دور الهجرة النبوية في تأسيس دعائم النظام الاقتصادي

بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد

لا يمكن اعتبار نظامٍ ما نظامًا بمعنى الكلمة ما لم تتوفَّر له فلسفة تحدد التصورات والقيم التي يقوم عليها هذا النظام، وعلى وجه الخصوص نوعية الروابط التي تشكل هوية المجتمع وتجمع بين أفراده، إلى جانب دستور يدوِّن ويسجِّل هذه الروابط وهذه العلاقات ويحدِّد الملامح العامة لهذا النظام، ثم مؤسسات تعمل على تفعيل وترسيخ تلك القيم وهذه المبادئ التي يقوم عليها النظام المعين، وقد كانت الهجرة النبوية حقًّا حدثًا فارقًا من ناحية إحداث وإيجاد كل ما سبق بيان أهميته بالنسبة للنظام الاقتصادي.
كانت الهجرة قبل كل شيء تأسيسا لعهدٍ جديدٍ ومجتمعٍ جديدٍ، بل ودولة جديدة تتوفر لها كل مقومات الدولة وكل مقومات النظام السياسي بمقاييس ذلك العصر، بل وبمقاييس العصور الحديثة، فقد أنشأت دولة جديدة لها شعب وسلطة وأرض ثم دستور يحدد نوع العلاقات وهوية الدولة ويضع الخطوط العامة التي تسبح فيها أنظمة هذه الدولة على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الخ، ويهمُّنا في هذا المقام الإلماح إلى أبرز مقومات النظام الاقتصادي التي حققتها الهجرة النبوية بمجرد استقرار الركب النبوي في هذه المدينة.

أولا: وضع المدينة الاجتماعي والاقتصادي وقت الهجرة النبوية:

ما إن وضعت الهجرة أوزراها واستضاءت المدينة بنور المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونفض الحبيب عن عباءته الشريفة غبار الرحلة الشاقة وعناء السفر المرهق، حتى بدأ صلى الله عليه وسلم في عمل جديد وشغل آخر، فلقد توفر للإسلام أرض تأويه، وشعب يحميه، ولم يبق إلا إعادة النظر في نسيج هذا الشعب ونظامه الذي يعمل فيه من روابط سياسية، وأوضاع إدارية، وأفكار وتصورات تشكِّل رؤية هذا المجتمع لنفسه وللكون من حوله.
فنظر إلى المجتمع فإذا به بقية من روابط الجاهلية التي ألِفَت الثأر وتألَّفت العصبية، فهو مجتمع مؤلف من قبائل تقوم على الروابط القبلية، وكل منها يعتز بآبيه ويدعو للعصبية مواليه، ثم إن هناك من لم يدخل في الإسلام ممن بقي على شِركِه أو انتمى إلى ملة أهل الكتاب، ويضاف إلى ذلك ما ترتب على الهجرة من فجوة اقتصادية بين من تركوا خلفهم أموالهم وديارهم ومقومات عيشهم وبين المواطنين الأُصَلاء في هذا المجتمع، فتكشَّفت دراسة المجتمع عن عدة ظواهر إن لم يتم احتواؤها بالتنظيم والتهذيب أو العلاج والإزاحة لم تثبت للإسلام قاعدته التي سينطلق منها وهذه الظواهر هي:

  1. الروابط التي تنظم المجتمع سياسيا، والممثلة في العصبية القبلية والتي تتغذى عليها الإحن والضغائن، وتؤدي بطوائف المجتمع إلى التفرق والتشرذم فتفصم عرى الاجتماع وتقوض تماسكه.
  2. الاختلاف في العقائد حيث يشكل اليهود وبعض المسيحيين جزءًا من النسيج المجتمعي إلى جانب من لم يدخل في الإسلام، وقد يؤدي اختلاف الأفكار والتصورات إلى عناد ونزاع فلابد من تنظيم هذا الخلاف على أسس علمية منهجية.
  3. الفجوة الاقتصادية بين الطوائف الوافدة وسكان البلدة الأصليين.

