ضوابط الغرر الـمُفسِدٌ للعقود
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
حصر العلماء والباحثون ضوابط الغرر المفسد للعقد في أربعة هي:
1. أن يكون الغرر في عقد معاوضة مالية أو ما في معناها
فلا يوجد خلاف بين المذاهب الفقهية في اعتبار تأثير الغرر على عقود المعاوضات المالية وما في معناها على النحو الذي ثبت بالنص في عقود البيع، وما أُلحِق بها من عقود المعاوضات المالية؛ لاشتراكهم في العلة وهي مظنة العداوة والبغضاء والتنازع، وأكل أموال الناس بالباطل الذي شَدَّد الله فيه بالوعيد، وكل عقد من المعاوضات تحقَّق فيه هذا المعنى أُلْحِق بعقد البيع في منع الغرر، وقلنا: إن الغرر يؤثِّر في هذه العقود كما يؤثر في عقد البيع، ومنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها(1).
ولكنهم قد يختلفون في بعض التفاصيل الراجعة إلى تقدير الضرورة الداعية إلى التسامح والتجاوز عنه عادةً، أو عن بعضه في بعض العقود؛ لأن القاعدة العامة في الفقه الإسلامي تقول: إن الغرر يؤثِّر في سائر عقود المعاوضات المالية، قياسًا على عقد البيع الذي ورد النص بتأثير الغرر فيه.
أما سائر العقود الأخرى فلا يتحقَّق فيها المعنى الذي من أجله مُنِع الغرر في عقود المعاوضات المالية، وإن وُجِد فيها أدى إلى بطلانها وفسادها، ومن هذه العقود: التبرعات بجميع أنواعها.
وقد فرَّق مالك بين عقود المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما لا يقصد به تنمية المال، فمنع وقوعه في الأول، وجَوَّز وقوعه في الثاني؛ لأن هذا النوع إذا فات على من أُحْسِن إليه بها فلا ضرر عليه، فإنه لَمْ يبذُل شيئًا، فاقتضت حكمة الشرع وحثُّه على الإحسان التوسعةَ فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعًا وفي المنع من ذلك وسيلةٌ إلى تقليله، وتوسيع التبرعات والتكثير منها هو من المقاصد المنظور إليها في الشريعة بعين الاعتبار.
ومثل عقود التبرعات في عدم تأثير الغرر عليها: عقود المعاوضات غير المالية؛ كالزواج والخلع، فالمال في هذه العقود ليس هو المقصود منها، ولذلك إذا كان في المهر أو في بدل الخلع غررٌ فينبغي ألا يؤثر عليه.
2. أن يكون الغرر كثيرًا.
لقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن الغرر الكثير أن المعتبر من الغرر في العقود هو الكثير الذي يغلب عليها حتى توصف به، وقد ذكر الباجي في شرح نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر أنه ما كثُر فيه الغرر وغلب حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، ويرى أن هذا النوع هو الذي لا خلاف في المنع منه(2)، وقال ابن رشد الجد: “وبيع الغرر: هو البيع الذي يكثر فيه الغرر ويغلب عليه حتى يوصف به، لأن الشيء إذا كان مترددا بين معنيين لا يوصف بأحدهما دون الآخر إلا أن يكون أخص يه وأغلب عليه(3).
وقد أجمع أهل العلم على أن الغرر إذا كان يوصف بالكثرة في العقد فإنه يؤثِّر فيه ويفسده، أما إذا كان يسيرًا فلا تأثير له مطلقًا وهو مغتفرٌ في الشريعة.
وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود؛ لاختلافهم فيما فيها من الغرر، هل هو في حيِّز الكثير الذي يمنع الصحة، أو في حيِّز القليل الذي لا يمنعها؟
وعلى هذا الأصل انبنت مسألة بيع السلعة الغائبة على الصفة، فذهب مالك وأصحابه إلى أن هذا النوع من التعامُل خارجٌ عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر.
