ضبط المعاملات المالية المعاصرة في ضوء العلل المحرمة “علة الـتغرير”

بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل

تناولت في مقال سابق ضبط المعاملات المالية المعاصرة في ضوء علة الغرر، واتناول في هذا المقال علة التغرير، وبعض التطبيقات المعاصرة التي اشتملت عليه.
التغرير لغة: هو الخداع والاطماع بالباطل. وإيقاع الناس في الخطر (1). وفي الاصطلاح: يقصد به: إغراء أحد المتعاقدين أو غيره الآخر في المعقود عليه بخلاف الواقع؛ للدخول في العقد، بوسيلة قولية أو فعلية، لو علم به لامتنع من التعاقد عليه”، وهذا التعريف يشمل التغرير من قبل أحد المتعاقدين وغيرهما: كالوسيط، والدلال، والوكيل، والشركات الإعلانية، وشركات الوساطة المالية. والتغرير لدى الفقهاء المتقدمين هو الذي يطلق عليه التدليس في اصطلاح الفقهاء المعاصرين (2). وهو على ثلاثة أنوع: فعلي وقولي، ومحض الكتمان (3):
الأول: التغرير الفعلي: وهو الذي يتمثل في استعمال أحد المتعاقدين لوسائل احتيالية ذات طابع محسوس وملموس، وقيل هو مجموع الأفعال التي يقبل عليها البائع ليدفع بالمشتري إلى الاعتقاد بوجود أوصاف في المبيع والحال غير ذلك: كَصَبْغ الثوب القديم ليظهر أنه جديد وتصرية اللبن في الضرع.
الثاني: التغرير القولي: وهو الذي يعمد فيه أحد المتعاقدين إلى تمويه الحقيقة عن المتعاقد الآخر وذلك عن طريق الكذب أو إخفاء بعض البيانات التي كان من شأنها إنارة الطريق أمام هذا المتعاقد، وأكثر ما يتمثل فيه هذا النوع من التغرير هو عقود المرابحة، وعقود التولية.
الثالث: التغرير بمحض الكتمان: وهذه الصورة تعرف في الفقه بتدليس العيب، وكتمان العيب عمل سلبي وذلك بمجرد سكوت المتعاقد عن بيان ما يعرفه من عيب في السلعة وعدم تصريحه بالحقيقة للمتعاقد الآخر. ومثاله: ثوب به خرق غير ظاهر ويعلمه البائع، أو شخص أراد أن يشتري سيارة ظاهرها جديده، وفيها عيوب مخفية يعلمها صاحبها.
ويشترك التغرير مع مصطلحات أخرى: كالغش، والخيانة، والتناجش، وتدليس العيب، ويجمع كل هذه المصطلحات مصطلح الخِلابة وهي: حالة عامة من شوائب الإرادة العقدية لا تنحصر في صور ووسائل معينة بل كل وسيلة من وسائل التمويه على العاقد وإيهامه لحمله على التعاقد تدخل في الخلابة. لكن المهم أن تكون هي التي حملته على التعاقد (4).
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال ما الفرق بين الغرر والتغرير إذن؟ والجواب هناك ثمة فروق بينهما تجعلهما مختلفين، فالغرر يشترك مع التغرير في المعنى اللغوي الأصلي وهو النقصان، وفي الحكم التكليفي وهو التحريم، أما من جهة الماهية الاصطلاحية فبينهما فروق جوهرية؛ أهمها ما يأتي (5):
الفرق الأول: أن التغرير يحصل بتصرف متعمد من جهة أحد العاقدين بقصد التلبيس والتدليس على العاقد الآخر، أما الغرر فلا صنيع فيه لأي من العاقدين.
الفرق الثاني: أن نتيجة العقد الذي فيه غرر مجهولة عند العاقدين معًا، أما في التغرير فهي معلومة لدى المستفيد من التغرير، ومجهولة لدى المتضرر منه.
الفرق الثالث: أن الغرر أبلغ أثرًا في العقد من التغرير؛ إذ الحكم الوضعي لعقد الغرر “المستكمل لشروط الغرر” هو فساد العقد. بينما التغرير ولاسيما التغرير الفعلي يجعل للعاقد المغرور الخيار بين تعديل العقد على الوجه الذي يناسبه أو الفسخ.
وفي تحريمه أحاديث كثيرة كالنهي عن الغش والضرر والخداع، والعمدة في ذلك أن رجلًا كان يُغبن في المبايعات فقال النبي صلى الله عليه وسلم له:” إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا ‌خِلَابَةَ”(6). وفي رواية:” وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثًا”(7). والحديث تضمن فائدتين (8):
الأولى: تمنع في المبايعة كل خديعة وهي الخلابة وهي منع ثابت بحكم الشرع وإن لم يشترطه المتعاقد، وإنما ذكره للتنبيه والتحذير. ومقتضى هذا المنع ثبوت الخيار للمخدوع: فإن شاء أمضى العقد وإن شاء أبطله إذا ثبتت الخديعة وظاهر أن غير البيع نظير البيع في هذا الحكم، لأن الخديعة ممنوعة شرعاً في المعاملات بوجه عام، وفي جميع الأحوال. والمقصود من إيجاب هذا الخيار رفع الضرر الحاصل للعاقد من الخديعة.
الثانية: تنص على خيار التروي المسمى: خيار الشرط وهذا يحتاج إلى اشتراط لأن المقصود منه أن يأخذ العاقد المحتاج إلى التروي والمشورة فرصة كافية يتمكن بها من ذلك. وليس سببه أمراً ممنوعاً شرعاً كالخداع والغش وليس كل عاقد يحتاج إلى هذا التروي؛ فلذا لا يثبت هذا الخيار إلا لمن يشترطه من العاقدين.
وفي تحريم الشارع للتغرير منع للإفساد في الأرض؛ إذ لو جاز التحايل على أموال الناس بالتغرير والغش والتدليس والمخادعة وبخس الناس حقوقهم؛ لانتشرت السلع المغشوشة، وامتدت إلى مطاعم الناس ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم، وتعرضت حياتهم للخطر (9). كما أن منع العقود التي فيها تغرير فيه تحقيق للعدل، وحماية للأموال من أن تُؤكل بالباطل، وحفظ أموال المغرر به، ورفع الضرر الذي أخفي عنه وقت العقد.
وهل يمكن ضبط المعاملة التي اشتملت على التغرير من غيرها؟ فليس كل ما يدعى فيه التغرير مقبولاً، وموجبًا الخيار للمغرور، بل لا بد أن يتحقق ضابط التغرير المعتبر وهو أن يختلف الثمن لأجله (10) في نظر أهل الخبرة، وتتحقق جميع شروط خيار التغرير والتدليس للمغرور وهي (11):

