحلول والبدائل الشرعية عن المعاملات التي يتكرَّر وقوع المخالفات فيها لتجنُّب ذلك مستقبلا.
- إثراء الاقتصاد الاسلامي بالبحث في منتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية.
وبهذا يظهر مدى العلاقة الوثيقة بين الرقابة الشرعية وبين الابتكار والتطوير، وبهذا أيضا تظهر أهمية الرقابة الشرعية، وأنها ضرورة شرعية لضبط العمل المالي الإسلامي، لإيجاد مزيد من الصيغ الشرعية المناسبة للمصرف الإسلامي؛ وذلك لمواكبة التطوُّر في الأساليب والخدمات الشرعية لكل ما يُقترح من أساليب استثمار جديدة، إلى جانب تقديم بدائل مشروعة للمنتجات التقليدية الأساسية على صعيد الموارد النقدية وتوظيفها.
ثانيا: المنتجات المالية الإسلامية وتطوُّرها:
يدور واقعُ المنتجات المالية الإسلامية في البنوك الإسلامية بين أمرين هما: المحاكاة، أو الابتكار، وهما: منهجا التطوير اللذان تستخدمها المصارف الإسلامية لإيجاد منتجات مالية جديدة، أو تطويرها.
أما ابتكار المنتجات المالية الإسلامية فيقوم على أساس تصميم منتج مالي جديد، أو تطوير منتجٍ مستعملٍ، أو صياغة حل لمشكلة مالية قائمة وفق الأسس الشرعية. أما المحاكاه فهي إعادة هيكلة المنتج التقليدي على أسس شرعية أو استنساخ المنتج التقليدي من حيث الهدف، والآليات الفنية وفق الأسس الشرعية.
ومنهج الابتكار يعتمد على الاحتياجات الفعلية للعملاء والعمل على تصميم منتجات تناسب هذه الاحتياجات، شريطة موافقتها لتعاليم الشريعة الإسلامية، ونجاح هذا المنهج يتطلب الدراسة المستمرة لاحتياجات العملاء، ووضع أسس واضحة لصناعة هندسة مالية إسلامية مستقلة عن التقليدية، والمحافظة على أصالة الصناعة المالية الإسلامية، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع كلفة هذا المنهج فيما لو تمت مقارنته بالمنهج القائم على الاستنساخ والمحاكاة، إلا أنه يبقى أكثر جدوى وأكثر إنتاجية وأكثر فعالية من الناحية الاقتصادية؛ وذلك بسبب تزايد الحاجات التمويلية للأفراد والمؤسسات وتنوع رغباتهم، الأمر الذي يستدعي ابتكار منتجات مصرفية إسلامية جديدة تدعم استقطاب الودائع، وتزيد من القدرات التمويلية.
ثالثا: الشروط التي يجب أن تتوافر في أعضاء هيئة الرقابة الشرعية حتى تؤهلهم القيام بدور الابتكار والتطوير:
ليس المطلوب هو مجرد استحداث منتجات وخدمات مختلفة عن التي تقدِّمها المصارف التقليدية، بل يجب أن تَجمَع المنتجات الجديدة بين الكفاءة في تحقيق المقاصد وبين التزامها بقواعد السلامة الشرعية، ومن شروط تحقيق الابتكار المالي في المصارف الإسلامية: وجود إدارة مؤمنة بأهمية الابتكار وضرورته، ووجود عاملين تتوفر فيهم روح الإبداع، كل ذلك في بيئة مناسبة للتطوير، ومستوى شرعي معقول يتوفر في الكوادر المبدعة، ومن هنا تتطلب هذه العملية جملة من الشروط فيمن يكون عُضوًا بهيئة الرقابة الشرعية وهي:
- التأهُّل الفقهي، بأن يكون العضو ذا ملكة فقهية، تمكِّنه من فهم كلام المجتهدين، وتساعده على التخريج الفقهي، واستنباط الأحكام في القضايا المستجدة.
- وجود الصفات الأخلاقية اللازمة للمفتي، ومن بينها: أن يكون مسلمًا، عدلًا، مكلَّفًا، فقيهًا، مجتهدًا، يقظًا صحيح الذهن والفكر.
- الخبرة المعقولة والمعرفة التامة بالمعاملات التقليدية الحديثة، والنظام المصرفي والمالي التقليدي إلى حد القدرة على التمييز بين النظامين.
- المعرفة باللُّغات الأخرى بالقدر الذي يمكِّن العضو من فهم، وقراءة، ومناقشة، وعرض، وتبادل مزيد من الأفكار أو المواد، في الشريعة والمال والصناعة الإسلامية على المستوى العالمي.