وذهب الشافعي إلى خلاف ذلك، وقال: بعدم جوازه معلِّلًا ذلك بأن البيع على الصفة لا عينٌ مرئيةٌ ولا صفةٌ مضمونةٌ ثابتةٌ في الذمة، فهو داخل في بيوع الغرر المنهي عنها.
3. أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة.
إذا كان الغرر في المعقود عليه أصالةً فإنه يفسد العقد مثل بيع الثمر قبل بدو صلاحه، دون بيع الأصل أي: الشجر، ودون شرط القطع، أما إذا كان الغرر في التابع للمعقود عليه أصالةً فلا يؤثِّر؛ لأن القاعدة في هذا الباب هي: “يُغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها”(4).
قال ابن ناصر السعدي: “إن المسائل والصور التابعة لغيرها يشملها حكم متبوعها، فلا تُفرَد بحكمٍ، فلو أُفرِدت بحكمٍ لثبت لها حكم آخر، وهذا هو الـمُوجِب لكون كثير من التوابع تخالف غيرها، فيقال فيها: إنها ثابتة على وجه التبع”(5).
ومن أمثلته: بيع الشجر مع الثمر قبل بدو صلاحه، فإن ذلك جائز لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الـمُبْتَاعُ»(6)، وهذا معناه أن المشتري للنخلة المؤبَّرة إذا اشترط على البائع أن تكون الثمرة له، وقَبِل البائع ذلك الشرط ورضي به فإن البيع يكون جائزًا، ولو كانت الثمر مما لم يبدُ صلاحُه، فهذا الغرر يكون مغتفرًا؛ لأنه لم يلحق الأصل وإنما كان في التابع فلم يلتفت إليه، قال ابن قدامة معلِّلًا هذا الحكم: (لأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعًا في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها)(7).
ومنها: بيع ما لم يُوجد من الزرع مع ما وجد منه، إذا كان الزرع مما تتلاحق أبعاضه في الوجود؛ كالقثّاء والخيار مثلًا، وقد أجاز هذا البيع المالكيةُ، وكان أبو بكر محمد بن فضل البخاري من الحنفية يقول: (اجعل الموجود أصلًا في العقد، وما يحدث بعد ذلك تبعًا) (8).
ومن أمثلته كذلك: بيع الحمل مع الشاة، أو بيع اللبن الذي في الضرع مع الشاة.
ومنها: أنه لا يجوز بيع المجهولات التي لم تُوصَف ولم يرها المشتري، لكنها إذا كانت تابعة لغيرها جاز ذلك كأساسات الحيطان إذا بيعت الدار تبعًا لبيع الدار المعلومة.
ومن هذا القبيل ما قاله بعض فقهاء الحنفية: من جواز بيع ما يكمن في الأرض، إذا كان الموجود منه أكثر من المعدوم؛ لأن المعدوم يكون تابعًا للموجود، وكذا ما قاله بعض فقهاء الحنابلة: من جوازه أيضا إذا كان المقصود منه ظاهرًا؛ لأن الكامن يكون تابعًا فلا تضر جهالته.
4. ألا يكون العقد المشتمل على الغرر مما تدعو إليه الحاجة المعتبرة شرعًا.
والحاجة المقصودة هي: أن يصل المرء فيها إلى حالة ما إذا لم يتناول فيها الممنوع يكون في حرجٍ وجهدٍ ومشقةٍ، ولكنه لا يهلك، سواءٌ كانت الحاجة عامةً أو خاصةً.
وقد نظر الشارع الحكيم إلى هذه الحاجة، والحرج الواقع بسببها على المكلفين، فعَمَد إليه ورفعه بإباحة ما يزيله من الأعمال والتصرفات وإن كانت أصولها تقتضي المنع.