  1. أن يكون العاقد جاهلًا بالتغرير، وغير عالم به.
  2. أن يصدر التغرير من أحد العاقدين أو من غيرهما ولكن بمواطأة من أحدهما.
  3. أن تكون الوسائل الاحتيالية مؤثرة في قرار العاقد.
  4. أن يكون التغرير أو العيب مخفيًا وغير ظاهر، ولا يتمكن العاقد من التوصل إليه بسهولة.

وأما عن الجانب التطبيقي فهناك معاملات مالية معاصرة كثيرة اشتملت على التغرير، وكان سببًا للقول بتحريمها؛ وسأقتصر على ذكر صورتين:
الصورة الأول: التغرير في الدعايات والإعلانات التجارية: الدعاية والإعلان فن ومهنة تكتسب بالتعلم والممارسة، ولكنها قد تخرج عن دائرة حسن العرض والتسويق إلى حيز التغرير والتدليس: إذا كان فيها إخفاء للحقائق، وإظهار للمعقود عليه على غير الوجه الصحيح، وصور ذلك كثيرة جدًا؛ منها (12):

  • أن يرفع الأسعار بشكل حاد لفترة وجيزة، ثم يعلن عن تخفيضات هائلة عليها، والواقع أنه أعادها إلى السعر الأصلي.
  • أن تكون عنده مواد غذائية أو صحية على وشك التلف بسبب انتهاء صلاحيتها فيعلن عن عرضها بسعر شديد التخفيض، دون أن يعلم المشتري بقرب انتهاء تاريخ الصلاحية.
  • أن يضع في الإعلان صورا لعينات من المنتجات على أنها مطابقة للواقع، على الرغم من أنه أجرى عليها تحسينات جوهرية ببرنامج (الفوتوشوب).
  • أن يذكر في الإعلان أن المنتج تم اختباره في مختبرات عالمية، وأثبت فاعليته، أو ينصح به الخبراء دون أن يذكر اسم هذه المختبرات وأولئك الخبراء، أو تذكر الأسماء ولكنها في الواقع لمختبرات وخبراء غير معتمدين أو وهميين.

