زيادة نِسَب التعاقد على أعمال الأبدان، ومتطلبات التنمية الاقتصادية – رؤية مقاصدية

بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن الكيلاني
عميد كلية الشريعة- الجامعة الأردنية

أولا: عناية الفقه الإسلامي بصيغ العقود الواردة على أعمال الأبدان:

الدارس لأنواع العقود المالية التي تناولها الفقهاء في مدوناتهم الفقهية يجد عنايتهم الكبيرة بالعقود الواردة على أعمال الأبدان، وهي العقود التي يلتزم فيها أحد طرفي العقد القيام بعمل بدني معين؛ كعقد المضاربة الذي يتفق فيها طرفان على أن يكون رأس المال من جانب، والعمل على استثماره من الجانب الآخر، والربح بينهما مشترك على حسب الاتفاق.
وكعقد المزارعة التي يتعاقد فيها الطرفان على أن تكون الأرض من أحدهما وزراعة البذر من الآخر، والناتج الزراعي يكون مشتركًا بينهما بنسبة معلومة تحدد عند العقد. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع”.(1)
ومن التعاقد على أعمال الأبدان: عقد الإجارة على منافع الأشخاص؛ مثل الخادم، والصباغ، والسائق، والطبيب، والمهندس، والمحامي، فالعامل يكون أجيرًا، وصاحب العمل مستأجرًا. (2)
ومن هذا القبيل أيضًا: شركة الأبدان وذلك بأن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بعملهما، كالاشتراك في صيد الأسماك، والاشتراك في استخراج المعادن، والاشتراك في الاحتطاب، والاشتراك في تقديم الخدمات وتقبّل الأعمال، ويكون الكسب الخارج مشتركًا بين المتعاقدين على حسب الاتفاق.(3)
وقد أفرد الفقهاء للعقود التي يكون محلها عملاً بدنيًّا محددًا، أبوابًا خاصة قرروا فيها أحكامها، وبينوا فيها أركانها وشروطها وضوابطها، وتناولوا فيها صورها وجزئياتها وشواهدها وتطبيقاتها.

ثانيًا: تشوف الشارع إلى تكثير التعاقد على أعمال الأبدان:

وإن المدقق في الأحكام الشرعية المنظمة للتعاقدات على أعمال الأبدان على اختلاف صورها وأشكالها وأنواعها، يجد تشوف الشارع وتوجهه الجلي إلى تكثير التعاقد عليها وزيادتها والتشجيع عليها بقدر الإمكان، بشرط أن يكون العمل مشروعًا ومنضبطًا بقواعد الشريعة وأحكامها ومعاييرها، ولعل أول من أشار إلى هذا المعنى هو الشيخ ابن عاشور، وذلك في سياق بيانه لمقاصد الشريعة الخاصة في باب المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، حيث ذكر أن أول المقاصد المرعية في هذا الباب هو: “تكثير المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان، وهذا مدلول لاغتفار الغرر فيها. فلولا الحاجة إليها لما اغتفرت الشريعة فيها ما لم تغتفره في المعاملات المالية من الجانبين، وقد رجعت بذلك إلى قسم المصالح الحاجية.” (4)
وهذا يعني أن الشارع قاصد إلى تشجيع الناس على إبرام هذا النوع من العقود، وإلى إزالة العقبات والعوائق التي تحول دون الإقبال عليها، وإلى التسامح ببعض القيود والشروط التي قد لا تغتفر في غير العقود على الأبدان، حيث تسامح الشارع فيما يلازمها من غرر وجهالة لا يمكن انفكاكها عنها، ففي المضاربة لا يعلم حجم الجهد الذي سيبذله المضارب وهل سيتحقق ربح فعلاً أو لا، وإذا تحقق فما هو مقدراه؟، وفي المساقاة والمزارعة لا يعلم أيسلم الزرع والثمرة أو لا، وإذا سلم وخرج هل سيكون قليلاً أو كثيرًا، ثم ما مدى جودته؟
وفي الإجارة على الأشخاص لا يعلم مقدار الجهد الذي سيبذله العامل على التحديد، ومدة الوقت الذي سيمضيه العامل في عمله، وإذا كانت إجارة الأشخاص مرتبطة بتحقيق غاية معينة؛ كإصلاح الأعطال في الأجهزة والمركبات مثلاً، فإنه لا يعلم العامل مقدار الجهد الذي سيبذله في الإصلاح والصيانة، وما إذا كان سيحقق النتيجة المطلوبة ويستحق الأجرة، أم يفشل في تحقيقها ومن ثم تضيع عليه الأجرة؟
فالتعاقد على الأبدان لا يخلو من الغرر والجهالة، قال ابن عاشور: “العقود على الأبدان لا تخلو من غرر لعسر انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه، وعسر معرفة العامل ما ينجر إليه من الربح من جراء عمله، ولعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال فيها من إنتاج أو عدمه، غير أن الشريعة ألغت الغرر؛ لأن إضرار مراعاته أشد من إضرار إلغائه؛ لما في مراعاته من حرمان كثير من الأمة فوائد السعي والاكتساب”(5)، وإن تسامح الشارع فيها بالرغم من الغرر الذي يلازمها دليل على قصده إلى تكثير التعاقد بها.