ويدخل في هذا الباب كلُّ ما حُمِل من التصرّفات على الجواز مع اقتضاء أصلها الكلّي المنع مطلقًا دون التوقّف على عذرٍ؛ وذلك تخفيفاً وتسهيلاً على المكلّفين ورفعاً للحرج عنهم, فيما تقتضيه حوائجهم في الأحوال العادية, ويطلق الأصوليون على هذا النوع (المشروع على خلاف القياس), ومثال هذا: السلم, الذي استثني من بيع ما ليس عند الإنسان الذي ورد فيه النهي “نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان”(9).
ومن هذا القبيل أيضًا المثال الذي ساقه المازري فقال: “قد علم أن الشرع ورد بالنهي عن المزابنة, وعن بيع التمر بالرطب, وقد حصل في شراء العرية هذا المعنى, وهو بيع التمر بالرطب الذي في معنى المزابنة وفيه أيضاً التفاضل, والتفاضل في التمر قد حرّمه الشرع, ونبّه على علّة منع الرطب بالتمر بقوله: “أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذا يَبِسَ؟، قالُوا: نَعَمْ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا إِذًا”(10), وعُلِم أيضاً أن بيع الطعام بالطعام نسيئة لا يحل, وقد حصل هنا هذا الممنوع؛ لأنّه يستلم الرطب, ويدفع عوضه تمراً يابساً عند الجذاذ, فهذه وجوه من التحريم تُصوِّرت في شراء العرية, ومع هذا أرخص الشرع فيها لمعنى أخرجها عن أصولها”.
ولكن حتى تؤثِّر الحاجة آثارها في تغيير الأحكام حال الاضطرار والاحتياج سواء كانت خاصةً أو عامةً؛ لا بد أن تكون متعيِّنة في ذلك العقد أو تلك الصورة من التعامل حصرًا, ولا يمكن سدُّها وتحقيقها بصورةٍ أخرى مشروعةٍ, أو ذات غررٍ يسيرٍ معفوٍّ عنه في الشريعة, وإذا تعذَّر ذلك من كل وجهٍ مشروعٍ عندها يُصار إلى ما تتطلَّبه الحاجة من الحكم مع تقديرها بقدرها، ولا يُتوسَّع فيها خارج المطلوب الذي أبيحت لأجله، وجاء في “المعايير الشرعية” فيما يتعلق بالحاجة المبيحة للغرر الكثير ما نصه: (ويُشترط في الحاجة أن تكون متعيِّنة، بأن تنسدَّ جميع الطرق المشروعة الـمُوصلة إلى الغرض، سوى العقد المشتمل على غررٍ كثير، مثل التأمين التجاري عند عدم وجود التكافلي) (11).
(1) أخرج البخاري، كتاب الزكاة، باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، أو زرعه، وقد وجب فيه العشر أو الصدقة، فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة (2/ 127) حديث رقم (1486) ومسلم، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع (3/ 1165) (1534)حديث رقم من حديث ابن عمر.
(2) المنتقى شرح الموطإ (5/ 41).
(3) المقدمات الممهدات، لابن رشد (2/ 71).
(4) ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 120) والأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 103).
(5) ينظر: مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية، صالح الأسمري (ص: 90).
(6) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب من باع نخلا قد أبرت، أو أرضا مزروعة أو بإجارة (3/ 78) حديث رقم (2204) ومسلم، كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر (3/ 1172) حديث رقم (1543).
(7) المغني لابن قدامة (4/ 63).
(8) نشر العرف لابن عابدين، ط اسطانبول (ص: 140).
(9) أخرجه أحمد في المسند (24/32) مسند حكيم بن حزام ورقمه: (15316)، والنسائي في السنن الكبرى (6/60) في كتاب: البيوع، باب: بيع ما ليس عند البائع ورقمه: (6163) وابن حبان في صحيحه (11/358)، كتاب البيوع، باب: البيوع المنهي عنها ورقمه: (4983).
(10) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في التمر بالتمر (3/ 251) حديث رقم (3359) والترمذي أبواب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة، والمزابنة (3/ 520) حديث رقم (1225) وقال: حسن صحيح.
(11) المعايير الشرعية ص: 783.