- أن يكون فقيهًا في المعاملات المالية، ويقصد بالفقه هنا: الفهم الدقيق بأن يكون عالمًا بأصول المعاملات المالية في الشريعة وضوابطها، وشروط كل عقد وموانعه وأسباب الفساد في العقود.
- أن يتم اختيار العضو من قبل الجمعية العمومية ليستمدَّ قُوَّتَه واستقلاله من ذات الجمعية العمومية التي عيَّنته، ويجب على هيئات الفتوى والرقابة الشرعية في المؤسسات المالية أن توسِّع قاعدتها بإعطاء فرصة للكفاءات الشابّة للمشاركة في أعمالها، وبالتالي اكتساب الخبرة اللازمة لممارسة هذا العمل بمهنية في المستقبل.
رابعا: منهجية تطوير المنتجات المالية الإسلامية:
تستند منهجية التطوير والابتكار الشرعيين على قاعدتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الأصل في المعاملات الحلُّ، ليتم تحرير العقلية الرقابية على أساس العلم بالمحرَّمات الأساسية في المعاملات؛ ليكون الأصل فيما عداها الحل أو الجواز أو الإباحة، وتكون النتيجة هي طرح الأفكار الجديدة التي من شأنها أن تنقلب إلى منتجات مبتكرة.
القاعدة الثانية: الخراج بالضمان والغرم بالغنم، وتعتبر هذه القاعدة الميزان الدقيق للهيكلة الشرعية للمنتج، والتي تضمن بعد المعاملات الشرعية عن الغرر والربا.
ويجب أن تُبنى منهجية تقييم المنتجات المصرفية الإسلامية المستحدثة منذ البداية على التيقُّن من كون هذا المنتج يفي بحاجة معتبرة شرعًا، فإذا لم يكن المنتج كذلك فلا مجال أصلا للبحث فيما إذا كان يخالف نصًّا أو مقصدًا للشريعة الإسلامية.
وتتأطر عملية التطوير بعدة أطر تمثل ضمانات لتحقُّق عملية تطوير سليمة وفاعلة:
- الإطار القانوني الذي يحكم عمل المؤسسات المالية الإسلامية، والذي قد لا يتناسب مع تطلُّعات الابتكار المالي الإسلامي، لأجل ذلك لابد من توافر إطار تشريعيٍّ ملائمٍ ومتكاملٍ يتناسب مع خصائص المنتجات المالية الإسلامية المبتكرة.
- الإطار الشرعي الذي يستلزم وجود الأصالة في طرح وهيكلة المنتج، ويتحقَّق ذلك من خلال تفعيل مقاصد الشريعة في مرحلة اقتراح المنتج، والتأكُّد من السلامة الشرعية والكفاءة الاقتصادية للمنتج في مرحلة هيكلته وبنائه، والتقويم الدوري للمنتج.
- الإطار الإداري والمؤسسي الذي يستلزم دراسة جدوى المنتج المالي المبتكر من حيث تحليل السوق والمخاطر، ووجود إدارة مؤمنة بأهمية الابتكار وضرورته، ووجود عاملين تتوفر فيهم روح الإبداع.
- الإطار الرقابي الذي يستلزم وجود رقابةٍ شرعيَّةٍ متنوعة الاختصاصات تعمل على المتابعة المستمرة لعمليات التنفيذ.
وتقوم هيئة الرقابة الشرعية بتطبيق القواعد الشرعية على العقد كمرحلة أولى، ثم استثناء ما جاء مخالفًا للقواعد الشرعية كمرحلة ثانية، والسعي نحو إيجاد بديل شرعي متناسق مع القواعد الإسلامية كمرحلة ثالثة.
ويجب على جهاز الرقابة الشرعية المشاركة في عملية التطوير والابتكار، بحيث يكون أحد أفراد جهاز الرقابة الشرعية عضوًا في فريق التطوير والابتكار المتنوِّع داخل البنك، وذلك لتحقيق أهدافٍ مشتركةٍ على مستوى المؤسسة والمنتَج، كتبادل المعلومات وتناقُل الخبرات بين أعضاء الفريق، وزيادة روافد الأفكار والحلول المبتكرة، وتسريع استبعاد الحلول غير الشرعية بشكل ظاهر، وتعايُش الرقابة الشرعية مع الحل التمويلي من حين نشأته، وهذا يسهم في تسهيل إجازته من هيئة الرقابة الشرعية، وسهولة اكتشاف المخالفات الشرعية في التنفيذ وسرعة معالجتها.