وقد احتوى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الظواهر وتعامل معها تعاملا منهجيا، بما وضعه من دعائم للمجتمع المتماسك من قيم روحية، وأصول إنسانية، وقواعد دستورية غاية من السمو والرقي، فوجد المسلمون في الروابط الجديدة ما أذهب إحن الجاهلية وسار بالمجتمع إلى مرحلة جديدة من التجانس والتلاحم، ووجد غير المسلمين في الإسلام نظام العدالة والمساواة والشفقة على جميع العالمين.
وقضى على الفجوة الاقتصادية التي تسبَّبت فيها هجرة المهاجرين إلى المدينة وهم لا يملكون إلا ما استطاعوا حمله على أكتافهم وظهور رواحلهم، بل منهم من سلبته قريش كل أمواله فصار فقيرًا بعد أن كان في مصافِّ الأثرياء كصهيب الرومي وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
فكانت المؤاخاة التي انطوت على أعباء اقتصادية تحمَّلها الأنصار ذات أثر كبير في سد هذه الفجوة وتحقيق الكفاية لكثير من المهاجرين، لكنَّ هذه الخطوة لم تكن مجرد دعوة عابرة جاءت لتمضي في سكون وهدوء، بل جاءت لتضرب مثلًا على عمق التدبير والتخطيط، وعلى الإشارة إلى منظومة كاملة من الدعائم الأخلاقية والمؤسسية التي يشتمل عليها الاقتصاد الإسلامي في تنظيمه للمجتمعات والأمم، وهي منظومة شكَّلت أهم دعائم النظام الاقتصادي الإسلامي لذلك العهد ونحن في غنى عن التأكيد على أن الإسلام انتقل بهؤلاء العرب من مرحلة إلى أخرى، فذلك ما يشهد به تاريخ الحضارة الإسلامية التي دخلت تاريخ الأمم على أنها من أهم الحضارات إلم تكن أهم هذه الحضارات على الإطلاق، وذلك بما أوجدته في البشرية من نعم وآلاء وما أحدثته في الإنسانية من أثر حميد.

ثانيا: دعائم النظام الاقتصادي الإسلامي

تعتبر قيمة الأخوة الإيمانية من أبرز قيم الاقتصاد الإسلامي، فهي القيمة التي ترتكز عليها مبادئ العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي والتوازن والتضامن وغيرها من تلك المبادئ التي تشكل مقاصد وأهداف النظام الاقتصادي في الإسلام، ومع أن العرب قد عُرِفوا بالتضامن والنجدة والتلاحم وسرعة الإغاثة وغيرها من الأخلاق التي تغنت بها أشعارهم، فإن ذلك كان على نطاق ضيِّق، وفي حدود العشيرة أو القبيلة ولم يكن يتعدَّى هذه الحدود إلا في أوقات السلم والاستقرار، هذا إذا اعتبرنا مكة استثناء من هذا الحكم، فهم أهل البلد الحرام الذي تنافست قبائله في إكرام الحجيج وإحسان وفادتهم؛ تطلُّعًا لحسن السمعة ومقومات الرياسة.
لكن مكة قد أخرجت نبيها وأصبح يواجه واقعا جديدا سرت فيه العصبية سريان الروح في الجسد، واقتتل الحيان الكبيران اقتتالا شديدا تركهم في أشد أنواع الحيرة والأسف في ذات الوقت .. حيرةٌ على المستقبل وأسفٌ على ما مضى من فوادح الأحداث وفواجع المحن، فكانت الهجرة أنسب فرصة لتعديل هذا الاعوجاج وسد هذه الثلوم، التي استشرت في جسد هذا المجتمع المتطلع للإصلاح، وقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصراعات القديمة والتارات التاريخية بالدعائم الآتية:

1. الدعامة المعنوية والتي تتمثل في تشريع المؤاخاة:

كان تشريع المؤاخاة تطبيقا عمليا لقيمة هي أساس علاقة المسلمين بعضهم ببعض وهي قيمة الأخوة الإيمانية، وقد اقتضت المؤاخاة جملة من الأعباء الاقتصادية وقعت على كاهل بعض المسلمين، وكان سبب ذلك هو الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي واجهت المهاجرين عندما دخلوا المدينة ولم يكن لهم مال، مع كونهم غرباء عن أهل المدينة، فكان من اللازم عقد المؤاخاة التي تقتضي المواساة والألفة فيما بين المتآخيين.
وفي تقرير المؤاخاة بيان واضح لبعض أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي ممثلة في توفير الكفاية، والقضاء على التفاوت الطبقي، وتحقيق التوازن الاقتصادي، وتحقيق الكفاية هو الخطوة الأولى لتحقيق الرفاهية الشاملة التي تراعي مستوى المعيشة السائد، وقد كان لهذه السياسة أثرها الفذ والذي ظهر في حصول الكفاية لكثير من فقراء المهاجرين، الذين وجدوا عطفا لا مثيل له من الأنصار حتى إن بعضهم كان ينزل عن أحد زوجاته لأخيه المهاجر، فكانت الهجرة بهذه السياسة سببًا لتحقيق مواطنة شاملة قائمة على إشباع الحاجات وتوفير مقومات الحياة الصالحة.

