شروط التصرف في بضاعة السلم قبل قبضها عند المالكية
وأثرها في تداول صكوك السلم المعاصرة

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

لقد أجاز المالكية التصرف في دين السَّلَم قبل قبضه، ببيعه لمن هو دين في ذمته (المسلم إليه) بشرط أن يكون بسعر الشراء أو أقل منه، ولا يجوز عندهم بالأكثر من ذلك، وقد علَّلوا المنع في الأكثر بسد الذريعة أمام سلف يجر منفعة.
أما بيعه ممن هو في غير ذمته (غير المسلم إليه)، فيجوز عندهم بالأقل، وسعر المثل، وبالأكثر؛ كما ذكر ذلك ابن جزي في كتابه “القوانين الفقهية”(1)، خلافا للجمهور؛ (الحنفية والشافعية والحنابلة)، ولكنهم قيدوا ذلك بثلاثة شروط هي:

  1. أن يكون الـمُسلَم فيه مما يجوز بيعه قبل قبضه، وبهذا القيد يخرج الطعام كما قال ابن شاس في “عقد الجواهر”(2)، وذلك للحديث الذي أورده مالك في الموطأ في ” كتاب البيوع” عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلاَ يَبِعْهُ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ»(3).
    وفي رواية أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلاَ يَبِعْهُ، حَتَّى يَقْبِضَهُ»(4).
    وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ، إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ، قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ»(5).
    وجاء في ” كتاب البيوع” من الموطأ عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، ابْتَاعَ طَعَامًا، أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ. فَبَاعَ حَكِيمٌ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ. فَبَلَغَ ذلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: لاَ تَبِعْ طَعَامًا ابْتَعْتَهُ، حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ(6).
    وانطلاقًا من هذه الأحاديث والآثار قال ابن حارث الخشني في “أصول الفتيا”، وابن رشد في “البيان والتحصيل”(7)، والقرافي في “الفروق”(8): “كل طعام كان ثمنًا لشيء من الأشياء مهما كان ذلك الشيء، فلا يجوز أن يبيعه من هو له حتى يستوفيه، وهو بمنزلة شرائه بالدنانير والدراهم”(9).
    وقد قال الشيخ الطاهر ابن عاشور في كتاب ” المقاصد”: استثنى العلماء من مسألة الطعام الإقالة(10)، والتولية(11)، والشركة، وقالوا بجوازها في الطعام قبل قبضه(12).
    وقد جاء في باب جامع بيع الطعام عن مالك رضي الله عنه معلِّقًا على مسألة في بيع الطعام، قَالَ مَالِكٌ: “وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الطَّعَامِ، قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذلِكَ. غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ، قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالشِّرْكِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالْإِقَالَةِ فِي الطَّعَامِ، وَغَيْرِهِ”. ثم قال: “وَذلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَنْزَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ. وَلَمْ يُنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ. وَذلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ يُسَلِّفَ الدَّرَاهِمَ النُّقَّصَ. فَيُقْضَى دَرَاهِمَ وَازِنَةً فِيهَا فَضْلٌ. فَيَحِلُّ لَهُ ذلِكَ، وَيَجُوزُ. وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ نُقَّصًا. بِوَازِنَةٍ. لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذلِكَ. وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ، حِينَ أَسْلَفَهُ وَازِنَةً. وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ نُقَّصًا. لَمْ يَحِلَّ لَهُ. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذلِكَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ. وَأَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ. وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ ذلِكَ: أَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعٌ عَلَى وَجْهِ الْمُكَايَسَةِ، وَالتِّجَارَةِ. وَأَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا، عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ. لاَ مُكَايَسَةَ فِيهِ(13). وقد ذكر هذا أيضا ابن رشد في كتابه “المقدمات الممهدات”(14).
    ويتأكَّد هذا بما جاء في الموطأ في “باب: ( ماجاء في بيع العرية)” عن مالك بعدما ذكر حديث زيد بن ثابت؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا(15)، وحديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا. فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. حيث قال: “وَإِنَّمَا تُبَاعُ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ. يُتَحَرَّى ذلِكَ، وَتُخْرَصُ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ، وَلَيْسَتْ لَهُ مَكِيلَةٌ. وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْلِيَةِ، وَالْإِقَالَةِ، وَالشِّرْكِ. وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوعِ، مَا أَشْرَكَ أَحَدٌ أَحَدًا فِي طَعَامٍ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. وَلاَ أَقَالَهُ مِنْهُ. وَلاَ وَلاَّهُ أَحَدًا، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُبْتَاعُ(16).
    وعلى الرغم من التَّشديد الوارد في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء قد استثنوا منها الشركة والتولية والإقالة، مع أنها نوع من المعاوضات؛ لأنهم غلَّبوا فيها جانب المعروف على جانب المكايسة والتجارة، وهذا نظرٌ دقيقٌ ومسلكٌ عميقٌ في الشريعة.
    وبناء عليه فإذا اتفق الـمُسلِم والـمُسلَم إليه على الإقالة، وتراضيا فيما بينهما على أن يعطي بدل رأس المال (الثمن) شيئًا آخر، امتنع ذلك عند المالكية، حتى وإن تراضى طرفا العقد عليه؛ لأنه ذريعة إلى تجويز ما لا يجوز، وإخراجٌ للإقالة عن مقصدها والمعنى الذي أَرْخص فيها العلماء من أجله، إلى معانٍ لو تمَّت ملاحظتُها فيها من قبل الشارع بالأولية لـمُنعت من أجلها.
    وعلى ذلك؛ فإنه ينبغي على البنوك الإسلامية أن تُراعي هذه المعاني في تصرفاتها، فإن هناك جملةً من صور المعاوضات لو نُظِر فيها إلى جانب الربح فقط لحكم عليها بعدم الجواز، وإنما أُرْخِص فيها للرفق بالناس وتقويةً لجانب المعروف في الأمة، فلا يُعمد إلى هذه الصور من المعاوضات فتُتَّخذ منها شروط وقيودٌ يقضى بها على الناس في تعاملاتهم مع المؤسسات المالية الإسلامية، وتُفرَّغ عن مقاصدها التي أُرْخِص فيها من أجلها، ومن يراجع معاملات بعض المؤسسات المالية الإسلامية يجد من هذا نظيرًا.
    وهذا يحتم على الهيئات الشرعية، والمستشارين الشرعيين للمؤسسات المالية الإسلامية أن يراعو هذه المعاني التي تشوَّف الشارع إليها في تصرفاتهم وفتاويهم، حتى يحافظوا على خصوصيات الصيرفة الإسلامية ونضارتها ومصداقيتها أمام الناس وفي العالم.
  2. أن يجري قبض البديل حالًّا، سواء أكان بيعًا للمسلم إليه، أم إلى شخص آخر ممن يجوز البيع له، لئلا يكون من بيع الدين بالدين، قال سحنون: قلت (يعني لابن القاسم): أرأيت إن أسلمتُ في حنطة فلما افترقنا أصاب رأسَ المال نحاسًا أو زيوفا بعد شهر أو شهرين، فجاء ليبْدِل أينتقض السلم أم لا؟ قال: يبدلها ولا ينتقض سلمك. قال أشهب: إلا أن يكونا عملا على ذلك ليجيزا بينهما الكالئ بالكالئ فينفسخ. قلت: ولم وقد قال مالك: إنما يجوز أن يؤخر رأس مال السلف ولا يقبضه اليوم واليومين ونحو ذلك، ولم يُجِزْ أكثر من ذلك فهذا قد مكث شهرين بعد أن قبض هذه الدراهم وهي رصاص، فهذا قد فارقه منذ شهرين قبل أن يقبض رأس المال؟ قال: لا يشبه هذا الذي فارق صاحبه قبل أن يقبض رأس المال فأقام شهرًا ثم جاء يطلب رأس المال؛ لأن هذا له أن يقبل هذه الدراهم الزيوف والرصاص فأجازها ولم يرد أن يبدلها كان ذلك له، وكان السلف عليه والذي ذكرت لم يقبض شيئًا حتى افترقا وحتى مكثا شهرًا فهذا فرق ما بينهما.
    قلت: أرأيت إن أسلمت دراهم في عُروضٍ أو طعامٍ فأتاني البائع ببعض الدراهم بعد شهر أو أيام فقال: أصبتها زيوفًا، فقلت: دعها فأنا أبدلها لك بعد يوم أو يومين قال: لا بأس بذلك؛ لأن مالكًا قال لي: لو أن رجلًا أسلم في طعام أو عُروض فلم ينقد يومًا أو يومين لم أر بذلك بأسًا. قلت: فإن قال له: سأبدلها لك بعد شهر أو شهرين؟ قال: أرى ذلك غير جائز؛ لأن مالكًا قال: لا يصلح أن يشترط في السلم أن يؤخِّر رأس المال شهرًا أو شهرين فكذلك هذا”(17).
  3. مراعاة أحكام الربا بين رأس مال السلم وهذا البديل؛ قالوا: فلو أسلم دراهم فضية في حيوان فأخذ عن ذلك الحيوان دنانير لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن يُسلم دراهم في دنانير، أما لو أخذ بدل الحيوان قمحًا فيجوز؛ لأنه يجوز إسلام الدراهم في القمح.