الصورة الثاني: التغرير في المضاربات في البورصات الإلكترونية: وهذا النوع يعد من أخطر صور التغرير؛ لما تتسم به المعاملات الإلكترونية من السرعة والسهولة: بحيث تجذب عددًا هائلًا من الناس الذين يسهل التغرير بهم، وفي الجانب المقابل يصعب معرفة من يمارس هذا التغرير. وهذا النوع من التغرير له صور كثيرة؛ منها (13):

  • البيع الصوري: كأن يتوافق مضاربان، بحيث يبيع أحدهما على الآخر؛ لإيهام المتداولين بأن السهم يخبئ محفزًا كبيرًا، والأمر لا يعدو أن يكون بيعًا صوريًا بقصد التغرير فحسب.
  • العروض والطلبات الوهمية الكثيرة: التي يقوم بها مضارب السهم قبيل بدأ التداول؛ لإيهام المتداولين بأن هذه العروض من أشخاص كثيرين.
  • نشر الشائعات والأكاذيب: من خلال استغلال بعض الأحداث السياسية أو الاقتصادية للإرجاف والتخويف أو للإغراء والتحفيز المبالغ فيه. وتوظيف أناس متخصصين لهذه المهمة، ولاسيما في منتديات الأسهم.

وتعدُّ هذه الأساليب من التغرير والخداع أشد أنواع الجرائم ذكاءً وفهماً للمتغيرات الاقتصادية، وتأثيرًا بالمكسب والخسارة. خاصة أن الذي يرتكبها وينتهجها هم رجال الأعمال الذين يمتلكون من النفوذ والثروة ما يمكِّنهم من القيام بهذا الدور.
ونلخص من هذا المقال أن الشارع حرم التغرير بجميع صوره وأشكاله، وهناك ثمة فروق بين التغرير والغرر، كما يجب أن يلتزم المتعاملون بالصدق والأمانة، والبعد عن الخلابة بجميع صورها. كما أن جواز المعاملة مشروط بخلوها من التغرير، وذلك كخطوة ثالثة في تنقية المعاملات المالية من العلل المحرمة. وسوف اتناول علة أخرى من العلل الكبرى في مقال لاحق.

(1) لسان العرب: لابن منظور: 5/12، والقاموس المحيط: للفيروزآبادى: 449.
(2) التغرير في المضاربات في بورصة الأوراق المالية توصيفه وحكمه: لعبد الله السلمي، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي، مكة المكرمة 1432هـ/2010م:9.
(3) اختلاف الرأي حول الغبن والتغرير ومدى اعتبارهما عيباً في التراضي: دراسة مقارنة بين قواعد القانون الوضعي ومقتضيات الفقه الإسلامي: لعبد القادر العرعاري، الرابطة المحمدية للعلماء ع5، 1415هـ/ فبراير 1995م: 192، التغرير وأثره في العقود: لكفاح عبد الله الصوري، ط1 دار الفكر، عمان 1428هـ/2007م: 132.
(4) المدخل الفقهي العام: لمصطفى الزرقا: ط2 دار القلم، دمشق 1425هـ/2004م: 1/460.
(5) التغرير وأثره في العقود: لكفاح عبد الله الصوري: 58، العلل الأساسية للمعاملات المالية المحرمة: لخالد بن عبد العزيز آل سليمان، دار كنوز إشبيليا: 124.
(6) صحيح البخاري: 3/65 (2117) كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، وصحيح مسلم: 3/1165 (1533) كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع.
(7) التلخيص الحبير: لابن حجر العسقلاني، ط1 دار الكتب العلمية، بيروت 1419هـ/ 1989م: 3/53.
(8) المدخل الفقهي العام: لمصطفى الزرقا: 1/460.
(9) انظر: الطرق الحكمية: لابن القيم، ب. ط، ب. ت، مكتبة دار البيان: 202.
(10) المغني: لابن قدامة: 6/223.
(11) التغرير وأثره في العقود: لكفاح عبد الله الصوري: 159 وما بعدها.
(12) العلل الأساسية للمعاملات المالية المحرمة: لخالد بن عبد العزيز آل سليمان: 135.
(13) التغرير في المضاربات في بورصة الأوراق المالية توصيفه وحكمه: لعبد الله السلمي:21، أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة: لمبارك آل سليمان، ط1 دار كنوز إشبيليا، الرياض 1426هـ/2005م: 683.

Comments are disabled.