2. الدعامة المؤسسية التي تتمثل في إنشاء المسجد:

وقد كان دور المسجد واضحا منذ أول يوم تأسس فيه على التقوى وترسيخ ركائز الحياة السليمة التي تتمثَّل في بث روح المساواة والإخاء في المجتمع، وإيجاد أرضية ترسِّخ هذه القيم الروحية وتبسط هذه الأرض الصلبة تحت قواعد المجتمع الوليد، فمن أجل تحقيق هذه المعاني سارع النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد منذ اليوم الأول لدخوله المدينة(1)، وأشاد القرآن الكريم بهذا المسجد وبطائفة كانت تصلي فيه ولا ترجو بذكر الله بديلا فقال تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
في الوقت الذي نعى فيه على من تطوع ببناء مسجد؛ لتفريق المسلمين واستقطاب أعدائهم، ولذلك نهى الله نبيه وأصحابه بالأحرى عن القيام في هذا المسجد فقال تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107، 108] ثم قال له: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107، 108].
وقد كان للمسجد على مدار تاريخه دور فاعل في الحفاظ على الروابط الجديدة الممثلة في الأخوة الإيمانية، وفي تحقيق الانسجام والتجانس على مستوى التصورات والمبادئ الإسلامية التي تتكون منها نظرته إلى الكون والإنسان، فكان يوحِّد بينهم على المستوى الفكري والخلقي، ويسلكهم في صفوف منسَّقة يستوي فيها السوقة مع الصفوة، ولا يقدم أحدًا منهم في صف من الصفوف إلا بكورُه واجتهادُه.

3. وضع الإطار الدستوري للنظام الاقتصادي الجديد:

لم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يدخل المدينة حتى بادر بوضع معاهدة عرفت فيما بعد باسم “صحيفة المدينة” أو “وثيقة المدينة” وعرفتها الأوساط الحديثة باسم “دستور المدينة”، ولسنا في حاجة إلى بيان صحتها ومدى موثوقية إسنادها، فقد تناول ذلك بما لا مزيد عليه كثير من الباحثين، وأشير هنا إلى الدراسة المميَّزة التي قام بها الدكتور “محمد صالح أحمد خليف .. وثيقة المدينة المنورة أسانيدها وخصائصها العامة” حيث تناول جميع أسانيد هذه الوثيقة بالدراسة المستفيضة، وانتهى إلى صحتها، فضلا عما ذكره من ورورد أجزاء متعددة منها في كتب الصحاح.
وقد كانت الحياة بالمدينة تحتاج إلى معاهدة تضم جميع الأطراف وتجمع كلمتهم على ميثاق يلتزمه جميع أفراد المجتمع من مسلمين مهاجرين وأنصار، ومن يهود وغيرهم من أهل الكتاب، ومن مشركين بَقَوْا على شِركِهم ولم يهتدوا بنور الإسلام، فكانت الحاجة إلى وضع هذه الوثيقة المهمة التي نظَّمت الحياة على أساس دستوري.
وتؤلف بنود هذه الوثيقة جملة من المبادئ والركائز التي تشكل مقومات الدولة في الإسلام منها:

  • أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية.
  • أن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ما سالموا.
  • أن أساس الحكم هو مبدأ الحق والعدل.
  • أن غاية الاجتماع هي التعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع(2).
  • أن العلاقة بين البشر هو المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات تأسيسًا على وحدة الأصل وتحريم الاستعلاء بالعنصر وما استلزم من التوسع العدواني.
  • تحدِّد الوثيقة رئيس الدولة بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدِّد أساس الحكم بأنه الشريعة، كما تقرِّر المشاركة في واجبات الدفاع عن الوطن وفي الإنفاق على الدفاع وغيره، على أن تكون مسؤوليات الدفاع مشتركة بين طوائف الشعب.