ثالثًا: الحاجة إلى التعاقد على أعمال الأبدان بالرغم من الجهالة التي تلازمها:

وقد علل كثير من الفقهاء هذا التسامح والاغتفار بحاجة الناس إلى هذا النوع من العقود في حياتهم، وأنه لو اشترط في هذه العقود ما يشترط في غيرها لوقع الناس في الحرج والمشقة، قال ابن تيمية: “فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد، ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها“.(6)
وتكمن الحاجة إلى هذه العقود في كونها تلبي حاجة صاحب المال والعامل معًا، حيث إن “القادرين على العمل والإنتاج يكثر فيهم من ليس بيده مال يستعين به على العمل المثمر المنتج، أو بيده مال يوازي مقدرته على الإنتاج، وكون كثير من أصحاب المال يعجزهم العمل في أموالهم عملاً يوازي ما تستدعيه مقادير تلك الأموال من النتائج، لا سيّما أصحاب الأموال الذين انجرت لهم الأموال من تلقاء غيرهم بعطية أو ميراث، لأجل ذلك كان الأصلان العظيمان من أصول الثروة –وهما المال والعمل– معرضين للعوائق وتعطيل الإنتاج في أحوال كثيرة، وذلك رزء على أصحابهما وعلى الأمة، فكان مما اهتدى إليه ذوو العقول إيجاد طرائق تتألف فيها أموال أصحاب الأموال، وأعمال المقتدرين على العمل ليحصل من مجموع ذلك إنتاج نافع للفريقين. وكان من حكمة التشريع الإسلامي ألا يوصد في وجوه الفريقين سلوك الطرق المثلى من تلك الطرائق بوجه عادل، مع الغض عما يتطرق إلى ذلك من مخالفة للتشريعات التي بنيت عليها أحكام المعاملات المالية من المعاوضات”.(7)

رابعا: مقاصد الشريعة في تكثير التعاقد على أعمال الأبدان وأثرها في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة:

لا تقتصر آثار هذه العقود على تلبية الحاجات الفردية للأشخاص فقط، وإنما تمتد آثارها للمساعدة في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المجتمع، فمن مقاصدها:

  • عمارة الأرض وإحياؤها بالعمل والاكتساب؛ فالأرض خلقها الله ذلولاً، وجعل تربتها صالحة للإنبات، وأودع فيها الخيرات العظيمة التي تحتاج إلى من يستخرجها ويعمرها من خلال الزراعة والصناعة والإبداع العلمي والفكري والتكنولوجي وسائر الأعمال النافعة التي تعود على الإنسان بالخير والصلاح، وفي تكثير التعاقد على أعمال الأبدان تحقيق لهذه الغاية العظيمة.
  • تحقيق التعاون الاستثماري بين أصحاب الأموال الذين لا يملكون الوقت الكافي لإدارة أموالهم بأنفسهم، وبين أصحاب الخبرة القادرين على العمل والإنتاج ولا يجدون رأس المال الكافي، ففي تشريع مثل هذه العقود تحصيل واستيعاب لمصلحة الطرفين، على نحو يحقق مبدأ التعاون على البر والخير، ويوثق عرى الأخوة، والتضامن والتكامل الاقتصادي بين فئات المجتمع المختلفة.
  • توفير فرص العمل للعاطلين، وتشغيل الأيدي العاملة التي تمتلك الخبرة والمهارة، وتخفيف نسب البطالة، واستغلال الطاقات والموارد المعطلة، وهذه مصالح اقتصادية مقصودة ومطلوبة شرعًا.
  • تحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة؛ لأنَّ الدولة متى كانت قادرة على استثمار الأيدي العاملة لديها في الإنتاج، والتصنيع، والزراعة، واستخراج الثروات، واستغلال الموارد المتاحة، تحررت من التبعية لغيرها، وحفظت على استقلال قرارها وسيادتها.
  • تقديم البدائل الشرعية المناسبة لتمويل أصحاب الأعمال، بعيداً عن الربا والاستغلال، لا سيما وأن المشكلة التي تواجه كثيرًا من أصحاب الأعمال هي محدودية وسائل التمويل الإسلامية الموافقة لمبادئ الشريعة، حيث أظهرت الدراسة التي أجرتها International Finance Cooperation (IFC)) وهي إحدى الهيئات التابعة للبنك الدولي والمهتمة بمناخ الاستثمار وتقديم الاستشارات للدول إلى أن 35% من المشاريع الصغيرة والمتوسطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتم استبعادها من طرف البنوك التقليدية؛ نتيجة لأن القائمين على هذه المشاريع يبحثون عن قروض خالية من الربا، ونتيجة لغياب وسائل التمويل الإسلامي لدى هذه البنوك فإن هذه المشاريع لا تحصل على التمويل المطلوب مما يؤدي غالبًا إلى إلغائها. (8)

وأخيرًا: فإن تشوف الشارع إلى تكثير التعاقد على أعمال الأبدان يقتضي وضع السياسات الاقتصادية على مستوى الدولة التي تحقق هذه الغاية، وإيجاد التدابير العملية والتشريعية التي تشجع على الإقبال على هذا النوع من العقود، كما يقتضي أن تعتني المؤسسات المالية الإسلامية بزيادة نشاطاتها التمويلية للعقود التي يكون موضوعها العمل على الأبدان ؛كعقد المضاربة والمزارعة والمصانعة وغيرها من الصيغ المعاصرة التي لا بد من تنويعها وتوسيع دائرتها، وألا تحصر أعمالها الاستثمارية في عقود المرابحة للآمر بالشراء، أو الإجارة المنتهية بالتمليك فقط؛ لأنه كلما كثر التعاقد على عمل الأبدان كان هذا أقوى في تحقيق مقاصد الاقتصاد الإسلامي وفي خدمة الرسالة التي أنشئت من أجلها هذه المؤسسات .

(1) أخرجه البخاري: حديث 2328، ومسلم: حديث 1551.
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية: 2/276.
(3) المغني، لابن قدامة: 5/4.
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور: 481.
(5) المرجع السابق: 481.
(6) مجموع الفتاوى: 30/98.
(7) مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور: 480.
(8) راجع موقع: https://islamonline.net/ .

Comments are disabled.