ضبط المعاملات المالية المعاصرة في ضوء العلل المحرمة “علة الـضرر”
بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل
تناولت في مقال سابق ضبط المعاملات المالية المعاصرة في ضوء علة الظلم، واتناول في هذا المقال علة الضرر، وبعض التطبيقات المعاصرة التي اشتملت عليه.
الضرر في اللغة: خلاف النفع، وأهم معانيه الضيق والمكروه والأذى، والنقص في الأموال والأنفس (1). أما الضرر الذي يحصل بسببه منع معاملة مالية:” فهو التعامل المالي الذي يترتب عليه إلحاق أحد العاقدين أذى بنفسه أو غيره على وجه لا نفع فيه يوازيه أو يزيد عليه”(2).
وأدلة منع الضرر في الشريعة كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 56/85]. وما جاء عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ“(3).
وهذا الحديث من أشهر أدلة تحريم الضرر، وجاءت كلمتي “ضرر وضرار” نكرتان في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي من ألفاظ العموم، أي لا فعل ضرر ولا ضرار بأحد في ديننا، ولا يجوز شرعًا لأحد أن يلحق بآخر ضررًا ولا ضرارًا، وأيضًا سيق بأسلوب نفي الجنس ليكون أبلغ في النهي والزجر، والضرر هو إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا، والضرار إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة له، لكن من غير تقييد بقيد الاعتداء بالمثل والانتصار للحق (4).
ويدخل في عموم هذا النهي التعاقد مع الآخرين بما فيه ضرر راجح. كما أنه سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المنافع ودرء المفاسد، ونص الحديث ينفي الضرر فيوجب منعه مطلقاً، ويشمل الضرر الخاص والعام، ويشمل كذلك دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية، ورفعه بعد الوقوع (5).
والمتأمل في جميع المناهي الشرعية يلحظ أنها ترجع لعلة واحدة وهي علة الضرر؛ لأن أوامر الشريعة جاءت لتحقيق مقصد رئيس وهو جلب المصالح والمنافع، كما أن المناهي جاءت لتحقيق مقصد رئيس، وهو درء المفاسد والمضارّ. ويدخل في هذه المناهي المعاملات المالية المحرمة؛ ولكن متى يكون الضرر مؤثرًا في التحريم؟ وإذا كانت علل التحريم الأخرى وهي” الربا والغرر والتغرير والظلم” داخلة في علة الضرر؛ فهل يوجد معاملات انفرد الضرر بها دون غيرها من العلل؟
يكون الضرر مؤثر في تحريم المعاملة المالية من خلال تحقق ضابطه (6) وهو: أن يكون الضرر راجحًا على ما يقابله من منفعة أو ضرر: إذ الشأن في أي ضرر أن يقابله ضرر آخر أو مصلحة؛ لأن الضرر المحض متعذر في الحياة الدنيا. وعليه فيشترط في الضرر المؤثر أن يكون راجحًا على الضرر أو المصلحة التي تقابله. وهذا الضابط عبر العلماء عنه بعدة قواعد؛ منها:” كل بيع فيه ضرر من غير نفع راجح؛ لا يجوز”(7).
وأن يكون هذا الضرر متحقق الحصول في الحال، أو يغلب على الظن حصوله في المستقبل: فليس أي تخوف من حصول ضرر ما يكون معتدًا به، بل لا بد أن يكون هذا الضرر واقعًا بالفعل، أو يغلب على الظن وقوعه في المستقبل، أما ما يتوهم حصوله؛ فلا اعتداد به؛ لأن الوهم لا يبنى عليه حكم في الشريعة؛ إذ من القواعد المقررة “أنه لا عبرة للتوهم”(8).
وعند التأمل في المناهي الشرعية المتعلقة بالمعاملات المالية يلاحظ أن جملة منها يرجع التحريم فيها لما فيها من ضرر راجح، سواء أكان دنيويًا أم أخريًا، ولاسيما الأعيان المحرمة؛ ومن أمثلة الضرر الدنيوي: بيع الدم المسفوح، والميتة، والخنزير والخمر، وآلات اللهو، والنجاسات التي لا نفع فيها. ومن أمثلة الضرر الأخروي: البيع بعد النداء الثاني، وبيع التمائم المحرمة والتماثيل، وبيع الأنصاب والأزلام (9).