وبفضل هذه الوثيقة توفرت التربة الآمنة للاقتصاد والذي لا يمكن أن يعمل إلا فيها، وانتهى الاحتراب القبلي، وقُضِي على العصبية القبلية كرابطة اجتماعية، وبعد أن كان الولاء للقبيلة أصبح الولاء للدين وللحق والعدل أينما كان، وحل الإخاء الإيماني والمواطنة محل العصبية للقبيلة وللبيوتات الشريفة.
وإن هذه الحقيقة قد اعترف بها غير واحد من الغربيين المناوئين للإسلام، فهذا المستشرق مونتغمري وات يعترف بأن الإسلام قد قدم صياغة فريدة لمفهوم الأمة فيقول: (إن فكرة «الأمة» كما جاء بها الإسلام هـي الفكرة البديعة التي لم يُسبق إليها، ولم تزل إلى هـذا الزمن يُنبوعا لكل فيض من فيوض الإيمان يدفع المسلمين إلى «الوحدة» في «أمة» واحدة تختفي فيها حواجز الأجناس واللغات، وعصبيات النسب والسلالة، وقد تفرد الإسلام بخلق هـذه الوحدة بين أتباعه فاشتملت أمته على أقوام من العرب، والفرس، والهنود، والمغول، والصينيين، والبربر، والسود، والبيض على تباعد الأقطار، وتفاوت المصالح، ولم يخرج من حضرة هـذه «الأمة» أحد لينشق عليها، ويقطع الصلة بينه وبينها؛ لأنها قائمة على أساس أيديولوجي عالمي جديد)(3).
هكذا كانت الهجرة في بعض تجلياتها ثورةً حضاريةً لا مثيــل لها فيما سبقها من الحضارات والثورات، ففي المدينة المنورة بدأت الأمة العربية جنينا فى رحم أول مجتمع (شعب) أوجدته هذه النقلة الحضارية، ثم تتابعت الأطوار على هذا الجنين حتى صار حضارة هائلة هي حضارة الأمة العربية الإسلامية، التي أخذت تتسع لتبسط سلطانها، ففتح المسلمون مكة عام 630 م، وقضوا على القبائل المرتدة فى عهد أبى بكر، وما إن جاء عام 633 حتى كانت كل القبائل والشعوب فى الجزيرة العربية قد توحدت فى شعب واحد، وفتحت دمشق عام 635 م، وبيت المقدس عام 638م وما بقى من الشام قبل نهاية عام 640م، وقبل أن ينتهى عام 643 كان قد تم فتح مصر وفارس، وفتحت برقة (670م) وامتد الفتح حتى شمل المغرب العربى كله (698م)، ومن هناك تم فتح إسبانيا (الأندلس) عام (710م)(4).

4. تحقيق الاستقلال الاقتصادي من خلال السوق الإسلامية:

إن السوق في معناها البسيط مكان التقاء العرض بالطلب، وهي بهذا الوصف من أهم مقومات الحياة بصفة عامة، وإن بقعة على الأرض لا توجد فيها سوق تُوافِق ما بين الرغبات لهي بقعة يعتريها شيء من التخلف والافتقار في الوقت نفسه.
وإن الاستقلال الذي يفرضه الإسلام على المسلمين لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت لهم سوق خاصة، تتوفر فيها حاجاتهم المعيشية وإلا ذلوا لغيرهم بمقتضى الحاجة لهم، كما أن للإسلام تعاليم معيَّنة لا يمكن أن تأخذ وجهتها للتطبيق إلا إذا في سوق يهمين عليه نفوذ الدولة الإسلامية، وتفرض فيها القواعد والتوجيهات التي يرمي إليها الإسلام، حتى تكون بحق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم عنوان “بيع المسلم من المسلم”؛ ولهذا السبب حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء السوق الإسلامية الخالية من المعاملات الجائرة التي يرفضها الإسلام؛ كالسحت، والربا، والغش وغير ذلك، وليكون للمسلمين الكلمة العليا داخليًّا ويتخلصوا من تبعيتهم داخليا وخارجيا، لأي من الكيانات الاقتصادية القوية(5).

سبب إنشاء السوق الإسلامية:

إن منطق التطور الاجتماعي والسياسي للدولة الوليدة كات يقتضي أن تنظِّم لنفسها سوقًا خاصة بها، فالسوق في كل الأحوال جهاز وآلية وليست مقصدا في ذاته، لكن بعض الانحرافات التي اعترت عمل الاقتصاد الإسلامي في نشأته أوجبت نوعًا من السياسات إزاء الأسواق القائمة لانحرافها عن نموذج العدل الذي يتوخَّاه الإسلام.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر أسواق العرب واليهود في بادئ الأمر، إلا أنه بمرور الوقت وبسبب من مضايقات اليهود المتكررة وسوء نواياهم وما كان تتسم به سوقهم من أنماط اقتصادية لا يقرها الإسلام، رأى أن ينشئ سوقا للمسلمين لا تخضع للظلم الذي كانت تخضع له المعاملات في أسواق اليهود، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم موضع النبيط مقرًّا لسوق المسلمين، ولكن عدوان اليهودي كعب بن الأشرف على الخيمة التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم جعله يحوِّلها إلى مكان آخر، فنقلها إلى موضع سوق المدينة بالبطحاء ثم قال: هذا سوقكم، لا يتنقض، ولا يضرب عليه الخراج(6).
وبهذا حقق النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أهداف في وقت واحد هي:

  1. التخلص من سيطرة اليهود على الاقتصاد.
  2. خفض الأسعار وتنشيط الاقتصاد.
  3. إنشاء مؤسسة تتماشى مع توجيهات الاقتصاد الإسلامي ويشيع فيها نموذجه.
أثر السوق الإسلامية على اقتصاد المدينة المنورة:

وقد كان للسوق بعامة ولسوق المسلمين بخاصة أثر كبير في ازدهار الحياة الاقتصادية في مجتمع المدينة، كمًّا وكيفًا، حتى سلب من مكة صدارتها الاقتصادية، فقد كان اقتصاد يثرب في الأصل قائمًا على الزراعة والإنتاج الحيواني، وكان عماد الإنتاج فيه التمور والخضر، في حين كان اقتصاد مكة اقتصادًا تجاريًّا عماده التجارة القائمة على أساس شراء السلع من الأسواق ونقلها إلى مكة، وتصريفها من هناك على أهل مكة ومن حولهم، ونقل الفائض إلى الأسواق الموسمية وأسواق العراق وبلاد الشأم والعربية الجنوبية.
فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نافست “يثرب” مكة في التجارة؛ إذ أخذ المهاجرون يتاجرون منها مع بلاد الشأم والعراق، وصارت القوافل ترد إليها محملة ببضائع بلاد الشأم، وأخذ الأنصار والمهاجرون يتاجرون معًا في الأسواق، وقد تضخَّمت هذه التجارة بعد فتح مكّة، ودخول القبائل في الإسلام ووصول الصدقات إلى بيت المال في المدينة، فتحسَّن حال أهل المدينة، وصار لهم رأس مال مكَّنهم من تشغيله في التجارة وفي الزراعة، فاستغلوا أرض يثرب بزرعها زروعًا مختلفة، ثم استغلوا أموالهم هذه في الخارج بعد الفتوح(7).
ولم تمض إلا بضع سنون حتى تحوَّل كثيرٌ من المهاجرين من العوز والفاقة إلى الغنى التام، واستطاع رجل خرج من مكة بلا مال؛ كعبد الرحمن بن عوف أن يصنع ثروة عظيمة في مدة وجيزة، وأن تكون له قوافل تذهب في التجارة وتجيء، وصنع كثير غير عبد الرحمن من المهاجرين صنيعه؛ فقد كان لهؤلاء المكيين من الدراية في شؤون التجارة ما قيل معه عن أحدهم: إنه ليحيل بالتجارة رمل الصحراء ذهبا(8).
وهكذا توفَّر للاقتصاد الإسلامي نظام متكامل مكون من أسس فكرية وعلاقات إنسانية نبيلة، ومؤسسات مستقلة إلى جانب دستور وقانون ينظم العلاقات ويضمن لكل ذي حق حقه، فكانت الهجرة النبوية تأسيسًا لمرحلة من الأمان والسلم الذي وفَّر الجو الملائم لنمو الاقتصاد وتنشيط الحالة الاقتصادية، مما جعل المدينة حاضرة الإسلام التي نافست مكة التي اشتهرت بقوافلها الضخمة شمالًا وجنوبًا.

(1) انظر: إعلام الساجد بأحكام المساجد، للزركشي، تحقيق: أبو الوفا مصطفى المراغي (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط 4 ، 1416 هـ – 1996 م) ص: 223.
(2) ينظر: السيرة النبوية – دروس وعبر، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، الطبعة: الثالثة، 1405 هـ – 1985م (ص76).
(3) نقلا عن وثيقة المدينة المنورة: المضمون والدلالة، أحمد الشعبي، كتاب الأمة، 1426ه ص: 90.
(4) ينظر: عن العروبة والإسلام عصمت سيف الدولة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 1986 م) ص: 65.
(5) انظر: الأصول السياسية والوظائف الاجتماعية والاقتصادية في وثيقة المدينة، محمد صالح أحمد خليف، دكتوراه في الجامعة الإسلامية ماليزيا، كلية معارف الوحي، 2018م (ص: 293).
(6) ينظر: المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، – 1999 م) ج 9 ص 362.
(7) انظر: «المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام»، د جواد علي (بيروت: دار الساقي، ط 4، 2001) (13/ 313).
(8) انظر: حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم» (ص148).
ومن بورك له في تجارته على هذا النحو من المبالغة الصحابي الجليل عروة البارقي رضي الله عنه، وخبره في البخاري وغيره وحديث البخاري إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو ‌اشترى ‌التراب لربح فيه، أخرجه (4/ 207) حديث (3642) كتاب المناقب.

Comments are disabled.