وبناءً عليه؛ فإنَّ تداول صكوك السلم بعد قفل باب الاكتتاب وتسليم حصيلتها للبائع سلمًا، وتوقيع عقد السلم معه وحتى تاريخ تصفية العملية وتوزيع حصيلة بيع بضاعة السلم بعد قبضها على حملة صكوك السلم، لا يكون صحيحًا إلا وفق الشروط التي بينها والتي وضعها أصحاب القول بالجواز.

(1) القوانين الفقهية (ص: 178).
(2) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (2/ 757).
(3)موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 925) رقم 2356/ 563 وأخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الكيل على البائع والمعطي (3/ 67) حديث رقم (2126) ومسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (3/ 1159) حديث رقم (1525).
(4) موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 926) حديث رقم 2357/ 564. وأخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (3/ 68) حديث رقم (2133) ومسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (3/ 1161) حديث رقم (1526).
(5) موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 926) حديث رقم 2358/ 565 وأخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، (3/ 1160) حديث رقم (1527).
(6) موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 926) حديث رقم 2359.
(7) ينظر: البيان والتحصيل (7/ 73).
(8) ينظر: الفروق للقرافي (3/ 280).
(9) أصول الفتيا (ص: 113).
(10) الإقالة: رفع عقد البيع وإزالتُه. التعريفات الفقهية (ص: 32)
(11) التولية: هي بيع المشترى بثمنه بلا فضل، التعريفات (ص: 71).
(12) مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 61).
(13) موطأ مالك (4/ 939- 941).
(14) المقدمات الممهدات (2/ 529).
(15) موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 895) حديث رقم 2296/ 547 وأخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع المزابنة، وهي بيع الثمر بالتمر، وبيع الزبيب بالكرم، وبيع العرايا (3/ 75) حديث رقم (2188) ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا (3/ 1169) حديث رقم (1539).
(16) موطأ مالك ت الأعظمي (4/ 895) حديث رقم 2296/ 547.
(17) المدونة (3/ 81).

Comments are disabled.