ونهى الشارع عن الضرر: لأن منع الضرر من أهم مقاصد الشريعة؛ بل يؤول إلى المقصد الرئيس الذي تنطلق منه جميع التكاليف الشرعية وهو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة؛ لأن درء الضرر والمفسدة هو بحد ذاته جلب للمنفعة والمصلحة، وجلب المصالح هو مدار جميع الأحكام في الشريعة المحمدية؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
وأما عن المعاملات المالية المعاصرة التي اشتملت على الضرر: فبالنظر في المعاملات المالية المعاصرة فلا يكاد توجد معاملة بني التحريم فيها على علة الضرر فحسب” دون أن تشاركها في التحريم أحد العلل الأخرى؛ وهي الربا والغرر والتغرير والظلم”. فما من معاملة إلا وفيها علة تحريم أخرى تبين نوع الضرر؛” وهو الربا أو الغرر أو التغرير أو الظلم”. ولعل السبب في ذلك أن العقد الذي فيه ضرر له حالتان (10):
الحالة الأولى: أن يكون هناك دافع لإبرام العقد على الرغم من وجود الضرر؛ كأن يكون الضرر خافيًا على المتضرر عند إبرام العقد، كما في علتي الغرر والتغرير، أو يكون ظاهرًا ولكن يجد المتضرر أنه مضطر إلى تحمله كما في علتي الربا والظلم.
الحالة الثانية: ألَّا يكون هناك دافع لإبرام العقد؛ لأن الشأن في العاقل ألا يبرم عقدًا وهو يعلم أن ضرره راجحًا، ولو أبرم ذلك فرضا لقبوله به أو لكون الضرر الغالب ليس عليه وإنما على المجتمع فإن الشأن في أي تشريع ألا يقر هذا النوع من العقود. وهذا سبب عدم وجود معاملة محددة لها اسم اقتصادي معلوم مشتملة على ضرر راجح وظاهر.
وأما في الجانب المقابل: فإن التعاقد خارج دائرة القانون على الأشياء المضرة التي لبعض الناس مآرب غير مشروعة. كثيرة جدًا منها: –
تحريم التعاقد “بيعًا أو شراء أو تأسيسًا أو شراكة” على ما يضر بدين المسلمين أو أخلاقهم، أو التعاقد على مزاولة التلاعب والتغرير بالمستهلكين، والمتداولين في البورصات. وكذلك ما ثبت ضرره ببدن الإنسان كالمخدرات، والدخان ومشروب الطاقة المضر، والأدوية الممنوعة طبيًا، والأطعمة أو المشروبات الفاسدة، أو منتهية الصلاحية.
ونلخص من هذا المقال أن الشارع حرم الضرر، وأن الشريعة وضعت لجلب المصالح، ودفع المفاسد، كما أن جميع العلل المحرمة راجعة لعلة الضرر. وجواز المعاملة مشروط بخلوها من الضرر، وذلك كخطوة خامسة في تنقية المعاملات المالية من العلل المحرمة.
كما أن الحكم على المعاملة المالية بالجواز أو العدم، يجب أن تعرض المعاملة على هذه العلل واحد تلو الأخرى، للتأكد من خلوها من المحاذير الشرعية.
وبذلك أكون قد تناولت العلل الأساسية الكبرى للمعاملات المالية المحرمة “الربا، والغرر، والتغرير، والظلم، والضرر” بإيجاز شديد؛ لأن هذه العلل التفصيل فيها يحتاج إلى كتابات ولا تكفيها مجموعة مقالات.
(1) لسان العرب: لابن منظور: 4/483،482.
(2)العلل الأساسية المحرمة في المعاملات المالية: لخالد بن عبد العزيز آل سليمان، دار كنوز إشبيليا: 165.
(3)سنن ابن ماجة: 3/430 (2340) كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، الموطأ: للإمام مالك: 4/1078 (7258) كتاب الأقضية، القضاء في المرفق.
(4) شرح القواعد الفقهية: للشيخ أحمد الزرقا، وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا، مراجعة: عبد الستار أبو غدة، ط2 دار القلم، دمشق 1409هـ/1989م: 165.
(5) الفعل الضار والضمان فيه: لمصطفى الزرقا، ط1 دار القلم، دمشق 1409هـ/1988م:23.
(6) العلل الأساسية المحرمة في المعاملات المالية: لخالد بن عبد العزيز آل سليمان: 171،170.
(7) المعاملات المالية أصالة ومعاصرة: لدبيان بن محمد الدبيان، تقديم مجموعة من العلماء، ط2 ب. ن 1433هـ/2012م:4/402.
(8) المدخل الفقهي العام: للشيخ مصطفى الزرقا، ط2 دار القلم، دمشق 1425هـ/2004م: 2/987.
(9) العلل الأساسية المحرمة في المعاملات المالية: لخالد بن عبد العزيز آل سليمان: 172.
(10) المرجع السابق: 174،173.