طرق التكسُّب في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
للتكسُّب ثلاثة طرق رئيسية هي: الزراعة، والتجارة، والصناعة، وقد تحدَّث عنها المارودي فقال: “فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية بذواتها. وهي شيئان: نبتٌ نامٍ وحيوانٌ متناسلٌ … وأما المكسبُ فيكون بالأفعال الموَصِّلة إلى المادة والتصرف المؤدي إلى الحاجة. وذلك من وجهين: أحدهما: تقلُّب في تجارة. والثاني: تصرُّف في صناعة. وهذان هما فرعٌ لوجهي المادة، فصارت أسباب المواد المألوفة، وجهات المكاسب المعروفة، من أربعة أوجه: نماءُ زراعةٍ، ونتاجُ حيوانٍ، وربحُ تجارةٍ، وكسبُ صناعةٍ“(1).
وسأحاول التعرض لها بإيجاز:
أ – الزراعة: هي مادة أهل الحضر وسكان الأمصار والمدن، فيها يستسلم المرء لقضاء الله بعد أن يتَّخذ الأسباب اللازمة لذلك بعمله، كما أن ما يخرج منها من المال هو أبعد ما يكون عن الشبهة، والاستمداد بها أعم نفعًا، وأوفى فرعًا، ولذلك ضرب الله تعالى بها المثل فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وقال الشيخ يحيى بن يحيى الأزجي الحنبلي – رحمه الله – : “اختلف الناس في أطيب الاكتساب فقال قوم الزراعة، وهو الأشبه عندي؛ لما فيه من الاستسلام لقضاء الله والتوكل عليه وهو خارج من بركة الأرض فهو أبعد من الشبهة”(2).
وقد تحدَّث صلى الله عليه وسلم عن فضل الزراعة، وما يحصل لصاحبها من أجرٍ بسبب عمله فيها فقال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»(3).
وقد حثَّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين على العمل في الزراعة وطلب الرزق فيها فقال: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ»(4)، ويعني الزرع.
وقال بعض السلف: “خيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ خَرَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ تَسْهَرُ إذَا نِمْتَ، وَتَشْهَدُ إذَا غِبْتَ، وَتَكُونُ عُقْبًا إذَا مِتَّ”(5).
ب – التجارة: إن فضل التجارة لا يخفى على أحد، إذ بفضلها تُتداول مواد الزراعة والصناعة، وبها يرزق الله الناس بعضهم من بعض، فيحصلون على ما هم في حاجة إليه، ويقتنون ما يرغبون فيه، ويفوِّتون ما هو فضل عن حاجتهم إلى غيرهم، فتروج السلع والمواد، وتنشط الأسواق، وتنمو الأموال، وتتكوَّن الثروة، فيحصل الثراء الذي تضمن الأمة به أمنها واستقرارها وعزتها؛ ولهذا فإن الله تعالى قد قرن بين الجهاد والتجارة في آية واحدة حيث قال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
وامتثالاً لهذه الآية قال ابن عمر رضي الله عنهما: “مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً أُمُوتُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي، أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ“(6).
وقد أذن الله للمؤمنين أن يجمعوا بين العبادة والتجارة في الحج ردًّا على المشركين الذين كانوا يقولون: يمنع ذلك فيه فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وسئل إبراهيم النخعي عن رجل يترك التجارة ويُقبل على الصلاة، ورَجُلٍ يشتغل بالتجارة أيهما أفضل؟ فقال: “التَّاجِرُ الْأَمِينُ“(7).
وقد نهتِ الشريعة عن أكل أموال الناس بالباطل، وأرشدت من أراد الوصول إلى ما في أيدي الناس إلى سلوك سبيل التجارة، التي أُسِّست على التفاهُم والتراضي بين الناس، حيث قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحثُّ أصحابَه على التجارة فيقول: “عليكم بالتِّجارة لا تفتِنْكم هذه الحمراء على دنياكم“(8)، وكان صلى الله عليه وسلم يعدُّها من أطيب ما يكسبه المرء من أمواله، حيث كان يقول عندما يسأل عن أطيب الكسب: “عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ“(9).
ج – الصناعة: لقد ذهب بعض العلماء إلى أن أطيب التكسُّب ما جاء من الصناعة؛ لأن الإنسان يباشر العمل فيها بكدِّ يده، ولا يشكُّ أحدٌ في أن الصناعة من أعظم الوسائل وأرقاها مرتبة في استغلال خامات الأرض، ومعادنها، ومادتها الزراعية والحيوانية، وبها تحصل عمارة الأسواق بالسلع والمصنوعات المختلفة، وتتوسَّع مسالك العيش والثراء على الأفراد، فيحيوا في كرامة ونعيم، وتكون الأمة على قرار من الأمن مكين.
وقد جعل الله الصناعة وسيلة لنوح عليه السلام حتى يتمكَّن من خوض البحر هو ومن معه، حيث قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 27] ، كما كانت الصناعة الطريقة المفضَّلة التي اتَّبعها ذو القرنين في بناء السدِّ الذي سد به طريق يأجوج ومأجوج، حيث قال تعالى على لسان ذي القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 96- 98].
وبفضل الصناعة الـمُحكَمةِ الإتقانِ التي مكَّن الله سليمانَ منها؛ كان صرحُه الممرَّدُ من القوارير يظهر لملكة سبأ كأنه لُـجَّةٌ، مما حملها على الفزع والظن أنه قصد بها الغرق، وأثار تعجبَّها من كون كرسي سليمان على الماء، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44].
والصناعة أنواع منها: صناعة فكر، وصناعة عمل، وصناعة مشتركة بين الفكر والعمل.
ولئن أجاز الإسلام اكتساب المال بغير هذه الطرق؛ فإنما أجازه في الغالب في حالات مخصوصةٍ، وفي كل حالةٍ لحكمةٍ خاصّة بها، فأجاز الإعطاء من أجل الحاجة في النفقات والصدقات، وأجاز الإعطاء من أجل العمل، والإعمار، كما في إقطاع الإمام للأرض الموات، وأجاز الإعطاء في حالات التعويض عن الخسائر التي يُصاب بها المعطى، أو بدلًا عن النفع الذي يسبِّبه للغير، وأجاز الإعطاء صلةً للرَّحم، ومساعدةً للمحتاجين، وتوثيقًا للصلات الاجتماعية في الهبات والوصايا، وأجاز امتلاك المال بالميراث؛ لأن الوارث امتدادٌ للمورِّث يمتُّ إليه بصلة القرابة، وكذا كلُّ ما اندَرَج في هذا العقد المنظوم من جهة الشريعة.
والله الموفِّق لما فيه الخير والصواب وهو الرزاق ذو القوة المتين.
(1) أدب الدنيا والدين (ص: 210).
(2) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 294).
(3) أخرجه البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (3/ 103) حديث رقم (2320) ومسلم، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (3/ 1188) حديث رقم (1552).
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 274) حديث رقم (895) والحديث له متابع صحيح في تاريخ أصبهان (2/ 213) وانظر: المداوي لعلل الجامع الصغير، للغماري (1/ 604).
(5) أدب الدنيا والدين (ص: 211).
(6) تفسير القرطبي (19/ 56) وتفسير الثعلبي (27/ 529).
(7) الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 269).
(8) التراتيب الإدارية (2/ 18) وقال أشهب: كانت قريش تتجر وكانت العرب تحقر التجارة، والحمراء يعني الموالي.
(9) أخرجه أحمد في المسند (25/ 157) حديث رقم (15836) والحاكم في المستدرك في ثلاث روايات برقم (2158) و(2159) و(2160) وصححه.